ثمة الكثير من التساؤلات، التي لا مناص من استحضارها، كلما راودتنا فكرة التردد على مقامات إبداعية أو فكرية، ممهورة بإشكالاتها المعرفية، من ذلك مثلا، تكريس الظاهرة التجزيئية لمقاربة النصوص الكونية، على ضوء انحيازها إلى مكون معين من مكوناته المتعددة، وهو أحد الانتهاكات النظرية الفادحة، التي تؤدي باختزاليتها، إلى إحداث تشويه فظيع في البنية الدلالية لهذه النصوص، التي تفقد هويتها بفعل قراءتها على أرضية المكون الجزئي الذي تم انتقاؤه سلفا، بفعل هيمنة خلفية نظرية وحضارية منحازة وإقصائية. من المؤكد أن ثمة حالات جد استثنائية، يتميز فيها هذا الجزء المحتفى به، بحضوره القوي والمهيمن، في بلورة خصوصية النص، وهو استثناء، لا ينسينا مأساوية إضرام نار العمى، في أهم مفاصله، على حساب تبئير إحدى بياضاته، التي لا تعِدُ بأي إشارة دلالية، جديرة بالمساءلة. لأن الأمر هنا، يتعلق بالصيغة التي يعتمدها، مصدرٌ ما، من مصادر التنميط، في ترسيخ ما يتم الإلحاحُ على ترسيخه، وهذا الاعتمادُ، يكون منسجما مع المقصديات المستبدة باهتمامات ذهنية ما، وأيضا مع مرجعيات الزاد المعرفي، الذي يمتلكها المصدر، التي غالبا ما تكون خاضعة لتوجهات فكرية معينة، كما يكون مقترنا بطبيعة الخطابات الثقافية السائدة والمتداولة.
إن الاستسلام للسلطة المهيمنة المنحازة، قد يكون إلى حد ما طبيعيا ومقبولا، حينما يتعلق الأمر بالاستجابة الآلية لملحاحية الاستهلاك اليومي، التي يتعذر فيها الحد من سلطةِ بُعدٍ نمطِيٍّ، لا يراعي في عملية اكتساحه للإطار المشهدي منطقَ ومبدأ التعدد الهوياتي، بمختلف مشاربه الثقافية والفكرية، مؤكدا بذلك قدرتَه على ممارسة كل أشكال الغواية والاستدراج، التي تسمح له باحتلال المواقع الأكثر حساسية، والأكثر تأثيرا في المرئيِّ وفي الملاحَظِ، مهما كانت هذه المواقع مؤثثة بعنف تناقضاتها وتضاداتها. لكن حينما يتعلق الأمر بالأسئلة المفصلية المتعلقة بإيقاعات الوجود في علاقتها بإيقاعات الكائن، فإننا سنكون بحاجة ماسة إلى التدقيق في صيغة البحث والاختيار، ومراجعة آلية اشتغال العقل، التي ليس لها أن تقع في كمائن اللعبة التجزيئية، حيث تتسرب عبرها رياح النمطي، كي تعبث على طريقتها النزقة والمغرضة، بمكونات المشهد، مُجْهِزةً بذلك على حركية تفاصيله، التي يستمد من تنوعها وتفاعلها المتبادل خصوصيته. إن صيغة البحث المعنية هنا، هي ترجمة لخصوصية العقل الذاتية المنفلتة من رهبوت التنميط، المعممة من قِبل العقل المركزي. وهي خصوصية تستجيب لمختلف أنواع الرجات الطبيعية والتلقائية، المؤثرة في أجساد النصوص.. وهي استجابة يسهر العقل الكلي، على تنشيطها، انسجاما مع تعددية اختصاصاته واهتماماته العملية والتقنية، ومن موقع عدم خضوعه لصيغة ثابتة، من صيغ التساؤل والبحث والتفكير، بما يعني حتمية تباين آلية اشتغاله من أرض لأخرى، حيث لا مجال للمفاضلة بين مسار عبقرية حضارية، منذورة لقراءة الكون على ضوء المعادلات الوظيفية والجمالية، التي تفصح عنها الهندسة المعمارية على سبيل المثال، وبين عبقريةٍ تُقاربُ إشكالياتِ هذا الكون، على ضوء ما تبوح به الحروف، بصرف النظر عن طبيعة هذا البوح، الذي يمكن أن يكون فلسفيا أو شعريا.
إنها الحلقة المفقودة في التفكير الكوني، وفقدانها ناتج عن هذا البعد الانتقائي، التجزيئي والابتساري في فهم آلية اشتغال العقل، والمؤدي إلى تهميش أكثر من ممارسة فكرية، وأكثر من خصوصية حضارية. طبعا، إن العبرة تكمن في التحديث المضاعف لآلية البحث، وفي ضرورة توفر قوة الإنصات، التي تضع حدا لسلطة المفاضلة، القائمة بين منجز حضاري وآخر على خلقية إسقاطات إثنية أو عقدية، حيث سيكون بإمكاننا ومن هذا المنطلق تحديدا، إعادة قراءة كتاب الكون، بالاستفادة من النصوص الشعرية الكونية بقديمها وحديثها، والمتضمنة حتما للكثير من الأسئلة والأجوبة، التي ظلت عالقة في الخطابات العلمية والفلسفية، ما تقتضي مقاربتها خارج كل من القوانين التقليدية، والحداثية التي تعودنا على اعتمادها في تأويل جوهر الشعر، تأويلا يحصر دلالته في إطار المتعة التي تغنمها الروح، والأحاسيس، كلحظة جمالية مؤقتة وعابرة، من دون أن يعول عليها بالضرورة في الاقتراب من أسئلة الوجود، في حين يعتبر الشعر، وبفعل ما يمتلكه من طاقات مجازية أحد الجسور الخلاقة، التي يمكن أن تقودنا إلى حقائق، يعجز الكثير من المعارف المتميز بتقنيته ودقته الفائقة عن إدراكها.
وهو ما يؤلب شكوكنا على مصداقية لعبة المقارنة، التي تبدو لنا مبطنة بهاجس إقصائي، يهدف إلى تعميق الوعي بأهمية، ومركزية منجز ثقافي وحضاري ما، على حساب تهميش وتقزيم منجز مواز أو محايث، لا يلبث أن يتحول إلى هدف سهل، سيظل بالقوة والفعل مطاردا بدونيته لأزمنة ثقافية وحضارية جد طويلة.
وكاستدراك لابد منه، نشير إلى أن الأهمية التي تتميز بها القراءة البلاغية والجمالية للشعر، خاصة العربي منه، والمنصبة أساسا على خواصه الانفعالية، تصبح محط تساؤل، مشوب بغير قليل من سوء الظن النقدي، خاصة حينما تجنح هذه القراءة، إلى إغفال/إجهاض ما يمتلكه الشعر من عمق فكري، وما يتفاعل فيه مجازيا من إشكالات معرفية وفلسفية، كي يظل بالتالي، ووفق مواقف مبيتة ومسبقة، مراوحا لوظيفة تأجيج العواطف، وإلهاب المشاعر. علما بأن الشعر المشار إليه في هذا السياق، يخص ظاهرة الشعرية التحريضية، بالنظر لاقترانها بالتصعيد الانفعالي، الذي يمكن رصد امتداداته في قلب الحراك الجماهيري الكبير، حيث يحدث أن تؤول خلفيات احتدامه، بالتأثير المباشر الذي تحدثه قصائد تعود لشعراء، دأب النقد السائد على إدراجهم ضمن حلقة الثوار والمناضلين.. وهي حلقة يُجرَّدُ فيها الشعر من خصوصيته الفكرية، والتأملية، كي يقترن بفعل حالة الغضب التي يظل دائما، ومن وجهة نظر أكثر من سلطة إدارية وثقافية، مثار شبهة وريبة، ولصيقا بحالة الشغب والفوضى، حتى في أقصى حدوده الطبيعية والمنطقية، التي يمكن أن يجد فيها تبريره الموضوعي.
ومن وجهةِ نظرِنا المؤسسةِ على قناعاتها النظرية، فإن الشعر من هذا المنطلق، لا يفقد أبعاده الجمالية فقط، بل إنه وفضلا عن ذلك، يفقد أبعاده الفكرية، متحولا إلى حقنة خيميائية، يساهم في ترويجها تجار الأوهام، على ذوي العقول الصغيرة، المتمترسين في واجهات الفضاءات الثقافية. وهو ما يمكن ملامسته في ظاهرة السطو على ثورات الشعوب، من قِبل أبياتٍ، تفتقر في الواقع إلى الحد الأدنى من الحضور الشعري، على خلفية ادعائها وتقمصها، للشرارة المقدسة، التي أدت إلى تفجير هذه الثورات، موظفة كافة السبل، التي تمكنها من حظوة التأقلم داخل البنية الدلالية لمدارات الغضب. ومن المؤكد أن مثل هذه السرقات الموصوفة لأحلام الشعوب، هي التي أدت بنظريات الحداثة، إلى طردها المُذِلِّ لسلطة المضامين، ومعها سلطة المعنى، من رحاب القول الشعري.
نخلص من هذه المقاربة، إلى أن الكتابة الشعرية، شأنها شأن كل كتابة فلسفية وفكرية، تمنحنا الحق في أكثر من حياة، وفي أكثر من موت. إنها تلقننا فعل الاختفاء من هنا، وعن أنظار «الهُنا»، كي تظهر خلسة أمام أنظار «الهُناك»، ودون سابق إنذار. إنها تمنح وجودنا بعدا آخر، ربما هو البعد الذي يبخل به الوجود علينا. بمعنى أنها تحررنا من سلطة المكان والزمان والجاهز، من الأحكام والمفاهيم، كي تورطنا في أقدار جديدة، ومغايرة لم تخطر على بال القراءة. إنها وبفتنة خدعها العميقة، الشبيهة بخدع الساحر الحكيم، تحرض العقل على ذاته، كي يغادر منطقة «تعذُّر الفهم»، ومنطقة «ما تعودنا على رؤيته»، متعمدة بذلك إصابة التلقي بتلك الصدمة العنيفة، التي تختبر قدرته على محو ما كتَب، وإعادة بناء ما انهدم.
إذن وتبعا لذلك، ليس لنا سوى أن نذكرك أنت تحديدا، بانعدام أي رؤية نهائية لدلالات ما يتتالى أمامك من مرايا ذهنية. إن رؤيتك لن تسكن إلى دورتها الأخيرة، إلا بعد غروبك الكلي عن حيث أنت، أي بعد غروب المكتوب، وخروجك من دائرة العلم. فمادام النص حاضرا في قلب المكتوب، فالرؤية النهائية تظل غائبة. ولا تظل هناك سوى الرؤية العابرة، علما بأن العابر لا يعني بالضرورة الهشاشة والضمور، لأنه يمتلك مصداقية حضوره في قلب اللحظة التي تمكنت هي أيضا، من إثبات ذاتها أمام الشيء، بما هي عبور عابر، وتوقيت مؤقت، حيث تكون معنية باستنفاد شحناتها التعرفية، وتمثلاتها للمرئي، كي تستعيد سيرها المتقطع خارج أقواس كل تعاقدات، مؤسسة على خدعة المقارنات، التي لن ترقى أبدا إلى خدع الساحر الحكيم.
٭ شاعر وكاتب من المغرب
رشيد المومني