في تناولنا «ألاقي زيّك فين يا علي»، عمل لينا أبيض المونودرامي الذي كتبت نصّه وأدّته رائدة طه، وهي ابنة شهيدٍ فتْحاويّ سقط سنة 1972 عند اقتحام طائرة كان قد اختطفها إلى مطار اللدّ، وقعنا على نوع من اللعب لا ينتقص من الفجيعة أبداً. وإنما هو أداءٌ لأدوارٍ يستولي أداؤها على حياة رائدة وأمّها وشقيقاتها: أدوار أملاها عليهن استشهاد رأس العائلة واستواؤهنّ عائلة لشهيد…
هذا الحضور للَعبٍ في صلب الفجيعة يظَهِّر شيئاً أصيلاً في حال البشر كان فلاسفة الوجود، على الأخصّ، قد توقّفوا عنده مليّاً. وهو أن الآدمي لا يماثل نفسه أبداً كما يماثل الحجَرُ نفسه. بل هو يبقى مصدوعاً يحزن أو يفرح، مثلاً، وينظر إلى نفسه وهو يحزن أو يفرح. فيلابس الجدُّ اللعبَ في حالته ويمضي في أحواله واحداً ومزدوجاً في آن. والواقع أن رائدة طه إنّما تتنزّه في أدائها بين شِعاب هذا الصدع الذي يشطرها بما هي «ابنة الشهيد» بين مزدوجتين، من جهة، وابنة علي طه، بلا مزدوجتين من الجهة الأخرى. فهاتان صفتان تكادان أن تكونا نفسين لشخصٍ يلبثُ واحداً. في هذا التنزّه الصعب بين النفس والنفس وفي مسرحته تكمن روعة الإخراج وروعة الأداء اللذين تمكنت منهما لينا أبيض ورائدة طه.
وذاك أن رائدة لا تفلح في التنَزُّل عن والدها لصالح الشهيد الذي أصبَحَه ولا هي تريد ذلك. والحال نفسها حال فتحية والدتها وحال سهيلة عمّتها الرائعة. ذاك تنزّلٌ مُحالٌ في حالة هذا العليّ الذي يصحّ فيه السؤال: «ألاقي زيك فين يا علي؟». من إشارات متفرّقة نعلم كم كان مبدعاً في الأبوّة هذا الأب الذي يقول لابنته أن «العصفورة» حكت له شيئاً عنها وحين تردّ عليه منكرةً أن تكون العصفورة تحكي يأتيها في اليوم التالي بعصفورة… تحكي! ومن حكاية قفلِ الباب الذي اضطرّت فتحية إلى تغييره وراحت بعد ذلك تستيقظ مذعورةً خشية أن يعود عليّ ويتعذّر عليه أن يدخل بيته نعلم ما كانه هذا الرجلُ في قلب زوجته. ونعلم من قصّة الجثّة التي لبثَت زمناً مديداً في البرّاد الإسرائيلي ومن النَذْر الذي نذرته سهيلة ألا تتغطّى صيفاً ولا شتاءً إلا بعد أن تدفن أخاها ما كانه هذا الأخ في قلب أخته.
تحتلّ هذه الشقيقة شطراً صالحاً من نصّ رائدة تظهر فيه فلسطينيةً مقدسية معتدّة بحقّها إلى الدرجة التي تبيح لها أن تبقي السؤال الذي قد تطرحه بشأن جارٍ لها على حاله لا تعدّل فيه حرفاً واحداً حين تطرق باب غرفة في فندق مقدسيّ قائلةً لمن فتح لها الباب: «كيسنجر هون؟»! تستردّ سهيلة بتوسّط كيسنجر جثمانَ أخيها وتدفنه في الخليل، إذن، وتستردّ أيضاً شعورها بالحاجة إلى غطاءٍ بعد أن عاد إليها في ذلك الصيف القائظ بردٌ ينخر العظام كانت قد كبتته في حمّى سعيها إلى استرداد الجسد العزيز من ذلك البرّاد.
يبقى أن اللعب الذي يداخل كلّ شيء ههنا، من جهة آل طه، بما في ذلك جريُ سهيلة وراء الجثمان، يخالطه كثير من الغشّ من الجهة التي أملت على العائلة قواعدَ دورها وألزمَتْها به. يجيء الغشّ، على الخصوص، من حيث يحتسب مجيئه: أي من مدخل الأنوثة التي هي الصفة الجامعة لمن خلّفهن علي طه وراءه. وفي بوادر الاستباحة التي تشير إليها رائدة بصدد والدتها الفتية، على الخصوص، دواعٍ للتقزّز الشديد، خصوصاً وأن المتحرّشين لا يتحرّجون من توظيف «القضية» و»المسيرة» في طلبهم لمبتغاهم. غير أن المؤدّية، بما هي عليه من خفّة ظلّ في كل ما تفعل وتقول، تفلح في تحويل هذا كله إلى نوعٍ من اللعب أيضاً تسعفها في ذلك أنفة والدتها وتشبّثُها بكرامتها.
هذا كلّ شيء تقريباً. هذا ما يجعل هذا العمل نقداً نفّاذاً لأطنانٍ من الكلام تخصّ الثورة والشهادة. وهو ما يبقيه بعيداً كلّ البعد عن إهانة الثورة أو الشهادة. وإنما هو إخراج للثورة من سحرها الاختزالي إلى نور بشريتها المعقّدة. وهو أيضاً ردّ للشهيد إلى أهله. تبقى إشاراتٌ إلى موقع العمل من وَسَطه ومن وقتِ إعداده وظهوره…
يتّصل عمل لينا أبيض ورائدة طه بخيطٍ مؤكّد المتانة، وإن لم يَسْهل تبيُّنُه، بأعمال فلسطينية أخرى ترسي معالم حقبة جديدة من الإبداع الفلسطيني وتشير بذلك، على الأرجح، إلى طور جديد من أطوار الوجدان الفلسطيني أيضاً. ينشئ هذا العمل، مثلاً، نوعاً من القرابة بينه وبين النَفَس الذي مثّله كتاب سعاد العامري «شارون وحماتي»، وقد صدر بالإنكليزية أوّلاً قبل أزيد من عقد. ويوجّه العمل نفسه أيضاً تحيةً خفية إلى «عمر» رائعة هاني أبو أسعد السينمائية التي شاهدناها في بيروت قبل وقتٍ يسير.
تصل بين رائدة طه وسعاد العامري روح الفكاهة النفّاذة التي تفلح في تحويل السخرية من النفس ومن أصحاب الحقّ باباً إلى ترسيخ للحقّ لا تقوى على مثله الخُطب وإلى إبلاغ أهله ذرىً لا يسهل بلوغها على أيٍّ كان. ليس أمراً هيّناً أن تبدو «ابنة الشهيد» على هذا القدْر من المرح وأن تستثير هذا الضحك الكثير في قاعة المسرح فيما هيتتناول شهادة والدها وحال الفقدان التي خيمت بعد هذه الشهادة عليها وعلى عائلتها.
وأما عمل أبو أسعد فتصل بينه وبين عمل أبيض – طه جرأةٌ في تقحّم المحرّم أو ما يشبه المحرّم ما كانت لتفضي إلى غايتها بلا رهافة التناول وبلا النُبْل الشخصي الذي يجعله تأصّلُه في هؤلاء الفنّانين متّسِعاً لكلّ صعب. يعالج أبو أسعد العمالة، بمعنى التعاون مع العدو، فيضرب صفحاً عن التحقير السهل للعملاء ويدخل إلى الظاهرة من باب الجُرْم المتمادي الذي يمثّله «تصنيع» العدوّ للعملاء. وهو «تصنيع» يتشكّل من ضروبٍ قصوى من الحقارة يلجأ إليها الجهاز الإسرائيلي. تقابل هذا الأسلوبَ مقاومةٌ من جانب الشبّان الفلسطينيين تُظْهر ما يحتاج إليه من بطولةٍ لا يمكن افتراضُ توفّرِها في المعرّضين جميعاً تجنّبُ السقوط. هكذا يدخل أبو أسعد من جهة العمالة إلى الحرم نفسه الذي دخلته أبيض وطه من جهة الشهادة. لا العميل يُختصر في عارِه ولا الشهيدُ يَقْبل الاختزالَ في مجده. وإنما يبقى النظر إلى البشري واجباً في الحالين وجوبَه في كلّ حال أخرى…
تشي هذه الأعمال بنضجٍ في هذه الموجة الجديدة من الفنّ الفلسطيني هو، على الأرجح، نضج من جرّب كلّ شيء: في السياسة وفي الحياة عموماً. يَعْرض هذا النضجُ الفنّيّ نفسه في وقتٍ تبدو فيه أبوابُ السياسة مغلقةً أمام الفلسطينيين، سلماً كانت السياسةُ أم حرباً. فلعلّ هذه الأعمال إشاراتٌ إلى حقّ الفلسطينيين الأصيل في أن تُفتح لهم أبوابُ الحياة. وهذا حقّ للأشخاص قد تضيّق السياسة، على اختلاف مصادرها، من حظوظ ترجمته ولكنها لا تقوى على الطعن فيه.
كاتب لبناني
أحمد بيضون
فعلا الانسان مقياس لكل الأشياء.