يُعتبر موضوع المرأة مدخلا استراتيجيا، لرصد مظاهر تحول المجتمع. إذ، لا يتعلق الأمر، بالمرأة باعتبارها موضوعا مُفكرا فيه، ضمن مشاريع تنموية، وتدابير قانونية، واستراتيجيات حقوقية، بقدر ما يهم الأمر فعل المرأة باعتبارها ذاتا، قادرة على إرادة التغيير الذاتي/المجتمعي، وشريكة في صناعة المفاهيم.
غير أننا عندما نناقش موضوع تطور المرأة في الثقافة العربية، غالبا، ما نعتمد فقط المؤشر القانوني والحقوقي، لرصد مظاهر التطور في قضية المرأة، ونستحضر المنجزات السياسية والحزبية والاقتصادية لاختبار التدبير السياسي في هذا الموضوع، ونغفل، أو نتجاوز- في غالب الأحيان- مؤشرات أخرى، تُقدم لنا التحول في قضية المرأة، انطلاقا من البُعد الثقافي-الذهني، وتأسيسا على صيغة المرأة – الذات، وليس المرأة – الموضوع. هناك تحولات تحدث في سياقات اجتماعية عربية، تتم في صمتٍ، وخارج عيون الكاميرا والدعاية، وتُنتجها المرأة العربية، بعيدا عن المؤسسات والإطارات، وتُؤسس من خلالها تجارب استثنائية، لكنها ذات معنى وظيفي بالنسبة للمرأة باعتبارها شريكة في التغيير الاجتماعي.
يحتاج الأمر إلى الانتباه إلى بعض نماذج هذه التجارب، التي تشتغل خارج المنطق المألوف للمؤسسات، لكنها تُعبر عن تطور في حركية النساء، وتفعيل مبدأ الشراكة، انطلاقا من خصوصية الفعل.
نستحضر هنا تجربتين، وبينهما تتشكل تجارب مختلفة ومتعددة تُنتجها نساء عربيات في بلدانهن. تلتقي التجربتان في ثقافة «الصالون الأدبي». وإذا كانت ظاهرة الصالون الأدبي ليست جديدة على المشهد العربي القديم والحديث، كما أنها قد لا تشكل – بالنسبة للبعض- ممارسة مُثيرة، أو ذات أهمية، فإن الجديد في هذه الصالونات، أنها تتحقق بشرط ثقافي نسائي، وتُنتج تصورات جديدة، مُؤهلة لكي تصنع بدائل في الرؤى.
تتمثل التجربة الأولى في ما سمي في «نساء الربوة». وهو صالون أدبي بدأ سنة 2012، تجتمع فيه مجموعة من النساء المغربيات، نهاية كل شهر في بيتٍ واقعٍ على ربوة في مدينة الرباط، صاحبته خديجة شاكر. أهم مميزات هذا الملتقى النسائي الشهري، أنه يتشكل من نساء ينتمين إلى حقول متعددة ومختلفة، منها الفلسفة والطب والهندسة والصيدلة والحقوق والبحث العلمي، وغير ذلك من حقول انتماء نساء الربوة، إضافة إلى المبدعات والكاتبات والبرلمانيات والمنتميات إلى إطارات نسائية وحقوقية. في الربوة، تغيب الحقول والانتماءات، والدرجات العلمية، والانتماءات الاجتماعية والحزبية والسياسية، ويحضر الأدب باعتباره موضوعا جوهريا في النقاش والتأمل والتفكير. عند نهاية كل شهرٍ، يتم اختيار عمل أدبي، إما عمل مبدعة، تتم استضافتها، بعد أن يتم إخبار نساء الربوة بعنوان العمل، من أجل قراءته، ويتم تكليف امرأة بتقديم قراءة حوله، ثم يُفتح النقاش حول العمل وصاحبته، أو يتم اختيار عمل إبداعي لكاتب – ليس بالضرورة كاتبة/امرأة- وتتم قراءة العمل، ومناقشته بين نساء الربوة. قد يبدو الأمر ـ إلى حد الآن- عاديا، وغير مُدهشٍ. غير أن طبيعة هذا الملتقى، ونوعية الإحساس بالمسؤولية تجاه الأدب، والرغبة في الإصغاء إلى الأدب، وتقديم قراءات حوله، بأصوات متنوعة ومقاربات غير مألوفة، تعتمد تحقيق المُتعة، وتحويل هذه الأخيرة إلى عنصر جوهري في اكتشاف الأدب، يجعل هذه التجربة استثنائية، لكونها تطرح مفهوما مختلفا في قراءة الإبداع.
ولهذا، فإن القراءات التي تقدمها نساء الربوة، تُعيد الأدب إلى جوهره، وتُقربه من روح الإنسان، كما يتجلى الأدب المقروء (رواية أو قصة قصيرة) بشكل جديد، وبرؤية مختلفة، لأن الأصوات القارئة له، مقبلة من حقول مختلفة (علمية، اقتصادية، اجتماعية، قانونية، نسائية وحقوقية)، ولذلك فإنها تقترب من الأدب بدون وصايا النظريات، وتقترح قراءات مُخلصة لزمن المتعة، ومن هذا الزمن يتشكل الآن تصور جديد للأدب، يجعل منه عنصرا جوهريا في الحياة. مع كل لقاء يرتفع عدد الحاضرات والمشاركات والقادمات من انتماءات وحقول متعددة، يتركن ذلك التعدد عند عتبة الربوة، ويدخلن ربوة الأدب مكتشفات ومسافرات ومستمتعات بالأدب وهو يُعيد ترتيب ذوقهن وحياتهن.
جاء في مقدمة الكتاب الأول لأعمال ملتقى الربوة» أوراق الربوة قراءات في الأدب النسائي المغربي»(2017): «صالون منفتحٌ على الأدب والفكر والثقافة، وفاتحٌ أبوابه لمغامرة القراءة العاشقة التي تخوضها نساء مغربيات بكل ثقة وبكل حرص». لهذا، فالقراءات عبارة عن تواصل خاص وشخصي مع الإبداع. يُعيد هذا التواصل للإبداع قيمته الوجدانية التي باتت تخفت مع بعض مظاهر التحليل.
ألا يمكن اعتماد هذا التواصل الإبداعي في إعادة إنتاج تصور جديد للأدب وقراءته؟ هل يمكن التعامل مع هذه القراءات باعتبارها إمكانية جديدة للاقتراب من الأدب؟ ألا تدخل مثل هذه القراءات المقبلة من الإحساس بالأدب باعتباره حالة خاصة وحياتية، في الفرضية التي اقترحها تودوروف في كتابه» الأدب في خطر»؟ ألم ينتقد تودوروف تدريس الأدب، وانتصار الدرس الأدبي لمكونات وعناصر الخطاب الأدبي، ما أعلى من شأن الممارسة النقدية على حساب التجربة الأدبية؟
إنها دعوة للإصغاء إلى قراءات نساء الربوة، وهي تُعيد الأدب إلى مجاله الخاص، ومن ثمة، تتقدم به نحو المجتمع، باعتباره شريكا في إنتاج مفاهيم الحياة، وقريبا من الإنسان في تأمل القيم التي تُغادره، وتجعله كائنا مُعرضا للعنف والحرب والأمراض والقتل. لم تنطلق «الربوة» من مشروع مُحدد، أو من سؤال كبيرٍ، خاص بإشكالية الإبداع وقراءته، ولكنها، بدأت بحلمٍ (2012) نما وتحول وتطور إلى مشروع أدبي، بدأ يتحقق خارج وصايا المؤسسات.
أما التجربة الثانية، فإنها تتعلق بصالون أدبي بدأ افتراضيا سنة 2013، ثم انتقل إلى الواقع سنة 2017. يتعلق الأمر بـ»صالون البنفسج الثقافي» الذي أسسته الشاعرة القطرية سميرة عبيد، مع أول إصدار شعري لها، عبر وسيط الواتساب، وتم انفتاح الصالون على المبدعين/المبدعات من كل أنحاء العالم العربي. انتقل الصالون مُؤخرا إلى الفضاء الواقعي، بإعلانه صالونا أدبيا، يحتضنه بيت الشاعرة، وتحضره نساء قطريات وعربيات، ينتمين إلى حقول إعلامية وإبداعية وفكرية وعلمية وتربوية وتكنولوجية. وتتم مناقشة قضايا الأدب بوجهات نظر متعددة، كما يتم التواصل بين النساء العربيات خارج وصايا التصورات الجاهزة، تلك التي تُحنِط كل مجتمع في قالب جاهز، وتُعيق الحوار الممكن، والتواصل المحتمل. وإذا كان شكل الصالون في وضعيه الافتراضي والواقعي لا يشكل استثناء، نظرا لوجود عدد كبير من المجموعات الواتسابية، التي تشبهه، خاصة في السياق الخليجي، فإن أهمية هذا الصالون الأدبي بانتقاله إلى الواقعي، فإنه يُدخل التجربة إلى زمنٍ جديد ومُختلف. إن انتقال الصالون من الافتراضي إلى الواقعي، هو انتقالٌ مُنتجٌ للمختلفِ، لأن زمن التحقق الافتراضي يُحرر التجربة من المألوف، ويُحرر منتجيها من الاستهلاك والتقليد، ويمنحهم فرصة التعبير الحر، وصناعة المبادرة، وتجريب الشراكة، والتحرر من وصايا التصورات. وبذلك، يُصبحُ الانتقالُ إلى الواقعي، انتقالا ثقافيا. بهذا الشكل، فإن الافتراضي يتحول إلى وسيط لتحرير الواقع بصوت المرأة.
من أجل الوعي بالتجربتين، وما تحققانه من مفاهيم جديدة، في الشراكة والثقافة والصوت النسائي، نستحضر ثقافــــة الصالونات الأدبــية في أوروبا، خاصة في فرنسا والدور الذي لعبته في نشر ثقافة قيم جديدة، من أهمها: فن المُحادثة. فقد أنتجت هذه الصالونات، ما سمي بـ»فن المحادثة» في الثقافة الفرنسية الكلاسيكية. وهو فن يتطلب مجموعة من القيم، منها الذوق، واللياقة والنبرة الجيدة، يعني مهارات التواصل والحوار وأناقة الحضور بالمفهوم الحديث من أجل تحقيق بلاغة النقاش.
يتحول الصـــــالون الأدبي- حسب هذا التحقق- إلى مدرسة تنمية مهارات فن المحادثة. وعندما تكون المرأة هي صانعة المدرسة، والمنتصرة لفن المحادثة، فإنها تُعلن عن شراكتها في تدبير حياة مجتمعها وفق قيم فن المحادثة.
روائية وناقدة مغربية
زهور كرام
رغم أن معطى( الصالون الأدبي ) ليس جديدا على المثقفة العربية ، إلاّ أنه لم يتواجد بالشكل الأليق ،الذي يبسط من خلاله مساحة كافية ،لاحتواء الأقلام الأدبية ،التي- غاليبتها- تنتج على الهامش ،دون أن يسلط الضوء على أصحابها، لذلك ظل استهلاك الصالون الأدبي نخبويا، غالبا ما يعتمد في استقطاب رواده على صداقات قديمة ، فيُغفل بذالك جانب مهم وثري ، يتعلق الأمر بالأقلام الشابة ،التي تنتظر في( طوابير) طويلة دورا ،قد يُعطاه يوما ،وقد تُحرمه .
إن الأنوذجين اللذين ركزت عليهما الدكتورة زهور كرام ، حديثي الولادة (2012/2017) ، نأمل أن يثمر سعيهما في القادم من الأيام ، وأن تتسع رقعتهما لتشمل كل مبدعات الوطن العربي الكبير.
خديجة عياش/المملكة المغربية.