خذني إلى أسفل سافلين.. أيها الإله العربي.. شريطة أن لا أحد عربياً هناك.. هذه الأبيات من قصيدة للشاعر الايراني مصطفى بادكوبة ألقاها في أحد المراكز الثقافية الايرانية واشتملت على الكثير من التجديف والتطاول والتهجم على الإسلام بما يفوق كل ما ورد في رواية آيات شيطانية ومع ذلك فإن أحداً لم يطالب بإعدام الشاعر وعلى العكس من ذلك اعترت القاعة حالة من التصفيق والطرب لقصيدته. كان ذلك في أمسية من ربيع 2011 وبعدها بأشهر بدأت ايران تدخل فصلاً جديداً وصريحاً من العداء مع جيرانها العرب، وعلى الرغم من محاولات الاحتواء السابقة والتي شهدت جهوداً عربية واضحة حتى لإشباع الغرور الايراني كما حدث مع استقبال الرئيس نجاد في القمة الإسلامية في جدة سنة 2012 إلا أن الأمر لم ينعكس إطلاقاً في تأسيس مرحلة جديدة من العلاقة مع ايران، ولا أفلحت كذلك محاولة الرئيس المصري السابق محمد مرسي الذي شرع ذراعيه وإن يكن بعشوائية للإيرانيين.
العداء الايراني للجوار العربي، وأي جوار آخر بالمناسبة، مرتبط بالحس الامبراطوري التوسعي القديم، وليس مرتبطاً بالمذهبية الدينية، وكل ما في الأمر أن الثورة الإسلامية أعطت الصراع وجهاً جديداً، ومن أسوأ ما فعلته ايران هو الاستيلاء على التشيع العربي وتعزيز النسخة الفارسية، وربما الشيء نفسه كان يحدث ويتعزز على الجانب الآخر بتمكين النسخة السلفية على غيرها من التدابير المذهبية لدى أهل السنة، وبذلك تحول الصراع الدنيوي المحض إلى صراع ديني مقدس.
عندما كانت الامبراطورية الفارسية في ذروة مجدها لم تفكر في السيطرة على الجزيرة العربية، وأقصى ما فعلته هو تعيين وتدعيم سلطة موالية لها على مدخل الجزيرة يمكن أن تفصلها عن القبائل العربية، ومع وجود العديد من الدول والدويلات الفارسية فإن منطقة الجزيرة والشاطئ المقابل من الخليج العربي لم تكن يوماً هاجساً ايرانياً، وحتى السيطرة على المواقع المقدسة في مكة والمدينة لم تطرح بزخم على الأولويات السياسية أو التوسعية لهذه الدول، ولكن ظهور النفط في بداية القرن العشرين دفع الايرانيين للتطلع بنظرة أخرى تجاه الجزيرة العربية.
المفارقة أن المواجهة الأوسع بين العرب والفرس قبل الإسلام وقعت في منطقة تدعى ذي قار ولم يكن أحد من المتقاتلين سواء من جيوش الامبراطورية أو من شتات القبائل العربية المتحالفة دفاعاً عن كرامتها التي مثلتها الأميرة هند بنت النعمان تعرف بأن القار سيكون أساساً للصراع بعد ذلك بقرون طويلة، وأنه سيكون العنوان الأساسي لكل الأساطير التي يجري استدعاؤها من التاريخ وتزييفها بمظاهر دينية. لا يعني التوجس والتخوف من ايران أن يندفع العرب للبحث عن حلفاء خارج حدودهم، وأن يصبح الأمر توزيعاً لهم بين مشجعي ايران ومناصري تركيا، إلا أن الأتراك على الرغم من مطامعهم الواضحة لا يمثلون كارثة وجودية أمام العرب، ففي النهاية لا يمتلكون العمق الحضاري والثقافي لاستيعاب العرب ولا الطموح اللازم ليفعلوا ذلك، فالأتراك أمة طارئة على المنطقة، وليست من الأمم الأصيلة التي يمكن أن تزعم تاريخاً ممتداً مثل العرب والفرس، كما أنهم وفي جميع الحالات كانوا يمثلون حالة متقدمة في فكرة الإدارة عن الفرس حيث لم تغرقهم الأساطير والمزاعم العرقية كثيراً، ولم يعتبروا العرب مسبقاً عاملاً لمحوهم من التاريخ كما هو الأمر مع الفرس، ولا يعيشون في حساسية المنافسة مع العربي الذي كان يمثل العرق التالي في الأهمية بعد الأتراك ضمن منظومتهم الإمبراطورية. لا يعني كل ما سبق أن حرباً حتمية وشاملة يمكن أن تكون حلاً لمشكلة التزاحم بين العرب والفرس، ولا يمكن القول باحتراق جميع الجسور بين الطرفين، ففي النهاية ومن خلال رصد باروميتر العلاقة بين جانبي الخليج العربي بالمعنى الواسع الذي يضم آسيا الوسطى من جهة ومصر والشام من جهة أخرى، فإن التواصل ممكن بين أنظمة تقوم على أساس الحياة المدنية والمشاركة الفعالة ولا تعاني في الجانبين من الإغراق في الرمزيات الدينية والسلطوية، ولا تسعى لمزيد من التزاحم في وقت يمكنها التعاون فيه من جني ثمار كثيرة في مناطق من العالم ما زالت تعرض كثيراً من الفرص مثل افريقيا ووسط آسيا، وما لا يدركه الايرانيون والعرب أن صراعهم على النفط يضيع فرصاً كثيرة من أجل اقتناص الفرص المستقبلية في معادلة العالم الجديد. نعيش في منطقة الهويات القاتلة وسرطان الهوية، ومع الفرس والعرب الغارقين في استدعاء الافتراق المذهبي لتبرير الصراع الاقتصادي يأتي الأتراك الذين يعانون من مشكلة ذاتية تتعلق باجتثاثهم من تاريخهم المدون بحروف لا يتمكن الشباب التركي من قراءتها، ويتوزعون بين الحلم الأوروبي والعمق المشرقي، وبجانبهم اليهود المخدوعون من الصهيونية العالمية والمستخدمون بوصفهم الدولة الغيتو أو القلعة في منطقة لم تدفعم تحديداً لأن يعيشوا في الغيتو بالطريقة نفسها أو الدرجة نفسها التي وضعتهم فيها أوروبا، أما الأثيوبيون وبشكل عام الأحباش وشعوب القرن الإفريقي فتطالب بالاحترام في معادلة هذه المنطقة من العالم، ومع أنهم لا يملكون النفط ولا الاقتصاديات القوية ولكنهم يقفون على مصادر الثروات المائية وعلى طرقاتها بكثير من العناد اليوم، ويعرفون أن حصتهم من المستقبل ربما تبدو أكبر من حصة جيرانهم.
إن أسلمة الصراعات في المنطقة تزيد من غموضها، وتجعل البحث عن حلول متعذراً أمام استيلاء المتطرفين والمتعصبين على أدوات تعريف الهوية وتحديد الصراع وحدوده، وجعله صراعاً دينياً لا يمكن التنازل فيه لأنه يعد تنازلاً عن المبادئ بينما في حقيقة الأمر يتناسون بأن الصراعات الدينية لا يمكن أن تبرأ كلية من الجانب الدنيوي، وكذلك كانت الأمور في أوروبا بين البروتستانية المدعومة بالبرجوازيات الجديدة والكاثوليكية المستندة على الاقطاع وتراثه.
المؤسسة الفكرية الدينية يجب أن تتنبه لمسؤولياتها التاريخية في هذه المرحلة، ويجب أن تنأى بنفسها عن الاستخدام المفرط للدين والمذاهب في الصراع الدائر، لأنها ستبقى جزءاً من تحديد هوية المنطقة بعد فترة المخاض الشرسة التي يبدو أنه لا مناص من خوضها ودفع ثمنها كاملاً كما حدث في أوروبا من قبل، فالحروب الدينية تبدو مرحلة إلزامية في النضوج الحضاري، ولكن يجب التنبه إلى أن الإسلام مركب هوية أساسي بين شعوب متزاحمة على أسس عرقية وتستدعي كل منها تراثات تاريخية فرعونية وفينيقية وآشورية وخمينية وغيرها، فالأمر يختلف عن أوروبا التي كانت غابة بكراً أمام حركة التمدين الرومانية الآتية من الجنوب، ودفع تكلفة الوعي يكون أحياناً باهظاً وصعباً قياساً بتكلفة البراءة أو السذاجة الحضارية.
كاتب أردني
سامح المحاريق
الأخ سامح المحاريق أرجوسعة الصدر: تضاريس مقالك شتى ؛ ورغم الملاحظات العامة سأكتفي بالملاحظة المركزية للقسم الأخيرلقولك : ( المؤسسة الفكرية الدينية يجب أن تتنبه لمسؤولياتها التاريخية في هذه المرحلة، ويجب أن تنأى بنفسها عن الاستخدام المفرط للدين والمذاهب في الصراع الدائر، لأنها ستبقى جزءاً من تحديد هوية المنطقة بعد فترة المخاض الشرسة التي يبدو أنه لا مناص من خوضها ودفع ثمنها كاملاً كما حدث في أوروبا من قبل، فالحروب الدينية تبدو مرحلة إلزامية في النضوج الحضاري، ولكن يجب التنبه إلى أن الإسلام مركب هوية أساسي بين شعوب متزاحمة على أسس عرقية وتستدعي كل منها تراثات تاريخية فرعونية وفينيقية وآشورية وخمينية وغيرها، فالأمر يختلف عن أوروبا التي كانت غابة بكراً أمام حركة التمدين الرومانية الآتية من الجنوب ودفع تكلفة الوعي يكون أحياناً باهظاً وصعباً قياساً بتكلفة البراءة أو السذاجة الحضارية ).فكيف تنأى المؤسسة الدينية بنفسها…وكيف أنها ستبقى جزءاً من تحديد هوية المنطقة ؟ وإذا كان لا مناص من خوضها كما حدث في أوربا من قبل ؛ فكيف إذن الأمريختلف عن أوربا التي كانت غابة بكراً أمام حركة التمدين… ؟ بالعكس ياأخي : كل حروب أوربا دينية لمرامي اقتصادية ؟ مع المودة.