فتح المسلمون بلدانا ذات ثقافات قديمة وعريقة، مثل بلاد فارس والشام ومصر، وفيها ديانات واعتقادات مختلفة من الزرادشتية والمانوية والمزدكية وغيرها، ولعلّ احتكاك المسلمين بأصحاب الديانات الأخرى خاصة اليهودية والمسيحية اللتين واجهتا قضايا جدلية في مرحلة مبكّرة، اضطرّتهم إلى التسلّح بالفلسفة والمنطق الأرسطي لمواجهة هؤلاء الخصوم الذين حذقوا فنّ الجدل الديني.
ويبدو أن ما تشابه على المسلمين من آيات قرآنية مُبهمة المعنى أحيانا، ويُعارض بعضها بعضا في الظاهر على الأقل أدّى إلى اختلاف التفاسير، لتنطوي القضية على السؤال التالي: أيّهما نُرجّح، التأويل العقلي للنصوص القرآنية، أم نكتفي بالمعاني التي تنطوي عليها ظواهر النصوص، دون التعمّق في بواطنها الدلالية؟ وحول هذه المسألة الجدالية سلك المعتزلة سبيل التأويل العقلي للآيات القرآنية، في حين أصرّ المحافظون من أهل السنة على الوقوف عند ظواهر النصوص القرآنية. وهو فهم يحيلنا على ما تمثّله ابن خلدون في أصل نشأة علم الكلام، بما هو علم يتضمّن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، بردّه إلى ما تشابه من الآيات، وهو في ذلك يُرجع البحث في ذات الله وصفاته ورؤيته، سواء بالقلب أو بالبصيرة، وقدم القرآن من خلقه، ومسألة التوحيد إلى ما دار من جدال حول تفسير الآيات المتشابهات، حيث يقول: «واعلم أنّ الشّارع وصف لنا الإيمان الذي في المرتبة الأولى الذي هو تصديق، وعيّن أمورا مخصوصة كلّفنا التّصديق بها بقلوبنا واعتقادنا في أنفسنا مع الإقرار بألسنتنا، وهي العقائد التي تقرّرت في الدين، هذه أمّهات العقائد الإيمانية معلّلة بأدلّتها العقلية، وأدلّتها من الكتاب والسنة كثير. وعن تلك الأدلة أخذها السلف وأرشد إليها العلماء وحقّقها الأئمة، إلاّ أنه عُرض بعد ذلك خلاف في تفاصيل هذه العقائد أكثر مثارها من الآي المتشابهة، فدعا ذلك إلى الخصام والتناظر والاستدلال بالعقل وزيادة إلى النقل، فحدث بذلك علم الكلام».
أثار هذا الاختلاف المنهجي بين المعتزلة والسنة (الجناح السلفي) قضية داخلية تفاقم أمرها في الطور العبّاسي الأوّل تحديدا، وهي محنة «خلق القرآن» التي تعتبر حسب فهمي جدعان واحدة من القضايا التاريخية الكبرى في تاريخ الإسلام، والنظر إليها يقضي إزاحة الستار عن وجهها الحقيقي وبتجريد دلالاتها البعيدة لا في إطارها العقيدي والتاريخي المعاصر لها فحسب، وإنّما أيضا في حدود بنية الفكر الديني والسياسي من عصور الإسلام الأولى إلى عصورنا العربية والإسلامية الحديثة والمعاصرة، خاصة وقد اختلط فـيها الديني بالسياسي، وكان لها أثر بالغ في توجيه الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية على امتداد التاريخ الإسلامي، وفي هذه المرحلة تعقّدت الوظيفة الفكرية لعلم الكلام، فبالإضافة إلى كونه مرآة للصراع السياسي العقائدي بين مختلف التيارات الإسلامية، وإلى كونه سلاحا فكريا للدفاع عن عقيدة الإسلام، أصبح علم الكلام مسرحا للصراع الفكري المجرّد بين الفرق المذكورة، وهنا تكمن صعوبة تعريف هذا العلم تعريفا تبسيطيّا، شبيها بتعريف فرقة من الفرق الصوفية أو المذهبية مثلا أو تيارا من التيارات الفلسفية.
من البيّن أنّ السياسي يدخل في ماهية الديني على وجه القوام الذاتي له، لا على وجه الإضافة من خارج، وليس مردّ ذلك إلى أنّ السلطة أو الخلافة أو الدولة هي جزء من مفهوم الديني، وإنّما لأنّ الديني الإسلامي لا يستقيم عند حدود الخاص أو الفردي وحده، إذ كل ما يمُتّ إليه يُحوّل باستمرار إلى العام والجماعي. فمن الملاحظ أن الانقسام الأول في الإسلام عمليّا، إثر ما اصطلح على تسميته «بالفتنة الكبرى»، يمتزج فيه الديني بالسياسي، وما مفهوم «الحاكمية لله» الذي طُرح إثر رفع المصاحف، وما استتبعه من رفض الخوارج لحيثياته في معركة صفين بين علي ومعاوية، وخروجهم في صفّ مستقل، إلاّ تعبير عن هذا الامتزاج التاريخي بين ما هو ديني وما هو سياسي- بين ما هو خلافة وما هو ملك – بين ما هو دين و ما هو دولة، ولم تكن سلطة الثقافة تعني تآكل الفعل الثقافي أو الإبداع الفكري أمام سلطة السياسة، وإن سوّغت في مرحلة ما «سلطة الثقافة» «سلطة السياسة» أو انحازت إلى شرعيتهـا أو قدّمت مواقف تشي بتبنّيها، فقد ظلّت المؤسسة الثقافية في تفاعل مع وجدان الجماعة، وإن حاولت السلطة المركزية أن تنشر في بعض المراحل وعيها الخاص بها لتضمن نوعا من الوحدة والتوحيد أو «الولاء»، على الرغم من التّمايز الاجتماعي والاقتصادي والثقافي…
هــذا وقد اقترن بلوغ علم الكلام مستوى معينا من العقلانية والتجريد في أوائل القرن الثاني للهجرة بروز مزيد من الحركات المناوئة للعقيدة الإسلامية، ذلك أن الواقع الذي ساعد على الرقي في سلّم التجريد هو ذاته الواقع الذي أفرز مزيدا من التيارات ذات النزعات الفكرية المختلفة والمناوئة عن عمد أو عن غير عمد للعقيدة القرآنية ونعتقد أنّ هذا التوجّه مازال مستمرّا إلى الآن وإن اتّخذ أشكالا منهجية أخرى.
كاتب تونسي
لطفي العبيدي