«الصورة» … ما بين الخيال والتوثيق على الشاشة

القاهرة ـ «القدس العربي» من : أقام «مركز الفيلم البديل» (سيماتِك) مؤخراً حلقة بحثية عن الأرشفة، خاصة أكثر بالصورة واستخدامها كوثيقة في العمل الفني، وفن الفيلم تحديداً. بخلاف المعارض الفنية، والأبحاث المكتوبة والمُعَدّة للنشر بالدوريات التي تهتم بهذا النوع من الوثائق. وتم عرض عدة أفلام تهتم بالصورة وطبيعتها ـ الصورة الفوتوغرافية ـ كوسيط، واستخدام هذا الوسيط من خلال تقنيات وسيط آخر، هو الفيلم، سواء سينما أو فيديو. وهنا يتوقف الأمر على رؤية ووجهة نظر صانع الفيلم في استخدامه لهذه الوثيقة أو تِلك، وبالتالي تأويلها حسب وعيه، وحسب البناء الفني لعمله. ومن أهم ما تم عرضه فيلمي … «الجسر» La Jetee لـ Chris Marker إنتاج العام 1962، وفيلم «فان ليو» لـ «أكرم زعتري» عام 2001.

لم يمُت ولم يُجَن … كان يُعاني

يعتبر الفرنسي «كريس ماركر» من أشهر مخرجي الأفلام الوثائقية، إضافة إلى كونه مُصور فوتوغرافي بالأساس، وكاتب نصوص أفلامه. ويعتبر فيلمه «الجسر» من أهم هذه الأفلام. وهو هنا يحكي اليلم بالكامل من خلال الصور الفوتوغرافية الثابتة، مع تعليق مُصاحب لها يتماس وقصيدة النثر. الفيلم بالكامل صور ثابتة بالأبيض والأسود، بخلاف لقطة واحدة تتحرك فيها الصورة لامرأة تستيقظ من النوم ي سعادة، وفقط تفتح عينيها، وتلوح على شفتيها شبه ابتسامة. يحكي الفيلم في إطار من الخيال أن الزمن هو الحرب العالمية الثالثة، وأن الحرب الفائتة التي أتت على باريس بالكامل لم تزل راسخة في الذاكرة، وعن طريق ذلك يتم البحث عن أشخاص لهم قدرات خاصة، حيث يقوم مجموعة من العلماء بإجراء تجارب عليهم بأحد مخابئ متحف فني شهير، دمرته الحرب، حتى يخترق هذا الشخص الزمن بذاكرته، ويستدعي آخرين لمساعدة كوكب الأرض. تبدو الحكاية قريبة من الفانتازيا، إلا أن السرد والتعليق الدرامي المُصاحب للصور، لا يجعل الشخص محل التجربة إلا بالبحث من خلال ذكريات طفولته، فلا عاصم له سواها. ويتذكر … وقوفه بالمطار برفقة والديه، ورؤيته امرأة شابة، هي مَن تعلقت ذاكرته بها، وبالفعل .. يصل إليها ـ من خلال ذاكرته ـولكن في هئيته الآن، وهو رجل يكبرها في السن، ويتعارفان، وتبدأ بينهما قصة حُب، لكنه يعرف أنها الآن ميته، إلا أن وهمه الطفولي يجعله يتمادى ـ بمُباركة العلماء وهم ذو طبيعة عسكرية ـ وحينما يريد أن يفلت من قبضتهم ــ في ذاكرته ــ يتقدم نحو الفتاة الواقفة كما كانت بمفردها في المطار، إلا أن أحد العلماء يتواجد بينهماً، ويُصوّب نحوه رصاصة ليرديه قتيلاً أمام فتاته الصارخة. ربما هذا الفيلم يسبق تكنيك فيلم (ماتريكس) رغم اختلاف التناول والموضوع. فالمنظومة الحاكمة في ماتريكس، تصبح القوة العسكرية ورجال الحرب عند «كريس ماركر»، والهرب من هذا الجحيم عبر الطفولة، هو هرب الخيال في مُقابل الواقع، وهو ما ذكره التعليق في إحدى العبارات، بعد خروج البطل من جحيم الحرب حياً … فهو «لم يمُت ولم يُجَن … كان يُعاني».

التكنيك والبناء الفيلمي

استخدم «ماركر» تكنيك الصور الثابتة، والتي كان يتحكم في الإيحاء بالحركة من خلالها باستخدامه عدسة Zoom، سواء للابتعاد أو الاقتراب من تفاصيل الصورة … كَيَد شخص، أو عينه، أو تفصيله في ملابسه، أو حتى اللفتة العَرَضيّة، إضافة إلى وسائل الانتقال كالمزج والقطع والاختفاء والظهور التدريجي. العنصر الآخر الذي يرسم بدقة الجو العام لمكان الحدث ـ الأماكن متعددة ـ هو الصوت، وتصميم شريط الصوت من تعليق ومؤثرات وموسيقى لتجسيد المكان أكثر، والأهم منه تجسيد حالة الشخصيات.
الأمر الأهم في البناء الفيلمي .. أن «ماركر» اخترع هذه الصور ـ هو مَن قام بتصويرها ـ لأشخاص يعيشون وقت صنع الفيلم ـ لكنه أوحى بأنها آتية من زمن آخر ـ ماضي ـ وجعلها تدور في زمن خيالي ـ مُستقبلي ـ أي ألفها كوثيقة، وأعاد إنتاجها من خلال وسيط آخر تماماً، هو وسيط الفيلم السينمائي.

صورة بالمُصادفة تقودك إلى «فان ليو»

يبدأ فيلم «هو + هي … فان ليو» للفنان اللبناني (أكرم زعتري) باللوحات الكتابية التي ستتكرر طوال الفيلم، كشكل من أشكال ضبط إيقاعه … بأنه ــ أي المخرج وكاتب السيناريو ــ وجد صورة قديمة لجدته في كتاب قديم يخص أمه، ووجد الصورة ممهورة بإمضاء «Van Leo»، فسافر من بيروت إلى القاهرة لمقابلة المصوّر الفوتوغرافي الذي التقط صورة لجدته. لتبدأ رحلة المخرج وفي الوقت نفسه يستعيد رحلة ذاكرة «فان ليو» نفسه. الأرمني الهارب والده من الجحيم التركي إلى مصر في بدايات القرن الفائت. ليصبح من أشهر مصوري القاهرة. ويكون الحديث ما بين ذكريات المصوّر وأعماله، والبحث عن علاقة المصوّر بهذه الجدة، التي تجرأت وصوّرَت عارية. ويصبح المزج بين التاريخ الشخصي لفان ليو، ومحاولة استقصاء تاريخ وطبيعة حياة امرأة ذاك العصر/الجدة، والتركيبة الاجتماعية لمصر والشرق الأوسط من وجهة نظر الفنان/المصوّر. ما بين حديث الرجل أمام الكاميرا، وبين أعماله وحكاياتها.
ولد الرجل في تركيا عام 1921، وتوفي بالقاهرة عام 2000، قبل الانتهاء من الفيلم، الذي صُدّر في تاريخ 2001. وصلت أسرة الرجل إلى مصر واستقرت في محافظة الزقازيق ـ شمال القاهرة ـ عام 1927، واستقر في القاهرة 1930، والتحق بالجامعة الأمريكية عام 1940، وفي الخمسينات أصبح من أشهر مصوري القاهرة.

عالم الأبيض والأسود

يتحدث «ليون» عن طبيعة الصورة الفوتوغرافية، وطريقة عمله، فهو يفترض توافر ثلاثة شروط .. أولها الزاوية المناسبة ثم الإضاءة، وأخيراً والأهم اقتناص لحظة التصوير، حتى تظل الصورة على قيد الحياة، حتى لو رحل صاحبها. ولا يجد الفن سوى في الأبيض والأسود، أما التصوير الملون، فقد أصبح يفتقر إلى الفن والحِرفة، فالأمر أشبه بمهنة الترزي التي توارت الآن، وقد أصبحت الملابس الجاهزة تتراص في الفتارين، فأصبح الجميع يُشبهون بعضهم البعض، أما التميز والاختلاف فقد ولى زمنه.

الجسد العاري

هناك العديد من الصور العارية لموديلات نساء ذاك العصر، أوضح «ليون» انه لا يطلب من إحداهن التعري، إلا لو فعلن ذلك بإرادتهن، واقتصرت اللقطات على صديقاته المُقربات، إلا «امرأة» (هي) واحدة أتت إليه، وفعلت ذلك من تلقاء نفسها، حتى لم يجد «الرجل» (هو) مفراً من انبهاره، سوى تسجيله بكاميرته. قام بتصويرها 12 لقطة مختلفة، إذ يقول «في البداية كانت مرتدية كامل ملابسها، ولكنها بدأت بالتعري تدريجياً إلى أن صورتها عارية تماماً».

الفن

لم يسع «ليون» إلى الشهرة، فلم يقترب من السُلطة، ليصبح مثلاً مصوّراً للملك أو رجل جيش، بل فضّل الفن، واقتصر على بورتريهاته التي يخلقها خياله، محاولاً تطوير مهنته بشتى الطرق، فمكتبته العتيقة تحوي كتباً هامة في حرفيات التصوير وتقنياته. لذلك سعى إليه الكثيرون من المشاهير، فالتقط صوراً لكل من عميد الأدب العربي (طه حسين)، حتى أن زوجته (سوزان) حضرت للعزاء في وفاة والدة «ليون»، إضافة إلى كل من … فريد الأطرش، داليدا، شادي عبد السلام، عمر الشريف، ميرفت أمين، وآخرين.

من حريق القاهرة حتى حرق الصور

تشهد ذاكرة «ليو» على حريق القاهرة، ومحاولة إحراق الاستديو الخاص به، التي فشلت، كما شهد حرق محلات الذهب، وخاصة اليهود والأرمن. ثم قامت الثورة ورحل الملك، وتغيرت الحياة إلى الأسواء فهاجرت الجاليات الأجنبية، وتأسى الرجل لرحيل الأصدقاء والزبائن، وأصبح الحال لا يُحتمل، وكان هذا الاستديو هو حجر العثرة في سبيل هجرته، ويتساءل «هل شن عبد الناصر حربه على إسرائيل، أم عليناجميعاً؟!». ثم يصل إلى التسعينات وصعود الأصولية والتشدد الديني، فقام بحرق العديد من الصور العارية، فتساقطت أجساد أصحابها من مخيلته، كما تساقطت أرواحهن من قبل بفعل الزمن.

صورة لطفل في السابعة

عشق الرجل التصوير من خلال صورة التقطت له وهو في سِن السابعة، يقوم بتمثيل دور ملاك ضمن الملائكة التي تحيط بالسيد المسيح، في مسرحية مدرسية، التقطها له صديق لوالده، فأعجب «ليو» بنفسه في الصورة، فوقع في حُب هذا الفن، وهذه الحيوات التي تم تسجيلها في لحظة، ستظل بعيدة عن عين شياطين الزمن.

محمد عبد الرحيم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية