إن طبيعة العلاقة بين الخيال والصورة الشعرية هي طبيعة الانتماء- ذلك أن الصورة تنتمي بالضرورة إلى ملكة الخيال – والتحقق والإنجاز. ونعني بذلك أن الخيال لا يمكن أن يشتغل ويتحقق إلا بواسطة الصورة، بل الأكثر من هذا، إن القوة التخييلية تستطيع الاحتفاظ بصور المحسوسات ورعايتها، ما دام الواقع لا يستطيع ذلك.
تستعيدها وتستحضرها متى شاءت من جهة، وتخلق وتبدع مثيلات لها أنّى شاءت من جهة أخرى. فـالتخيل «نوعان، تخيل استرجاعي يقوم على استعادة صور ماضية، تمثل مدركات سبقت معرفتها، وتخيل إبداعي يقوم على إنشاء صور جديدة، وتتجلى فاعلية الإنسان حين يتجاوز واقعه، ويتطلع إلى مستقبله. وهذا التخيل المبدع لا ينشأ من عدم، وإنما يستمد عناصره من معطيات الواقع». هكذا يصبح للخيال سحر، هو عالم الصورة الشعرية المبتكرة، هو أيضا أثرها في نفسية المتلقي وما تخلق فيه من دهشة وغرابة. إن الخيال يشبه الرحم، حيث تنمو وتترعرع المعاني فيه وتتشكل، من خلال الصورة، بأشكال مختلفة، ومن ثم تغدو الصورة عين الخيال المبدع والخلاق الذي ينقلب من المعلوم إلى المجهول، كما يقول أدونيس، بل إن الخيال الشعري بهذا المعنى، هو «نشاط خلاق لا يستهدف أن يكون ما يشكله من صور نسخا أو نقلا لعالم الواقع ومعطياته، أو انعكاسا حرفيا لأشكال متعارف عليه، أو نوعا من أنواع الانفعالات، بقدر ما يستهدف أن يدفع القارئ أو السامع إلى إعادة التأمل في واقعه، من خلال رؤية شعرية، لا تستمد قيمتها من مجرد الجدة والطرافة وإنما من قدرتها على إثراء الحساسية وتعميق الوعي».
إن الخيال، من خلال الصورة الشعرية وبناء على ما تبين، يروم الهدم والتدمير قصد إعادة البناء والتشكيل. هدم السائد والمألوف والرتيب، وبناء المفترض والممكن والغريب. وإذا كان الخيال يبدع الصورة ويؤلفها قصد إنجاز هندسة خاصة للعوالم المتخيلة، فإن الصورة الشعرية بالمقابل هي التي تخرج هذه العوالم من حالة الإمكان إلى حالة التحقق والوجود. فبالصورة الشعرية يمكننا أن نبني عالما متخيلا جديدا لا يخضع إطلاقا لمنطق الكائن والمعيش وإنما يرشح بكائنات الدهشة والغرابة وسحر الكهنة الغامض والملغز.
صفوة القول إن الخيال أعظم فاتح للأراضي المستباحة وغير المستباحة في وجودنا، وذلك بواسطة الصورة. ولعل هذا الرأي هو ما استخلصه الناقد أنطون كرم غطاس حينما قال: «أما الصورة الشعرية فهي السبق من الفكر، الذي لا يصير مادة للشعر بغيرها، لأن الخيال أبعد فتحا من العقل، وهو مقياس العبقرية والوجه المرئي لها، وبالتالي لا وجود للاختراع الفني إلا بوجود الخيال، حتى إن اللغة «البرغماتية» ذات الدلالة النفعية، إذا ما هرمت وشاخت فبإمكانها بواسطة «الصورة» أن تبعث للحياة بعد الموت، وأن تعيد للكائنات «نظارتها الميثولوجية» والمضامين الغيبية التي فارقتها فتتبدل هندسة العالم».
والخيال الشعري حينما يبدع الصورة الشعرية ويخترعها، إنما هو في هذه الحالة ينتقل من التخيل الاسترجاعي الذي ينبني على تذكر الصورة الماضية، إلى التخيل الإبداعي أو الاختراعي، والذي يؤسس صورا شعرية جديدة لتجاوز كل ما هو معطى ونمطي إلى كل ما هو جديد ومتفرد، وليست له أية علاقة بالماضي. وهو -التخيل الاختراعي- بفعله هذا لا يصوب منظوره إلا جهة المستقبل، بدون أن نتوهم أن هناك قطيعة كلية مع الماضي ولو على الأقل من جهة مواد التخيل. إن انفتاح الصورة الشعرية على المستقبل والتّشوف إليه باستمرار، هو انفتاح على المحتمل وعلى الحلم الذي ظل يراود الذات الإنسانية منذ البدء. ففي الحلم تنتفي عناصر السببية وينتفي المنطق بعلاقاته المنتظمة، لذلك يعمل الخيال على الانفلات من حدود العقل وصرامة مساطره، وكذا من قبضة الواقع ورتابته إلى منطقة اللاشعور والحلم. ولهذه الأسباب نجد أكثر الصور الشعرية دهشة وغرابة وإمتاعا تلك التي تجيء غامضة وشفيفة في الوقت ذاته، تاركة مسافتها الكبرى للإيحاء، أو كما يسميه إيزر بمناطق اللاّتحديد.
وتجدر الإشارة إلى أن الحديث عن هذه العلاقة بين الخيال في مستوياته الفنية، والصورة الشعرية كرؤية داخلية تنفتح على المستقبل والحلم، حديث يترك بعض الأسئلة مطروحة وعالقة حول الأثر الذي يتركه هذا الاشتغال النشيط بين التخيل الفني والصورة الشعرية في الذات المتلقية وكذا المتعة الناتجة عن تلك الشراكة ما بين المنتج- المؤلف، والمستهلك في إنجاز وتحقيق معاني الصورة ودلالاتها.
إن ارتباطا من هذا القبيل بين الخيال والصورة الشعرية على أرضية المستقبل والحلم لا يمكن إلا أن ينتج صورا رائعة بفعل رؤياويتها وبفعل نبشها في سديمية المعنى. فالصورة الشعرية، بوضعها هذا، تقترن «بالرائع السامي Sublime، اقتران وجود الذات المبدعة في أوج إشراقها، ولا تعبر في حال التهيؤ الوجداني، إلى حال التجلي المجسد إلا صياغة ملونة، بل إن حال التهيؤ بالصميم، موسيقى داخلية، تنهض منها عرائس الصورة ويخرجن إليها على معبر هو المجاز». والوضع هذا يشترط بالضرورة مشاركة المتلقي في خلق هذه الروعة والمتعة من خلال تفعيل وتنشيط خياله الذي يجعله في حالة استكشاف مستمرة لعوالم الصورة قصد تبديد غموضها والإمساك بمفاتيح رمزيتها وكذا الالتفاف بمخالفاتها وخروقاتها. وهذا الشعور الرائع يزيد كلما عكست الصورة بقوة حرارة التجربة، ودنت من جوهرها. لذلك فالصورة الشعرية في التخيل الفني- الاختراعي هي «تشكيل لغوي – ولا شك- يكونها الخيال من معطيات متعددة غير خاضعة لشروط من أي جنس. فالذين اشترطوا حسيتها، وعقلانيتها لن يدركوا ماهيتها بحق. فهي لا تكون إلا كما شاءت لها حرارة التجربة الشعورية، وكما شاء لها انفعال الشاعر. فكلما جاءت الصورة غامضة ومعقدة، كانت أقرب من الحقيقة. فالحسية ليست- إذن- شرطا من شروطها».
ترى هذا الفهم لطبيعة الحرارة الشعرية يمتد بعيدا في تراثنا النقدي البلاغي؟ أم أنه مفهوم عصري وحديث انتقل إلينا عن طريق المثاقفة والانفتاح على فلسفات وشعريات الآخر بشكل متأخر؟
٭ شاعر وكاتب مغربي
محمد الديهاجي