لا تُعدّ ولا تُحصى الجرائم التي ارتكبها تنظيم «الدولة الإسلامية» بعد سقوط مدينة الموصل، وقبلها أيضاً؛ سواء في العراق، أوّلاً، أم في سوريا، وأمكنة أخرى، بعدئذ. ولم يعد عسيراً إدراك معادلة الخدمات المتبادلة بين «داعش» وأنظمة الاستبداد والفساد العربية، إنْ في البلدان التي شهدت انتفاضات شعبية، أم في تلك التي ما تزال تنتظر. فإذا اختار المرء أياً من فظائع هذه المنظمة، ضدّ البشر أو الحجر، فإنّ من اليسير أن تتضح واحدة من أهمّ خصائص «داعش»: أنها ظهيرة الطغاة في الأرض.
غير أنّ هذا الاعتبار ليس هو الأجدى اليوم، بعد مرور عام على نجاح «داعش» في اجتياح مدن وبلدات كبرى، ومحورية لاعتبارات شتى، في العراق كما في سوريا. والمطلوب، الأهمّ والأشدّ إلحاحاً، هو التبصّر على نحو أدقّ، والتعمق أكثر، في العوامل المختلفة، السياسية والاجتماعية والثقافية، التي أتاحت صعود «داعش»، وتتيح وضعها في القلب من معظم سيناريوهات التخريب والتفكيك والتقسيم، فضلاً عن التجهيل والاستغلال والتحريف، التي يتعرّض لها الاجتماع الوطني في كلّ من العراق وسوريا… في انتظار جغرافيات أخرى قادمة. وبعض أنجع الوسائل في سبيل صدّ هذه المنظمة الإرهابية الظلامية، وردّ جرائمها إلى نحور قادتها ومنظّريها، وكذلك إلى سادتها ومحرّكيها ممّن يتقنعون خلف أستار شتى؛ هي الذهاب نحو الجوهر والجذر، وليس الاكتفاء بالمظهر والسطح، في تفكيك الظاهرة الداعشية.
على سبيل المثال، كيف يتوجب أن تُقارن مسؤولية رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، مع مسؤولية خلفه حيدر العبادي، في تأمين حاضنة السخط الشعبي التي تغذت عليها «داعش»، وأحسنت استغلالها، واختراق مكوناته؟ بدل الالتفات إلى مشاكل العراق الداخلية المتزايدة، وعلى رأسها توتر علاقات الحكومة مع شرائح شعبية عريضة، ليس مع الشارع السنّي في طول العراق وعرضه، وكذلك مع الأكراد، فحسب؛ بل، كذلك، مع فئات واسعة من الشيعة، جماعة مقتدى الصدر أوّلاً، ثمّ السيستاني، وشرائح التكنوقراط والليبراليين… بدل ذلك كله، لجأ المالكي، واقتفى العبادي أثره على نطاق واسع، إلى إعادة إنتاج سياسات مقيتة تكفلت بتأجيج المزيد نيران الاستياء الشعبي.
وبدل تكريس جهود الحكومة لخدمة المواطن العراقي، وتوظيف قسط من عائدات النفط لتحسين مستواه المعيشي؛ سارع المالكي، واقتدى به العبادي، إلى ترحيل مشكلات العراق الداخلية نحو الخارج، والاتكال على دول التحالف وكأنّ اجتثاث «داعش» لا يبدأ من اقتلاع جذورها في تربة العراق أوّلاً. أو كأنّ العبادي، بعد سلفه، تناسى كيف دخلت «القاعدة» إلى العراق عن طريق أجهزة النظام السوري، بادىء ذي بدء؛ وأنّ «داعش» هي الجنين الذي تخلّق عبر تلك الترتيبات التي ساهمت فيها الأجهزة الأمنية الإيرانية أيضاً. وكما في العراق، كذلك في سوريا، يُراد منّا أن ننسى ذلك الزمن، القريب، الذي شهد اتهام المالكي للنظام السوري بالوقوف خلف الأعمال «الإرهابية» في العراق، ومطالبة الأمم المتحدة بتشكيل محكمة، أو على الأقلّ لجنة تحقيق دولية، لمحاسبة منفّذي التفجيرات الذين أرسلهم «البعثيون» و»التكفيريون» جماعة النظام السوري… حسب تعبيرات رئيس الوزراء العراقي ذاته!
سحر انقلب على الساحر، الحاكم المستبدّ والفاسد، في العراق كما في سوريا؟ نعم، ولكن ليس هذا فقط، لأنّ «داعش» مسؤولية الاحتلال الأمريكي للعراق، والسكوت الدولي على جرائم الحرب في سوريا، ومغازلة إيران، ومباركة جرائم إسرائيل في غزّة، إلى آخر سلسلة طويلة من الأسباب المترابطة. وتلك، قبل اعتبارات المظهر، هي ضرورات الجوهر الأعمق التي أتاحت صعود «داعش»، وسهّلت بقائها، و… تمددها.
صبحي حديدي
الحمد لله، اخيراً بدأ الاستاذ صبحي يكتب بلغة و طريقة نفهمها نحن معشر البسطاء، خالية من الميتافورية (والله هذه من احدى مقالتك يا أستاذ صبحي).
حزب البعث العربي الاشتراكي كان غطاء للطغاة
فلا وحدة ولا حرية ولا اشتراكية
انما عبادة للحاكم
الشيعة وايران ضد بعث صدام ومع بعث الأسد !
ما الفرق بربكم غير الطائفية المذهبية
وماذا عن القومية يا عرب
ولا حول ولا قوة الا بالله
في مقالة الكاتب الرائع خيري منصور المنشورة في القدس العربي تحت عنوان “العصفور والببغاء ثنائية الإبداع والإتباع” وجدت أخيراً الجواب على التساؤل الذي ظل يحيرني منذ ان تدفق الشباب العراقي الشيعي على سوريا لمساندة طاغية دمشق الذي هو نفسه من أذاق شيعة العراق الويلات حين كانت مخابراته ترسل العناصر الإرهابية عبر الحدود المشتركة ليفجرون أنفسهم في المناطق ذات الغالبية الشيعية. لقد فرضت المراجع الدينية على الشباب العراقي التعامل مع الأشياء على طريقة الببغاء والتي ليس لديها ما تقول غير ما تسمعه وتكرره بلا إضافة أو نقصان وإلا ما كنا لنرى شيعياً واحداً يقدم روحه رخيصة من أجل بشار.
نعم سيد صبحي، هذه هي خلاصة القول.
الأخ صبحي،
كما قلتُ تعقيبًا على مقال فيصل القاسم الأخير «هل داعش نقمة على النظام السوري أم نعمة؟»، منذ قيام ما يسمى بـ«حركات التحرر الوطني» في البلدان المستعمَرة، الحركات التي أرَّخت البداية الفعلية لنشوء الدكتاتوريات الحديثة في هذه البلدان، أصبحت سياسة البقاء التبادلية والتوافقية بين العالم “الأول” المستعمِر وبين العالم “الثالث” المستعمَر تسير على النحو التالي:
فمن طرف، الديمقراطيات العالم-أولية المزيفة تدعم الدكتاتوريات العالم-ثالثية الحقيقية التي أفرزتها بشكل أو بآخر (تدعمها بالمال والسلاح خاصةً) لكي تحافظ هذه الأخيرة على نفوذها “الوطني” المباشر وعلى النفوذ “الدولي” غير المباشر للأولى. ومن طرف آخر، الدكتاتوريات العالم-ثالثية الحقيقية تدعم التنظيمات الدينية “العالم-تاسعية” المتطرفة التي أفرزتها بشكل أو بآخر (تدعمها بالمال والسلاح أيضًا) لكي تحافظ هذه الأخيرة على نفوذها “المحلي” المباشر وعلى النفوذ “الوطني” غير المباشر للأولى.
وفي كلٍّ من هذين الطرفين، للأسف الشديد، لا تسير سياسة البقاء التبادلية والتوافقية هذه على قدم وساق إلا على حساب الشعوب المغلوبة على أمرها في البلدان المستعمَرة. وما سياسة النظام الأسدي الطائفي المجرم في سوريا، وما سياسة النظام المالكي-العبادي الذي لا يقلُّ طائفيةً ولا يقلُّ إجرامًا في العراق، سوى تأكيد سافرٍ على سير سياسة البقاء التبادلية والتوافقية تلك على هذه الشاكلة.