أسرفنا في الامتثال للضوء، والاهتداء إليه، أسرفنا في تتبع ينابيعه الرقمية، كرعاة يذهبون وراء صوت بعيد يحلمون أن يوصلهم للمراعي وحين يصلون لا يجدون شيئا، أو كحطابي فرح يهرعون خلفه بلذة السعي وراء المجهول.
أصبحنا أو كدنا نتحول إلى أرقام ومفاتيح، ننحسر داخل أجهزة صغيرة كموجة لا تقوى على الامتداد في المدّ، وننحصر في ذواتنا بعيدا عن الوجود الحقيقي إلا من عوالم بلا حياة. أصبحنا لا نسمع صوتا يشج الروح بحناناته، ولا نصافح يدا لنتقاسم معها خبز الحياة، ولا نشم عطر الأرواح عبر حوارات حقيقية.
ابتعدنا عن تأمل الوجوه، صرنا منكسي الرؤوس في الأجهزة التي بين أيدينا، لا نترك لصدورنا أن تتعبأ بزرقة البحر وملوحته، أو بهواء التيه، ولا تتشرب أعيننا اخضرار المسافات، صرنا نتقلص على أنفسنا كأجنة في رحم الضوء. نعرف عن طريق رسائله، وأمكنته التي أصبحت تتكاثر كالفطر السام، من يموت ومن يولد، ومن يفرح ومن يحزن، ونرسل بالتالي رسالة باردة بكلمات جافة أو وجها الكترونيا جامدا، للتهنئة أو التعزية لا فرق أبدا.
أصبحنا كائنات إلكترونية قليلة الكلام إلا المكتوب منه، قليلة الفعل أيضا، تجمدت أجسادنا خلف أجهزة ميتة، وكأنها مربوطة بأسلاك معدنية وكهربائية لهذه الأجهزة. قلّ المشي، وقلّت الحوارات الجادة والعميقة، وقلّت القراءة الحقيقية، أصبحنا نتحاور كتابة على عجل في هامش ضوئي ضيق، ونقرأ همهمات وتهويمات وشذرات تكتب على عجل أو كيفما اتفق بدافع الوقت والضوء. فكل شيء في هذه العوالم يُسلق على عجل، ويُمرر بسرعة كالوجبات السريعة، جاهزة ومعلّبة، وصالحة للقليل من الوقت. صرنا نحب ونتكلم ونعيش، ونذرف الدموع، ونكتب، على عجل، ونقرأ لنضع «لايك» على عجل، مجاملة لصديق، أو امتثالا لقانون الضوء وعوالمه الباهتة.
لم نعد نعيش ونمارس ونستمتع بالحياة بكل ممكناتها وطاقاتها كما ينبغي، لقد أربكنا الضوء كثيرا، أتعب أعيننا بشاشاته، وسرق عمق أفكارنا بسطحيته، وقلل اتساع رؤانا بضيق عوالمه، وأربك ثبات خطواتنا بسرعته، لقد تعلّقنا بعوالمه الرقمية أكثر مما يجب، وأصبح لزاما علينا أن ننتبه قليلا لهذا!
لقد أرهقنا بخفته وجاهزيته في سلبنا حقنا في التجلي الحقيقي، المفعم بالحضور الكلي، كما أرهقتنا الغابة الكونية التي نتتبعها عبره، تلك التي تقدم لنا هداياها عبر نشرات إخبارية متواصلة تتلمظ فيها مذيعة مغناج بنطق قرى ومناطق سوريا أو العراق أو اليمن التي حفظها المستمع العربي بعد أن لم يكن ليفعل يوما، أو ينطقها بحيادية قاتلة مذيع يتعمد نطق الكلام من منطقة بعيدة في حلقه وصدره ليأتي الصوت فخما وإعلاميا مدهشا، لتشاهد ذلك الصراع الدنيء بين كل قوى العالم والذي يدفع الإنسان والمكان ثمنه باهظا، والتي تجعلك فورا تستحضر «مزرعة الحيوان» لجورج أورويل وتبتلع نفَسك بصعوبة وأن تتلمظ عجزك، وربما تحتقر ذاتك وأنت تكتب كلمات تافهة على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي داخلك صلاة لربك الذي تؤمن بقدرته، اللهم أسعف عجزهم وارفق بعجزنا. أصبح الضوء كغراب ينعق بالموت، كيف لا وهو مجرد انعكاس لهستيريا كونية تتمدد في الخارج، من جرائم داعش المخزية أو من يحذو حذوهم، ويفعل فعلهم باسم الله والإسلام، وحتى الجهل الممتد من الماء للماء والذي يبيح القتل والسلب والتكفير، ويسوّغ القبح والحقد والكراهية بكل مسمياتها الدينية والفكرية والاجتماعية ويمنع التفكير والاجتهاد، ويرفض العلم والمعرفة، مرورا بالظلم والفساد الذي ينخر مجتمعاتنا ويكبل إنسانا ويتعالى فوق القانون، لأن له اليد الطولى والقوة الراجحة الكفة، وليس نهاية بالجوع الذي يثقب أمعاء البشر في العديد من بقاع هذه البسيطة، في حين يلقي العالم كل يوم أطنانا من الطعام في سلة المهملات، وهم يرددون الأدعية بالرحمة والمغفرة أمام شاشات التلفاز العريضة التي تتفنن بدورها في بث أطنان من التفاهة والقليل من التسلية والعمق.
حالة مخزية ومقرفة لا يشفع لها شيء، كما لا يشفع لتلك العوالم الرقمية الجماليات المبثوثة بين أركانها بين فينة وأخرى، كالتأملات والنصوص الشعرية واللوحات وغيرها من إبداع الإنسان المناضل بالجمال ضد القبح.
تلك العوالم الرقمية التي نعيش فيها، ونحن ندرك جيدا أنها ليست هي الحياة، ولا تشبه الحياة في شيء، فالحياة هي دبيب خطوك على الأرض، ضحكتك إذ تشق الغبار، لقاء عينين غريبتين غرر بهما الحلم ومع ذلك تبتسمان لرؤية عابر على الطريق، أم تدعو لأبنائها العاقين، وامرأة يخونها زوجها كل ليلة، ومع ذلك تستأنف صباحا العمل بلا نية للتقهقر، ورجل سبعيني يذهب أبدا للحياة التي عاشها يوما ليجعل الماضي يمكث زمنا أطول لأنه لا يحب حاضره، ويخاف مستقبله الذي لا يعني سوى القبر. صغار يذهبون إلى الحياة بشغف غير مبرر، وكبار يفكرون في العودة من قطارها السريع بصمت غير مبرر أيضا.
الحياة حكمة مرة مخلوطة بالقليل من الصبر والعسل، لهاث متقطع الأنفاس أبدا بين صحو ونوم وتفاصيل لا تهدأ، ملل وتعب، وأمل ورجاء في قصعة واحدة، كل شيء في الحياة جنوني وعبثي أكثر مما يُحتمل، بينما تحضّر العوالم الرقمية وجباتها السريعة على عجل كمقهى على ناصية الكونية يسعف المتعبين من الحياة، وتكتب نصوصها الكثيرة ضمن ذاكرة المحو، وتخلق أبطالها الدونكيشوتيين بحرفة واقتدار مخرج مجنون يتفنن في تغيير الحبكة كل مرة، ومع هذا يصدّقها المشاهد المحمّل بالخدر والنعاس بلا تمحيص أو وعي كل مرة أيضا.
كل شيء يبدو باردا ومملا وبلاستيكيا في العالم الرقمي، فالفرح والوجع فيه كاذبان، لأنهما أبسط من الحياة أو أقل منها شأنا. ومع هذ سنظل نقف في طابوره الطويل يوميا، ربما لنقول شيئا بصوت عالٍ لا تسعفه حناجرنا المزدردة بالخوف والصمت، أو لنعرف بعض الأشياء التي يحاول العالم القذر كتمانها ليحرك الدمى وفق مخططات مرعبة بعيدا عن الإنسان الذي ليس لديه القدرة على إيقافها أو تغييرها، أو لنبكي في صمت وعجز على مهازل الغابة الكونية التي تفضحها الشاشات الناصعة.
فنحن غالبا لا نملك أن نشيح بوجوهنا عنها طويلا، فهي الملاذ الأكثر دفئا أمام تصحر الكون، ويباس الكائنات، وهي الحقيقة الأكثر نصاعة أمام هذا المد من البشاعة الذي يكبل المكان والزمان معا، ويحاول الجميع تشويهه، وإخفاء الجزء الخاص به بعمليات تجميل تقبحه أكثر مما تجمّله. ربما لأن المعرفة هي سلاح الكائن الوحيد للاستمرار، ووسيلته الأخيرة لتجرع مرارة الخراب بهدوء.
كاتبة عُمانية
فاطمة الشيدي
مع الأسف فلقد أصبح الإنسان العربي مجرد رقم !
ولا حول ولا قوة الا بالله
أبدعت في مقالك هذا و نجحت في تشخيص واقعنا الحالي المليء بالأرقام و المحاصر بتكنولوجيا الإتصال و التي تتطور بشكل سريع و تفرض علينا نمطا جديدا ومختلفا تتشكل حياتنا وفقه وحسب القالب الذي تريده منا الالة التقنية .
تنبأ الخبير الكندي في مجال الإتصال مارشال ماكلوهان بقدرة تكنولوجيا الإتصال على خلق إمتدادات الإسنان في الوجود ، لكننا نعيش تقصات و إنحسارات الإنسان و إنكفائه على قبس نور لا يكاد يرى و جهاز صغير يصنع داخله وجودا إفتراضيا مخافة التعاطي مع إمتدادات الواقع .
بصراحه من اجمل المقالالت التي مست شغاف القلب قراته بتمعن وعاودت قراءته…لصراحته وعنفوانه..ليتني كنت جدعا.منه.فاحتضنه.حتي الثماله..اترقب المزيد بكل شغف…لك مني فايق التقدير والاحترام …تحياتي من برلين..
مقال غايه في الروعه .يمس شغاف القلب يحملني الي عوالم .البراءه والطفوله..بعيدا عن عالمنا الرقمي…ساعود الي الماء لكي لا يخون الضياء دمي..لا ادري اين قرات دلك ..ولاي شاعر لكنه ظل حيا حاضرا في الداكره ..اخالني اعود الي تلك الروابي..علي وقع سمفونيه جميله بعيده عن الضوء والضوضاء..يعيدا عن مدينتنا التي اليها الله لا ياتي كما قال نزار قباني يوما…انتشلني المقال من ركودي..من هده البركه الضوئية .الاسنه حتي اخالني..اعرف هده الفاتنه الرايعه..الاتيه من ادغال الطفوله..كم.احمل لك من مشاعر الود والاحترام..لانك كتبت كل هدا …وحالي يردد مع البياتي الشاعر العراقي الكبير..بدمي يغتسل العشاق..انتظر المزيد بشغف..كاني في انتظار صلاه…هي ملادي الاخير….
هل أصبحت حياتنا شاشة؟!.
هاتف،تابلت،نت،شاشات صغيرة وكبيرة،نتنافس عليها بجنون،
نشاهد عليها،حروب،دعايات،أغنيات،رسائل تواصل إجتماعي..الخ،فهل ننتظر دراسات للظاهرة وتأثيراتها ؟!.
استمتعت وتلذذت , ومن خلال الخوض بما انبعث من ضوءك (كتابتك) والتقاط اشاراته في لواقط فكري ومجسات فطنتي , توصلت الى نتيجة هي انكِ يا فاطمة يا ابنة الشيدي مخلوقٌ تواق الى المعرفة !! وبالمعرفة فقط نحاول الوصول الى الحقيقة !! والحقيقة المجردة هي الله , وهنا لا بد من الاشارة الى انك يا ابنة الشيدي واحدة من الموجودات الربانية اللذين يصح وصفهم بالمقارنة مع غيرهم\ن , ان الكثيرين يزهون بما لديهم وانتِ يا فاطمة تَسْمي بما بك , وشتان ما بين الزهو والسمو ؟!!
الحياة منذ بدء التكوين وهي ما زالت تتطور وتتبلور وتتخذ اشكالاً مختلفة عما كانت عليه سابقاً , ان هذا الصندوق الاسود المتحجر الصلب هو ما اجد به انتاجك يا فاطمة واقرأه واتلذذ به!! ان استعماله المفيد من عدمه يكمن فينا وليس في قبحه او افادته , لقد قال اينشطاين عند اكتشافه وتحليله لقوة الدمار التي تنتج عن الذرة : ويلٌ للعالم اذا اساء استعمالها, ان مادة الذرة (القنبلة) التي دمرت نيكازاغي وهيروشيما هي نفس المادة التي تضيء طوكيو بما تنتجه من طاقة!!!
ان الدين او اي مبدأ يدعوا الى زهق الروح التي هي من صنع الله يجب الكفر به والابتعاد عن معتنقيه والعمل بعكس فتاوى شياطينه,
بالنهاية لا بد من التذكير ان الانسان ولد حراً , وباستمرار نشأتة يختبر هذا المخلوق الحر ان حريته مفقودة وارادته مبتورة , وهكذا يبقى حائراً ما بين الانتفاضة او الرضوخ للامر الواقع الممارس لاقبح انواع العبودية الا وهي العبودية الفكرية والسلام.
كلام حقيقي . شاشات مضيئه لكنها اعمت البصر والبصيره
السلام عليكم..نشكر الكاتبة على هذا الموضوع القيم الذي قدمته بلغة رائعة،حقيقة أن وسائل الإتصال أضعفت الروحانية لدى الإنسان في العالم أجمع و ليس الإنسان العربي أو المسلم إلا من رحم الله ،فأكثرية الناس أصبحوا أجسادا بلا أرواح!،فضاعت العواطف من محبة و رفق و حب و رحمة حقيقية و أستبدلت بأحاسيس مصطنعة على عجل!،فتكنولوجيا الإتصال قربت الناس لبعضهم البعض و النفوس زوجت مع بعضها بعضا في هذا الزمن الأخير.. إنها تنذر بعلامات يعرفها العارفون، فالمتدبر في قوله عز و جل (”و إذا النفوس زوجت ”) يفهم مدلول هذه الآية، لكن هذا الزواج غير شرعي في أغلب الأحيان للأسف(طبعا إلا من رزق نور من ربه فهو من المحفوظين)،فالمصالح طغت على هذه النفوس فدعفتها للكسل في البحث عن الحقائق ويكفيها ” لايكات ” أو بعض من ”هاشتاق ” لتوهم نفسها أنها على قد وصلت إلى اللب مع أنها تهيم في بحر من السراب..إن الغفلة التي أحدثتها هذه الوسائل خطيرة جدا،فأغلب شباب الأمة(إلا من رحم الله) لا يهمه ما يجري لأمته فهو يمضي جل وقته في أمور لا فائدة ترجى منها و هذا ما كان يرنو إليه من أخترع هذه الوسائل و لكن أكثر الناس لا يعلمون، و هناك علامات أخرى ترافق هذه العلامة كقوله عز و جل (”و إذا العشار عطلت ”) فلم يعد يسعى على الخيل و البغال و غيرها كما في الماضي بل عطلت و ظهرت مكانها الطائرات و المركبات الفضائية إلخ العلامات التي عمي عنها من غره سراب جيفة الدنيا ..نعود إلى موضوعنا و نقول أن وسائل التواصل بضاعة فيها كثير من السم و قليل من العسل،فالنبيه المحفوظ من لدن ربه يعرف أصل الحكاية و يعرف أين يضع قدمه أما من ران على قلبه و أبتعد عن خالقه فالسم يقطع أمعاءه نكالا من الله لقوم لا يعقلون..أخيرا نقول أن الأنترنت بصفة عامة سلاح ذو حدين(خاصة فيس بوك و أخواتها)،فأكثرهم يستعمله للفساد و قليلهم من يستعمله للإصلاح و الخير و ندعو الله أن يثبنا و إخوتنا على الطريق المستقيم و أن يوقظ القلوب النائمة لتعرف طريقها و تصل إلى بر الأمان و السلام على من إتبع الهدى..
لا تقلقي كثيراً يا صديقتي، مازال الأخضر يمد الروح بالخضب، والأزرق يفرش دروب الأحلام. ومازالت السماء مرتعاً للدهشة وبحور لذة وافتتان وشغف. كأن السعادة شأن فردي لا شأن عام. يبقى الإنسان الفرد صاحب خيال يصل به إلى الأبعاد ويطوي الأزمان. أنا والكون؛ وأنت والكون، لا يفصل بيننا فاصل أو حاجز. أرى نفسي بعد ألف عام وترين نفسك بعد ألف عام وعندها تصغر اللحظة الحاضرة بكل تشابكاتها وأوجاعها وتغدو أحزان الراهن هموماً عفا عنها الزمان.
أميرة القلم العُماني..كنت تجوبين بين الأرقام كما جاب قوم ثمود الصخربالواد بيوتاً ذات أحلام.الكاتب ( المذكروالمؤنث ) حينما يكتب في عالم الأرقام اليوم ؛ يدخل إلى كهف الرقيم ليكون ( سورة ) ليكشف الضوء بالظلام ؛ لا العكس ؛ ليجعله شمعة لا تنطفيء بأفواه الأشباح الطغام…
الذين عرفوا الدكتورة فاطمة الشيدي ؛ المتخصصة بالبلاغة العربية سيلمسون أنها كانت تناغي التقنية بالأصالة : تربية ؛ لتخرج من تلك الأنوار
المضيئة على الشاشة ( المارد ) كما أخرج علاء الدين من مصباحه الصادروالوارد…شبيك لبيك أنا قاريء بين يديك : أطلب وأتمنى ياكاتبي؟