“الخاصية الأساسية للإنسان هي شياطنه”
بإمكاننا القول أن النزعة العدمية هي تلك الجبهة المعدة للطعن في كل شيء، إنها اللاوجود بلغة الفلاسفة. إذ غالبا ما تجرد الإنسان من نزعته الإنسانية، حين يفقد ماهيته، لأن ما يجعل من الإنسان إنسانا هي نزعته الإنسانية، وإلا سيجد نفسه ملقى في الهمجية والدعوة إلى تدمير كل شيء والإعلان عن موت الإنسان؛ فما الذي يمكن فعله أمام عصر أعلن عن غروب الثقافة والفن والفكر والحرية مدعيا تشبثه بالمقدس؟ هل يأمر المقدس بقتل الإنسان للإنسان أو تجريده من حريته وكرامته؟ ومن لا يستطيع أن يرجع الأصل الذي تنبثق عنه هذه الأسئلة إلى اغتراب الحوار، وانهيار الفكر والثقافة؟
قد نتجه إلى درب الصمت، أو بالأحرى إلى ذلك الطريق الذي لا يؤدي إلى أي اتجاه، وبخاصة وأن الفلسفة، في هذا الزمن البائس، أصبحت تقيم في قلب الحرمان، لأنه بدلا من أن تتجه إلى حقيقة الوجود، وأن تدرك عصرها في الفكر، سقطت في هوة الفشل وبدأت تجرب الفشل في حد ذاته، مادام أنها تحشى أن يصيبها الشقاء كما أصاب الإنسان العربي، لأن الانتماء إلى اللغة هو في حقيقة الأمر اشتراك في نفس المسكن، مواجهة شرسة مع قدر الحقيقة.
الواقع أنه إذا كانت اللغة هي مأوى الوجود، فإن الوجود يقتحم الإنسان بلغة هايدغر الذي يقول: «وللإنسان مسكنه في قلب حقيقة الوجود ليقيم فيه». ولذلك فإن الوجود ينتظر دائما من الإنسان أن يتذكره، فهو جدير بأن يفكر فيه، مع العلم أن الفكر هو قوة الوجود لقول الوجود ذاته. هكذا نجد أن: «الميتافيزيقا كانت تفكر في الإنسان انطلاقا من طبيعته الحيوانية، بمعنى أن الإنسان لا يمتلك ماهيته إلا من حيث هو مدعو من طرف الوجود»، إنها الإقامة في نور الوجود وفي ضيائه. لأن ماهية الإنسان تكمن في وجوده، ووجوده يتجلى من خلال فكره. فالفكر ينتج الوجود بواسطة اللغة وحدهم الفلاسفة والشعراء ينقبون على هذا الكنز الثمين.
نعم إن اللغة هي النور المبهر، نداء الوجود، قدر الحقيقة، باعتبارها حضورا لما هو حاضر، ومن جراء عشقها تحول الإنسان إلى راعي الوجود: «اللغة هي مسكن الوجود، ومأوى ماهية الإنسان»، ولذلك فان الإنسان ليس فقط ذلك الكائن الحي الذي يتصرف في اللغة كإرث ثقافي وحضاري بل إن اللغة تطلب منه أن يمتثل لحسن الجوار مع الوجود، وأن يؤدي ما عليه من الإيجار من خلال حسن استعمالها؛ فمن الذي يشعر بهذا الجوار ويسعى إلى رعايته والعناية به؟
هكذا يكون قدر الفلاسفة والشعراء هو حراسة الوجود بحكم امتلاكهم للغة التي تعرضهم للمنكشف، حيث ينال الفقر الجوهري لماهية الراعي الذي يحرس ويعتني بقطيعه: «إنه من ينادي عليه الوجود نفسه يتولى حراسته وصيانة حقيقته». هكذا تتحدد كينونته انطلاقا من قربه من الوجود، لأنه بمجرد ما القي به في حقيقة الوجود، وجد نفسه جارا للوجود، فالشعر يسمي الأشياء ويحفظ الحقيقة من الانهيار، والفكر يمزق الحجاب على حقيقة الوجود، فصداقتهما للوجود ستظل أبدية. لكن ما الذي يجعل الإنسان ينسى جواره مع الوجود ويقوم بتدميره؟، هل بفقدانه لنزعته الإنسانية التي حطمتها العدمية؟ أم بانصهاره في الموجود ونسيان الوجود؟ وكيف يمكن لتلك النزعة الإنسانية التي تفكر في إنسانية الإنسان انطلاقا من علاقة القرب والجوار مع الوجود أن تنبثق في عصر فقد هويته الثقافية واختار مخبأ السياسة الجاهلة؟
يطلب منا هايدغر في رسالته حول النزعة الإنسانية: «أن نبق فيما سيأتي من الأيام نسير في ذلك الطريق كمسافرين ماضين باتجاه مجاورة الوجود والتقرب منه» إنه الحل الوحيد الذي سيخلصنا من النزعة العدمية، ويبعدنا عن غروب الإنسان، لذلك لابد من هدم الأصنام التي تقف كعائق أمام الإنسان وتمنعه من السير في هذا الدرب، ولعل الأدوات الموجودة في يد الإنسان هي الفكر الذي يميز الإنسان عن الحيوان، والشعر الذي يمنحه عظمة الروح عندما يتوحد الوعي بالذات بالوجدان. هكذا سيصيبه قدر الوجود، وتصله تلك الهبة المقدسة التي تأتي من الوجود إلى الفكر: «لأنه ليس هناك من وجود إلا بوجود الكينونة هنا الدازين». ولن يصبح الإنسان غارقا في نزعة العدمية، الهمجية، بل إنسانا، وإنسانا فقط معرض لبريق الوجود، حيث تلمع ماهيته. وإلا حولته العدمية إلى كائن بدون معنى وبدون إقامة شاعرية بالقرب من الوجود.
ينبغي على الإنسان العربي أن يتمتع بنعمة الإصغاء إلى نداء الوجود من خلال قصائد الشعراء، وتأملات الفلاسفة، ويتذكر بأن العدمية تقوم بنسفه وتحطيم كينونته، لتحوله إلى مجرد وحش يدمر جيرانه في هذا العالم.
أديب مغربي
عزيز الحدادي