لا يمكن التعامل مع العشيرة بوصفها بنية لا تاريخية، أي بنية جامدة لا يداخلها التغيير، أو لا تتأثر بالتحولات التي تحدث من حولها. لقد أثر التوطين تأثيرا بالغا في تحول العشيرة من عشيرة رعوية متنقلة، إلى زراعية مستقرة، أوفي الأقل ثابتة في المكان، وهو ما أدى إلى تغييرات كبيرة في طبيعة العلاقات التي تحكم أبناءها من جهة، والعلاقة التي تحكم أبناءها بالشيخ من جهة أخرى، وفي إعادة صياغة العلاقات التراتبية داخل العشيرة من جهة ثالثة. ولعل أهم المتغيرات في بنية العشيرة المتوطنة الجديدة، هو دخول عوامل جديدة في تحديد طبيعة هذه العلاقات وصيغها، فلم تعد الوجاهة الاجتماعية مرتبطة فقط بالأصل النبيل، أو بالقوة والفروسية، أو بالثروة المرتبطة بالعشيرة المتنقلة (الإبل و الغنام والخيول)، وإنما دخلت في ذلك ملكية الأرض، ورأس المال المرتبط بالتجارة، والعلاقة بالدولة، ومستوى التعليم.. الخ.
لقد ظلت العشيرة في العراق عنصرا منفعلا لا فاعلا، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ بمعنى آخر فان وجودها صار ينظر إليه من خلال علاقة السلطة بها وليس العكس. أي أنها تحولت من العشيرة/ الدور إلى العشيرة/ الوظيفة.
إن قراءة تاريخ الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر، عقب انحسار قوتها، وتفسخ مركزيتها بشكل كبير، (كانت حملة إبراهيم بن محمد علي على الباب العالي مؤشرا قويا على هذا الانحسار و ذاك التفسخ)، يكشف عن تحول جوهري في طبيعة علاقتها بالعشائر؛ إذ صارت تحدد علاقتها بالقبائل/العشائر من خلال الوظيفة التي يمكن أن تقوم بها الأخيرة. من المؤكد أن القبائل/ العشائر لم تع هذا التحول، وظلت طيلة هذه المرحلة تتنقل بين الدور والوظيفة تبعا لموازين القوى، إلا إنها في النهاية قبلت بالوظيفة المنوطة بها، وكانت قوانين الطابو إعلانا رسميا عن هذا القبول (لعل علاقة الدولة العثمانية بإمارة السعدون تصلح أن تكون الحالة النموذجية لهذه التحولات). فقد كانت الأراضي الزراعية في العراق حتى منتصف القرن التاسع عشر أراضي أميرية صرف، بمعنى أن ملكيتها تعود للدولة. وعند صدور قانون الأراضي العثماني في العام 1858، الذي وضعه مدحت باشا من اجل تشجيع العشائر على التوطن بهدف تفكيك النظام العشائري، صار من حق العشائر التي تستغل هذه الأراضي، أن تمنح ما يعرف بنظام اللزمة، كما صار بالإمكان أن تفوض إلى الأفراد عن طريق ما يعرف بالطابو. عقب الحرب العالمية الأولى والاحتلال البريطاني للعراق، ثم نشأة الدولة العراقية الحديثة عام 1921. أراد البريطانيون تطبيق النموذج العثماني نفسه، أي تحويل العشيرة من الدور إلى الوظيفة، ولكن بشكل أكثر ضبطا، من خلال مأسسة العلاقة هذه المرة مع شيخ العشيرة بوصفه المالك، والمسؤول الإداري، والنائب البرلماني، وليس الشيخ التقليدي الذي مثل الأب والراعي قبل ذلك. ففي بداية الاحتلال البريطاني للعراق عام 1917، وجد البريطانيون أن النظام العشائري في العراق، وبسبب المحاولات العثمانية المتتالية لتفكيكه، آيل للتحلل. فعمد السير هنري دوبس إلى تطبيق نظام ابتكره الحاكم الإداري لبلوشستان السير روبرت ساندمان سنة 1875، والقاضي بتعزيز نظام «المشيخة»، بل وإعادة تشكيله، من خلال اعتماد نظام خاص لإدارة المناطق العشائرية. وتعزيزا لهذا التوجه أصدر البريطانيون عام 1918 قانون العشائر العراقي. ثم مع صدور (قانون تسوية حقوق الأراضي رقم 50 لسنة 1932)، و(قانون اللزمة رقم 51 لسنة 1932)؛ تم تسجيل أغلب الأراضي الزراعية بأسماء شيوخ العشائر، فأصبحوا المالكين الرسميين لها. وقد تم استكمال هذه الحلقة مع صدور (قانون حقوق وواجبات الفلاح رقم 28 لسنة 1933) الذي ألزم الفلاح بالبقاء والعمل في هذه الأراضي. كما عمد البريطانيون إلى تعزيز سلطة شيخ العشيرة من خلال منح الشيوخ سلطة القضاء في عشائرهم رسميا، فضلا عن مسؤولية حفظ الأمن، وحماية طرق المواصلات، وجمع الضرائب في مناطقهم! كما عمدوا إلى تضمين دستور 1925 للمملكة العراقية مادة تقضي بتأسيس محاكم أو لجان خصوصية عند الاقتضاء لفصل قضايا (الـ «عشائر» الجزائية والمدنية حسب عاداتهم المألوفة بينهم بموجب قانون خاص). وهو القانون الذي صدر باسم قانون محاكم العشائر عام 1936.
بعد ثورة/ انقلاب 1958 تغيرت العلاقة بين الدولة والعشيرة بالكامل، فمع صدور قانون الإصلاح الزراعي، وإلغاء قانون محاكم العشائر، والقوانين الاخرى، تقوضت سلطة شيخ العشيرة بالكامل! ثم ساهمت عوامل أخرى في تحلل العشيرة نفسها، وإن لم تنهها فعليا، فقد شمل التفكك والانحلال البنى العشائرية إلى حد بعيد، ولم تعد «العصبية» القائمة على الدم قادرة على الصمود بوجه التغيرات الكبيرة التي طالت كل شيء. وإذا كان ابن خلدون قد تحدث في مقدمته عن الحواضر بوصفها الوحيدة التي تعمل على الفتك بالعصبية البدوية، فان الوقائع أثبتت أن البنى العشائرية، وبضمنها تلك التي ظلت بعيدة عن الحواضر، قد تعرضت للانحلال والتفكك نتيجة لطبيعة التحولات الاقتصادية الجديدة القائمة على توزيع العمل، وترسخ مفهوم الملكية الخاصة. فضلا عن انتشار التعليم، وطبيعة العلاقة الفردية مع الدولة (أحزاب، أو موظفين، أو ضباط). هذه التحولات جميعها أعادت صياغة التراتبية داخل المؤسسة العشائرية، وأعادت صياغة العلاقات داخلها بشكل يختلف تماما عن التوصيف التقليدي والسائد للعشيرة.
ولكن على الرغم من هذه التحولات التي شهدتها الدولة العراقية على مدى أكثر من ثلاثين عاما، من عام 1958 حتى عام 1991 (أي قبل التحول نحو إعادة إنتاج العشيرة لأغراض براغماتية بحتة بعد حرب الخليج الثانية) فشلت هذه الدولة في تفكيك العشيرة بشكل نهائي، أو على الأقل الحد من سلطة العصبية العشائرية، ليس على المستوى العاطفي حسب، وإنما على المستوى الاجتماعي أيضا. كما لم تستطع الطبقة المتعلمة من أبناء المجتمعات العشائرية، تحديدا المهاجرين إلى المدن، التي حاولت تمثل مقولات الطبقة الوسطى، أن تنتج منظومة قيمية تتسق مع وضعها دائم التحول. خاصة وأن الحجم الديمغرافي الكبير للمهاجرين، بداية من نهاية الأربعينيات، تحديدا إلى بغداد، جعل الولاءات التقليدية للقادمين تفرض نفسها على المدينة لاحقا، خاصة بعد ظهور الجيل الثاني من المهاجرين المتعلمين الذين فشلوا في الاندماج في المجتمع المديني/الحضري القائم، بسبب الحساسيات الاجتماعية والاقتصادية.
بعد العام 1991، أي بعد حرب الخليج الثانية، عمدت الدولة إلى إعادة إنتاج العشيرة، في محاولة للاستعانة بها من أجل الضبط الاجتماعي، في ظل ضعف الدولة وعدم قدرتها على السيطرة، كما كان عليه الأمر قبل ذلك التاريخ، وكان هذا ناتجا عن الحاجة إلى ملء الفراغ الذي نتج عن تدمير الحراك السياسي بداية من العام 1978 وانهيار الجبهة الوطنية، فضلا عن تدمير مؤسسات المجتمع المدني الذي بدأ مبكرا جدا، وتحديدا منذ العام 1958؛ حيث حكم الاستقطاب الحزبي هذه المؤسسات بشكل كامل، وتحولت إلى رديف للحركات السياسية المتصارعة، و تدمير المجتمع المديني (ولا أقول الطبقة الوسطى) مع العقوبات الاقتصادية. إن إعادة الإنتاج هذه لم تهدف إلى استعادة العشيرة لدورها في مجالها الطبيعي في المناطق الريفية وحسب، وإنما تعداه إلى تنمية حضورها في المجتمع المديني نفسه، مما أدى إلى تفكيك بنى هذا المجتمع الضعيفة والمتهالكة. بعد الاحتلال الأمريكي في نيسان/ابريل 2003، وانهيار الدولة ووسائل الضبط الرسمية، حاول شيوخ العشائر العمل على إعادة إنتاج الدور الاجتماعي والسياسي للمؤسسة العشائرية من خلال تشكيل تجمعات ومجالس من أجل استعادة وظيفتها كأداة للضبط الاجتماعي من جهة، والتفكير في إمكانية توسيع دورها من خلال الدخول في دائرة السلطة. ولكن بدا واضحا، من خلال تشكيل مجلس الحكم في 13 تموز/يوليو 2003، أن سلطة الائتلاف المؤقتة لم تعترف، وربما لم تقتنع بمنح دور لشيوخ العشائر في إدارة السلطة، ولو شكليا في العراق. هكذا خلا المجلس من شيوخ العشائر تماما وظلت المؤسسة العشائرية، وشيخ العشيرة بشكل خاص، في إطار الوظيفة وليس الدور، فقد وجدنا القيادات الميدانية في الجيش الأمريكي تتيح لشيوخ العشائر مساعدتها، وليس مشاركتها، في الإدارات المحلية لبعض المناطق. لقد فشل أنموذج الصحوات مع نهاية عام 2006 وهو النموذج الذي اعتمدته القوات الأمريكية في العراق لإعادة إنتاج العشيرة، من خلال إعادة إنتاج سلطة شيخ العشيرة، سواء عبر شيوخ حقيقيين، أو شيوخ مصطنعين (شيوخ بترايوس). وقد حاول المالكي اعتماد السياسة نفسها، في المناطق السنية من خلال انتاج الصحوات الجديدة التي شكلها في شباط/فبراير 2013، من خلال (شيوخ المالكي) هذه المرة، وقد انتهت هذه المحاولة مع دخول داعش! وكان النموذج الشيعي لهذه السياسة يمثله من اطلق عليهم المالكي «شيوخ الاسناد».
اليوم، يبدو أننا أمام مشهد جديد في العلاقة بين الدولة والعشيرة، من خلال قانون يحاول إعادة إنتاج سلطة شيخ العشيرة المتحللة أصلا، لغايات قصيرة النظر. ففي خطوة غير متوقعة، تقدم الدكتور فؤاد معصوم، رئيس جمهورية العراق، بمشروع قانون إلى مجلس النواب لتشكيل مجلس بعنوان «مجلس قبائل وعشائر العراق». وقد سوغ القانون هذا المجلس بانه محاولة «لدعم دور القبائل والعشائر العراقية في اسناد الدولة»! وهو ما يعيد طرح العلاقة الإشكالية بين الدولة والعشيرة، والتي شهدت تحولات وتجاذبات طوال تاريخ العراق الحديث كما أسلفنا، لاسيما مع محاولات العشيرة نفسها استعادة دورها القديم، كسلطة منافسة للدولة، لأغراض ذات أهداف اقتصادية. وهو مشهد يأتي في سياق تقويض الدولة، وليس دعمها. تماما كما كان الامر مع قانون الحشد الشعبي! وهو مشهد وغير عقلاني تماما سيدخل العراق في مرحلة انقسامات اخرى تطال المجتمعات المحلية اضافة إلى الانقسامات الطائفية والاثنية التي تمزق العراق اليوم.
٭ كاتب عراقي
يحيى الكبيسي
مشكلة ضعف الدولة وقوانينها هي السبب في قوة شيوخ العشائر بالعراق الآن
ولا حول ولا قوة الا بالله
لقد كادت العشائرية أن تنتهي في سبعينيات القرن الماضي في العراق بعد أن رفعت الدولة شعار لا عشائرية ولا طائفية والغيت الالقاب من اسماء المسؤولين سوى رئيس الجمهوريه احمد حسن البكر وبعد سيطرة صدام حسين على السلطة بعد تنحية البكر ولكونه ذو عقلية عشائرية ويريد اسناد كل المناصب المهمة في الدولة( الامنية تحديدا في بداية الامر) الى إخوانه واقربائه أتاح شيء فشيئا السلوك العشائري في الدولة فلذلك نرى هناك وزارات غير امنية اكثر مدراءها العامون من نفس العشيرة واستفحل الامر اكثر بعد حرب الخليج الاولى والثانيه فبدأ باستقبال شيوخ العشائر من مدن العراق وتكريمهم
الله يرحم والديك يحيى الكبيسي =المهنية