العراق بلاد المليون جذع نخلة ونخلة

■ كنا رفقة مسؤول أممي كبير أبى إلا أن يزور العراق، رغم الظروف الأمنية غير المستقرة، بهدف الوقوف عن كثب على احتياجاته الإنسانية والإعمارية، بعدما بنت قراءاته ومسموعاته عنه صورة جميلة له في المخيلة.
كان يؤكد على أن هذا البلد قدم للحضارة الإنسانية كل شيء جميل بكرم نادر، وبات على الإنسانية أيضا أن تقدم له اليوم كل ماعندها وفاء لدين قديم. لم يتورع المسؤول عن زيارة أي منطقة أو محافظة، ولم تردعه الحدود الطائفية والإثنية التي كانت تشير إليها السيطرات الأمنية بأعلامها المرفوعة. فهذه السيطرة مرفوع عليها علم الأكراد، للإشارة إلى أننا في حدود دولة الأكراد، وتلك عليها علم التركمان للإشارة إلى أننا في بلاد التركمان، وغيرهما عليها أعلام ورايات ما أنزل الله بها من سلطان، لكنها تشير وبوضوح إلى حدود الطوائف والأقليات.
وفي طريق العودة كنا لازلنا في السيارة، التفت إليّ الرجل ورمقني بنظرة طويلة خلتها دهرا، وكان الأسى يقطر من عينيه دمعا، وعلت قسمات وجهه سحابة ألم وحيرة وحسرة. أهذا هو بلد الثلاثين مليون نخلة الذي كنت تغويني به كثيرا؟ أهذا هو بلد ألف ليلة وليلة، والمنصور والرشيد وحواضر العلم في بغداد والكوفة والبصرة؟ أين عيون المها التي تملا المساحة بين الرصافة والجسر؟ وأين صوت خرير الماء الصافي من جداوله وأنهاره وغدرانه؟ بل أين الإنسان فيه؟ هكذا كرت الأسئلة من بين شفتيه بمرارة لاذعة، ولم أتخيل أبدا أنه سوف يجهش بالبكاء والنشيج، كفتى علم أن أمه أصابها مرض السرطان، وباتت على مشارف النهاية. هذا بلد المليون جذع نخلة ونخلة. هكذا قال، بعد أن رأى بعينيه غابة نخيل انتهك غرورها بطولها الفارع، عدد من الآليات التي راحت تدك بقوة جذوعها فتطرحها أرضا.
نزل كالمجنون مهرولا نحو المكان، متسائلا عن مدى أهمية المشروع الذي سيقام على هذه الأرض، هل هو صرح علمي كبير؟ أم مشروع صناعي إستراتيجي يستحق أن تدمر فيه كل هذه الغابة من أشجار النخيل، فجاءه الجواب أن مسؤولا في السلطة أعجبه المكان الواقع على ضفاف النهر، فاشترى غابة النخيل كي يشيد عليها قصرا منيفا له ولابنائه وأشقائه، عاد فجلس في مقعده ينظر من خلف زجاج النافذة.
كانت أشجار النخيل تميل بقوة نحو الأرض بفعل ضربات الآليات ثم تنهض من جديد. كانت تصرخ من وجع العراق وليس وجعها وحده. كانت تستغيث، تبكي، ثم تنطرح أرضا، وما هي إلا لحظات حتى بات هنالك هرم من جذوع النخيل.
قد تلخص كلمات الرجل في وصف العراق اليوم حقيقة كبرى، يلمسها كل إنسان في هذه الرقعة الجغرافية، لكن لم لا تبرز قوى التغير على أرض الواقع؟ هذا هو السؤال المهم. فمعايشة الواقع المؤلم ليست هدفا، كي نقول بعدها بأننا صبرنا، بل يجب أن يكون التشخيص هو الهدف الأول كي نستطيع بعدها القيام بعملية المعالجة. معايشة الواقع بكل مآسيه ونتائجه الكارثية ليست بطولة، بل هي قد تكون في أغلب الأحيان تعبيرا عن حالة يأس مدقع وعار، وانسدادا تاريخيا لافق الحل، إلى الحد الذي يصبح وكأنه قدر علينا أن نقبل به ونتعايش معه، وهذه حالة خطرة جدا تمر بها الشعوب والأمم. قد نعزي الحالة الراهنة إلى الوضع السياسي الشاذ والمعقد الذي فرض على الوطن، وهي حقيقة حية رافقها وضع اقتصادي وأمني واجتماعي سيئ مس كل جوانب المجتمع وحياة الناس، لكن علينا أن نتذكر جيدا أن هذا الوضع الشاذ، وهذه الطبقة السياسية القادمة من مستنقعات الجهل والظلامية، ليست حدثا جديدا على هذه البلاد. لقد مر العراق بظروف مشابهة، كما مرت بلدان كثيرة بالظروف نفسها، لكن المراهنة على الإنسان لم تخب يوما لانه الوحيد صانع التاريخ والأقدار. يقول لي صاحبي ونحن نغادر العراق، إنه اكتشف أن المشكلة في الإنسان أيضا. قلنا كيف؟ قال، إنه لم يجد تفسيرا منطقيا لكيفية قبول العراقي العيش في قعر المأساة، ولا يخرج شاهرا سيفه على الباطل والظلم والفقر والجوع والمرض؟ كيف قبل أن يتعايش مع الجدران الكونكريتية، والفصل الطائفي للأحياء والمدن والمحافظات، ومؤسسات الدولة؟ كيف قبل أن يتقزّم تحت خيمة الطائفة، ويتقوّقع ضمن حدود مدينته الصغيرة وحيه والزقاق الذي يعيش فيه، بدلا من الخروج الحر في ارجاء الوطن ككيان مادي ومعنوي؟ قلنا إذن أنت تُحمّل المواطن في هذا البلد المسؤولية الكاملة عن الحالة الكارثية التي وصل إليها. قال، ذلك صحيح ومن هذه النقطة يجب أن يخرج الحل، لأن البلدان المتخلفة سياسيا يجب أن يتحمل فيها الافراد والشخصيات الاعتبارية المعنوية، كرجال الدين وزعماء العشائر ورؤساء القبائل والمثقفين والتكنوقراط، عبء التصدي للفعل السياسي المتخلف، وتقويم وإصلاح الاعوجاج في الطبقة الحاكمة. أما في الأنظمة السياسية المتقدمة والبلدان المتطورة، فلا حاجة للمواطن فيها أن يتحمل العبء الأكبر في هذا الجانب، لأن المؤسسات الديمقراطية قادرة على إصلاح نفسها، وهي التي تقوّم اعوجاج العملية السياسية، وهي من تحكم على اللصوص والمرتشين بالموت السياسي، وتبعدهم تماما عن مواقع المسؤولية طوال الحياة، وهي التي تحاسب وتسأل من اين لك هذا، وأين صُرف المال العام، وهي التي تحقق العدالة الاجتماعية وترفع الظلم عن المظلومين.
إننا في بداية عام جديد يفترض أن يراجع فيه العراقيون جميعا مواقفهم من انفسهم، ويبحثوا جديا في الاسباب والعوامل التي كانت قد صهرتهم في بوتقة الوطن، بعيدا عن جميع الهويات الصغرى، كي نتلمس مجددا طريق العودة إلى الهوية الوطنية. فالهويات الصغرى لا تمنح الشعوب الحية أفقا واسعا نحو المستقبل، لأن مواردها البشرية غير كافية كي تكون عامل نهوض، بينما الهويات الكبرى دائما تكون دافعا قويا للنهضة وصناعة التاريخ. كما أن قراءتنا للتاريخ يجب أن تكون استلهامية وليست تقليدية، فما الفائدة من خروجنا بالملايين استذكارا لحادثة تاريخية حصلت أو مظلمة وقعت، بينما لا نحرك ساكنا ضد الظلم الكبير الذي نعيشه ونعانيه، فمن لا يعي بحاله ولا يشعر بمأساته، كيف له أن يشعر بمعاناة ومأساة الاخرين؟ كما أن الحالة الراهنة ستكون إرثا مأساويا للأجيال القادمة إن لم نتحمل مسؤولية التغيير.

٭ باحث سياسي عراقي

د. مثنى عبدالله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    ، فما الفائدة من خروجنا بالملايين استذكارا لحادثة تاريخية حصلت أو مظلمة وقعت، بينما لا نحرك ساكنا ضد الظلم الكبير الذي نعيشه ونعانيه، فمن لا يعي بحاله ولا يشعر بمأساته، كيف له أن يشعر بمعاناة ومأساة الاخرين؟
    – إنتهى الإقتباس –
    نعم يا دكتور مثنى – كلام صحيح 100%
    ولكن ألا يكون هذا الخروج إستسلاما للواقع
    أي قبول بالظلم بسبب المذهب والتضحية بالوطن
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول منى*الجزائر*.:

    نعم الرهان كله على الإنسان ؛المواطن العراقي ؛هو من عليه الخروج من قوقعة الطائفية والجهوية و……لكن من يحرك الشارع او المواطن!؟لا يكفي الشعور بالمأساة واستشعار الواجب والمسؤولية تجاه الوطن والاجيال القادمة كي يخرج الشعب العراقي بالملايين ليقول*كفى*هناك دور يلعبه المثقف اولا بحسن توظيف الإعلام لخدمة القضية….
    الإستمرار بكتابة المقال في الصحف ايا كان نوعه تعليق عمود مقال تحليلي مقال افتتاح ….في الصحافة المكتوبة او الالكترونية .او برامج منوعة في التلفزيونات والإذاعات تتبني مشروع واحد هو انتشال العراق من المأساة التي يعيشها .هو الحل الوحيد.
    امامكم استاذ مثنى عبدالله عمل شاق وطويل لتحريك ضمير الإنسان العراقي انت وكل أحرار العراق اصحاب المبادئ والوطنية…..
    اتمنى للعراق الشقيق من اعماق قلبي ان ينتصر على الشر المتربص به وان يعود شامخا ابيا ليس كما كان ..بل أحسن مماكان …
    دولة بأتم معنى الكلمة يعيش فيها المواطنون بكل اطيافهم في أمن وأمان وسلام.
    تحية لك استاذنا مثنى عبدالله وتحية للأخ كروي وللقراء الكرام.

    1. يقول الكروي داود النرويج:

      حياك الله يا أستاذة منى وحيا الله الجميع
      لقد أعجبني تعليقك على مقال الأستاذ إلياس خوري
      عقبال الماجستير والدكتوراه ورئاسة الجزائر – ولم لا ؟
      ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول منى*الجزائر*.:

    اضحك الله سنك ياشيخ المعلقين…
    رئاسة الجزائر مررة وحدة؟!!!
    هل هي رؤية ام ماذا؟
    هههههه
    ربي يحفظك من كل سوء استاذ داوود كروي ويحفظلك أحبتك من كل سوء.

  4. يقول مسلم:

    ا.حياك الله د.مثنى على كل طروحاتك في تشخيص وضع العراق ،هذا البلد الذي ولدنا وترعرعنا فيه،وحيا الله الاخ داوود والاخت من الجزائر الحبيب،،من وجهة نظري ان ماوصل اليه بلدنا من الامراض المزمنه والعقد مالم يعد عقلانيا ان نتوقع قدرة المواطن العراقي بكل كفاءاته واطيافه ان يستطيع ان يغيره والسلطة وصلت الى ما وصلت عليه من جبروت ومليشيات تحميها باقذر الاساليب التي عرفها انسان..بل ارى ان على النخب وكل من له ضمير حي في الخارج والذين قادرين على روية الحقيقة بحيادية اكثر ولااقول تامة،عليهم جمع كل امكانياتهم وهى اكثر من المواطن داخل العراق،،خصوصا الاعلامية ،،ومجتمع مدني ،للضغط على المنظمات والحكومات الدولية للتدخل بالقوة كما تدخلت قبل هذ ا ،وهذا من مسوليتها لانها السبب الاكبر في ما وصلنا اليه،،لاقامة حكومة تكنوقراط من اكفأ الكفاءات في الخارج وهم كثر،خصوصا بعد تواجد داعش وما سببته من رعب لكل العالم،وعدم قدرة مثل هذه السلطة في اقناع اي عاقل بانها يوم ما يمكن ان تقيم دولة صحيحة ،حكومة تكون بعيده عن كل الامراض التي يعيشها العراق حتى يستطيع علاجها والا فكيف للمريض ان يعالج نفسه ولوكان طبيبا.

    1. يقول الكروي داود النرويج:

      حياك الله عزيزي مسلم ولا فض فوك وحيا الله الجميع
      ولا حول ولا قوة الا بالله

  5. يقول عبدالله العمري:

    دكتورمثنى مع التحية
    إن المقال أنكأ لنا جراحاً غائرة في نفوسنا لم تندمل وجروحاً غائرة في الجسد ودموعًا لم ترقأ لما فعل بالعراق من منظمة الأمم المتحدة وجمعيتها العامة ومجلس الأمن وقراراتها الجائرة بحق العراق وشعبه ولعدم الأسهاب أشير الى قرار مجلس الأمن السئ الصيت 661 أغسطس 1991 والقاضي بحصار شعب العراق لذي حصد أرواح مليون ونصف المليون من أطفال العراق عدا الشيوخ والمرضى وأصبح العراق بسببه متخلفاً بل خارجاً عن عصر الصناعة ..وقرار مجلس الأمن رقم 687 في 3 أبريل1991 الذي طالب العراق بالكشف على أسلحة الدمار الشامل وقبول تدميرها وتشكيل لجنة خاصة بأسلحة العراق والتي لعبت هذه اللجنة دور مخزي لطخ سمعة وشرف الأمم المتحدة لا يزيله كل مطهرات ومنظفات العالم مدى الدهر. ولم تكتفي الأمم المتحدة بهذه القرارات ونتائجها المدمرة للعراق وقتل شعبه بل أذنت لأمريكا وحلفائها 34 دولة من بينها 8 دول عربية في 17يناير 1991 الحرب على العراق بحجة تحرير الكويت شن هذا التحاف بطائراته 109877غارة جوية خلال 43يوم بقنابل قدرت ب60624 طن لم يسلم منها حتى الملاجئ والشاهد على ذلك ملجأ العامرية في بغداد .أستعمل فيها حتى قنابل اليورانيوم المنضب والقنابل الفسفورية والعنقودية وصواريخ كروز وغيرها التي لم تعرف بعد دمرت كل البنى التحتية التي سلمت أو بقى جزء منها سالما في حصارها أعلاه ..
    هذا هو جزء بسيط تم ذكره من أفعال بل وأقول من جرائم قرارات الأمم المتحدة ومفتشيها عام 1991 وما أعقبه وصولاً الى إحتلال العراق من قبل الأمريكان وحلفائها عام 2003 ولم تفعل الأمم المتحدة شيئاً بل تركته ممزقاً بيد المحتليين الأشرار
    دكتور مثنى
    أسمح لي والقراء الكرام بكل ما ذكرته أعلاه من جرائم ان أرذعلى تباكي المسؤؤل الأممي الكبير على حال العراق وشعبه في هذا الوقت التي رفعت فيها رايات الخبث الطائفية و القومية الشوفينية لأخراج العراق من الساحة السياسية و محو خريطته الجغرافية وأتسائل هل هذه الدموع دموع التماسيح أم دموع الفرح لما حل بشعب العراق أم كانت دموع وخز ضمير ؟؟؟؟
    نقول لهذا الأممي نعم هذا العراق بلد المليون نخلة وهذا بلد النبي إبراهيم أبو الأنبياء قاطبة يهوديها ومسيحيها وأسلامييها نعم هذا عراق حمورابي ونبوخذ نصر وسنحاريب والمثنى وهارون الرشيد والمأمون وهذا شعب العراق دحر قوات التحالف ومرغ أنوف الأمريكان وكسر هيبتهم ..سينهض يوما بسواعد أهله ويكون فناراً ومناراً يهتدي به السراة .

إشترك في قائمتنا البريدية