■ بعد سوريا، اشتعل العراق شماله وغربه، وستمتد المعارك الى وسطه وجنوبه. وربما مثل سوريا يصبح صومالا آخر. القوى المتصارعة هناك متعددة بين حكومة أغرقت البلاد في الفتنة الطائفية، تساندها ميليشيات ذات سمة طائفية أيضا وجيش من المتطوعين ذوو صبغة طائفية، وصحوات أسسها الامريكان، وجماعات عشائرية مسلحة انتفضت على التهميش والتمييز العنصري والاقصاء، وبعث قديم متجدد، وجماعات اسلامية مسلحة منها، الوسطي ومنها الراديكالي والتكفيري، عراقيون في معظمهم، ولكن ساحات القتال المفتوحة على بلد حدوده شاسعة يفتح الابواب لمتحاربين وفدوا اليه من كل حدب وصوب ليساندوا اهل مذهبهم في حرب يظن كل طرف انه رابحها وهم جميعا واهمون.
بدأت الحكاية عندما وضع الامريكان دستورا عراقيا طائفيا بامتياز، فرح السياسيون من الطائفة الشيعية بالامتيازات التي حصلوا عليها، وظنوا انهم سيستقرون وينعمون بخيرات البلاد! تتردد في الشارع العربي مقولة ان امريكا قدمت العراق لقمة سائغة، على طبق من فضة لايران، اما لان امريكا غبية او مضطرة، والبعض الآخر يذهب ابعد من هذا ليدلل بذلك على ان ايران وامريكا عدوتان في العلن وحليفتان سرا! وهذا تسطيح للامور. امريكا، القوة العظمى أو الأعظم لا يمكن ولا ينبغي لها أن تكون غبية الى هذا الحد، الاقرب الى العقل والمنطق انها لم تكن مضطرة ابدا، ولم تتحالف مع ايران لا طوعا ولا كرها. امريكا ومؤسسات البحث والتحليل ومعاهدها المتخصصة في الدراسات الاستراتيجية والتكتيكية والتنبؤات العلمية للمستقبل السياسي للعالم، وبالأخص منطقتنا العربية، ليست ابدا جاهلة بتاريخ المنطقة، وصراعاتها المذهبية على مدى القرون الماضية. هذه ليست اسرارا، بل تاريخ موثق ومتاح للجميع، فما بالك للباحثين والمحللين والاكاديميين.
وضع الدستور العراقي الجديد بعناية فائقة، لا حبا بالشيعة، ولا كرها بالسنة، ولكن ليبقى العراق بؤرة لصراع طائفي لا ينتهي، ولا يتوقف داخل حدوده، بل يمتد شرره الى دول الجوار. ها هو الرئيس الامريكي اوباما يعلن انه لن يرسل قواته الى العراق، ويدعو الى ان تتوافق القوى السياسية فيه، وهو يدري انها لن تتوافق. اذا كان حليفا لايران فلماذا لا يدعم حكومة المالكي ضد كل القوى العسكرية التي تحاول الاطاحة به؟ انه نفس المشهد في سوريا، نظام الاسد يدعي ان امريكا تدعم الجماعات المسلحة ضده، والاسلاميون يعتقدون ان امريكا حليفة الاسد سرا، لذا فهي خرساء على جرائمه الكيماوية وبراميله المتفجرة، وكلاهما على خطأ. امريكا سعيدة بالحرب الطاحنة في سوريا والانفلات الامني في العراق، وأكثر سعادة وهي تراقب، وتعمل جاهدة بكل الوسائل، على ان لا ينتصر احد في هذا الصراع الدموي، والهدف ان يستمر اكبر فترة زمنية ممكنة، او ان امكن للأبد. اما الهدف فبسيط جدا استنزاف مقدرات البلاد وتحويل العراق وسوريا الى دولتين فاشلتين او شبه فاشلتين .أمريكا ليست حليفة لطرف على حساب الآخر، لكنها حريصة على ابقاء التوازن العسكري الدقيق جدا بحيث لا يختل ميزان القوى ولا ينتصر احد.
الصراعات العسكرية في منطقتنا لم ولن تكون ابدا محلية. نحن لا نقرأ التاريخ، لا القديم منه ولا الحديث. الحرب العراقية الايرانية التي استمرت سنوات ثمان دامية 1980 ـ 1988 من انتصر فيها؟ وقبلها وخلالها الحرب الاهلية اللبنانية الدامية جدا 1975 ـ1991 من انتصر فيها؟ اختلاف الاجابات على هذين السؤالين البسيطين يؤكد حقيقة بسيطة جدا لا يريد البعض ان يسّلم بها، لم ينتصر أحد، انهزم الجميع، اخلاقيا واقتصاديا، بالضبط كان ذاك هو المطلوب، استنزاف بل تدمير مقدرات البلاد، وقد حصل، أليس كذلك؟
تغيرت استراتيجيات المنطقة، في الماضي القريب، كان العدو الاسرائيلي هو عدو الامة كلها، عربية أو اسلامية، ولو حتى نظريا فقط. الآن اصبح الصراع سنيا شيعيا، في العراق وسوريا واليمن والبحرين، وربما لاحقا في المنطقة الشرقية من السعودية والجنوبية من ايران. هذا لا يعني أبدا ان النظامين السوري والعراقي يجب أن يبقيا، كلاهما أوغل في دم الناس ورحيلهما مهمة وطنية. دول المنطقة كلها، بعضها انفجرت براكينها واخريات على حواف براكين ستنفجر في اي لحظة. إن كان مخاضا، فلا شك أنه مخاض عسير جدا. المعطيات على الأرض لا تبشر بالخير، لست متفائلا هذه المرة، وأتمنى، بحرقة أن أكون مخطئا.
٭ كاتب فلسطيني
د. خليل قطاطو