جاء في التقرير الأخير الخاص بحقوق الإنسان (تشرين ثاني/ نوفمبر 2016) الذي تصدره بعثة الأمم المتحدة في العراق بشكل دوري: «لا يزال مكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الانسان في البعثة يشعر بالقلق لعدم وجود التزام ثابت بمعايير الإجراءات الأصولية ومعايير المحاكمة العادلة»!
وجاء في موضع آخر: «يبقى امتثال القضاء بالإجراءات الأصولية الدولية والدستورية ومعايير المحاكمة العادلة تكتنفه المشاكل… ونادرا ما يحقق القضاة في الادعاءات بان الاعترافات كانت قد انتزعت بالقوة او من خلال التعذيب وإساءة المعاملة، مفضلين الاعتراف بها كدليل ويأخذون بها لإدانة المتهمين»! وتأكيدا على هذا التقييم ينقل التقرير وقائع محاكمة 36 متهما بإخفاء وقتل 177 جنديا في معسكر سبايكر كان مكتب المفوض السامي لحقوق الانسان قد رصدها بنفسه بتاريخ 27 كانون الاول/ ديسمبر 2015: قبل بدء الجلسة قام أقارب الضحايا بإهانة وتهديد المتهمين، وصاح أحد الأشخاص بان محامي المتهمين يدعم الارهابيين وانهم سوف يقتلونه، لم يتدخل القاضي للسيطرة على المحكمة او ردع أحد، كان لدى 7 فقط من المتهمين محامين ولم يكن من الواضح فيما إذا كان أي من المتهمين كانت لديه الفرصة لرؤية محاميه قبل المرافعات، لم يحضر من هؤلاء المحامين سوى محام واحد، «وتم تعيين محام آخر صادف وجوده في المحكمة» بيد انه لم يتم تأجيل المرافعة لمنحه الفرصة للتشاور مع موكليه او لتحضير دفاعه! وفيما بعد يبين ان المحامي الأول كان قد هرب من قاعة المحكمة خوفا من التهديدات، لم تقدم أي إفادة تم الإدلاء بها في المحكمة دليلا يثبت علاقة المتهمين بالأعمال التي اتهموا بارتكابها! تم ارجاء المرافعات إلى موعد لاحق. ثم يقوم التقرير بنقل وقائع جلسة المحاكمة التالية التي جرت في 18 شباط/ فبراير 2016 والتي استمرت لمدة ثلاث ساعات تقريبا حكم خلالها 40 متهما (من مجموع 47 متهما هذه المرة) بالاعدام: أشار تسعة متهمين بأنهم وكلوا محامين ولكن لم يكن أي منهم حاضرا أثناء المحاكمة، عين القاضي محاميا صادف وجوده في المحكمة لكي يترافع عن جميع المتهمين ال 47، وكما في المرة السابقة لم يستطع المحامي التشاور مع الموكلين او لتحضير دفوعه، خلال الاستجواب ادعى 19 متهما بانهم تعرضوا للتعذيب خلال الاستجواب، وأدعى آخرون بانهم اجبروا على الاعتراف او توقيع اعترافات مزورة، رفض القاضي هذه الادعاءات رفضا قاطعا! وعندما حاول أحد المتهمين ان يبين للقاضي آثار التعذيب «رفض القاضي التحقيق في الادعاء»! وعندما طعن المتهم نفسه بصحة التوقيع على اعترافه المزعوم «قام القاضي بتوبيخه مدعيا بان شرف المهنة يمنع المحققين من تزوير هكذا وثيقة»! عندما عمد المحامي «الطارئ» والوحيد بقراءة مطالعته والتي دعا فيها إلى تبرئة المتهمين على أساس عدم كفاية الأدلة وادعاءات التعذيب قام أقارب الضحايا بأعمال شغب «وحاولوا الاعتداء على المتهمين» مما اضطر القضاة إلى مغادرة قاعة المحكمة، بعد استعادة النظام، وفي غياب المحامي الذي رفض العودة إلى القاعة، نطق القضاة بالحكم: الحكم بالإعدام على 40 متهما وتمت تبرئة 7 لعدم كفاية الادلة. في 31 تموز/يوليو أيدت محكمة التمييز 36 حكما بالإعدام من أصل 40 وتم تخفيف حكم واحد إلى السجن المؤبد واسقطت ثلاثة احكام وأيدت أحكام البراء السبعة. بتاريخ 14 آب/اغسطس وقع رئيس الجمهورية على المرسوم النهائي على تنفيذ أحكام الإعدام ال 36 في جريمة معسكر سبايكر! في 21 آب/اغسطس قامت السلطات العراقية بإعدام المحكومين في سجن الناصرية! في 23 آب/اغسطس عبر المفوض السامي لحقوق الإنسان في الامم المتحدة عن إحباطه بسبب عمليات الاعدام مبينا ان معايير المحاكمة العادلة لم يلتزم بها! لينتهي التقرير بالقول: إن محاكمة سبايكر بعيدة تماما عن المعايير الدولية للمحاكمة العادلة!
لقد تعمدنا نقل هذه الوقائع لإثبات أن أي حديث عن وجود قضاء عادل في العراق مجرد خرافة، وان هذا القضاء المسيس، والخاضع لإرادة الفاعل السياسي، يشكل واحدا من اهم مظاهر أزمة الدولة في العراق، خاصة في ظل تواطؤ محلي ودولي مع هذا القضاء، والتعاطي مع ما ينتج عنه، سياسيا (من خلال المحكمة الاتحادية)، أو جنائيا (من خلال مجلس القضاء الاعلى) على انه نتاج قضاء حقيقي يلتزم بالمعايير الدستورية والقانونية المحلية والدولية، مع يقين الجميع ان الأمر ليس كذلك.
ظلت فكرة الفصل بين السلطات مغيبة في الممارسة السياسية العراقية على مدى تاريخه الحديث، وإذا كان القانون الأساسي لعام 1925 قد حاول الاقتراب من المفهوم من دون النص عليه بشكل صريح، فإن الدساتير الجمهورية بداية من العام 1958 قد أسقطت هذا المفهوم تماما. سواء من خلال عدم ذكره في الدساتير المؤقتة المتتالية (1958، 1964، 1968، 1970)، أو من خلال الممارسة السياسية التي شهدت احتكارا أحاديا للسلطات بشكل كامل. على الرغم من حرص هذه الدساتير جميعا على ايراد عبارة شكلية لا محتوى لها عن «استقلالية القضاء»!
المفارقة أن الاحتلال الأمريكي للعراق هو الذي فرض مبدأ الفصل بين السلطات بشكل صريح في قانون إدارة الدولة المؤقت الصادر في آذار 2004. وقد اعتمد الدستور العراقي 2005 هذا المبدأ. وكانت النتيجة الأهم لهذا الالتزام إقرار استقلالية القضاء. ولكن طبيعة الذهنيات الحاكمة، وعلاقات القوى المختلة، أعادت مرة اخرى إنتاج العلاقة التي حكمت مؤسسات العراق منذ بداية تأسيسه الحديث عام 1921. أي أن نكون بإزاء ممارسة سياسية تتحرك بعيدا عن النصوص الدستورية والقانونية التي يفترض أنها الوحيدة الحاكمة! فقد فشلت السلطة القضائية فشلا ذريعا في الحفاظ على استقلاليتها، وسمحت للفاعل السياسي الأقوى، بتحويل القضاء إلى مجرد أداة لتكريس السلطة من جهة، ولتصفية الحسابات السياسية من جهة ثانية. وكانت ثمة عوامل حاسمة في تكريس هذه التبعية من بينها شمول اغلب القضاة بالاجتثاث وبالتالي امكانية أزاحتهم من مواقعهم متى ما قرر الفاعل السياسي ذلك، فضلا عن ذهنية القاضي العراقي الموروثة في الخضوع للسلطة السياسية وتجيير احكام القضاء لصالحها، واخيرا سياسة الاغداق المالي!
إن فشل القضاء العراقي في الالتزام بالمعايير المتعلقة بإلقاء القبض والاتهام والتحقيق، فضلا عن فشله في الالتزام بمعايير المحاكمة العادلة كانت سببا حاسما في تفشي ظاهرة الاعتقال العشوائي، والاتهامات الجزافية، والتحقيقات غير المستوفية للشروط القانونية، والتعذيب المنهجي للمتهمين، واعتماد الاعترافات المزيفة والمنتزعة بالإكراه، ومنع المتهمين من الحصول على دفاع حقيقي، وأخيرا في اصدار أحكام سريعة كأنها معدة سلفا!
لا يقتصر الامر هنا على معايير المحاكمة العادلة فقط، فقد كان القضاء العراقي، وما زال، عاملا حاسما في زيادة حدة الأزمة السياسية، بدلا من ان يكون حكما عليها. فقد استخدم هذا القضاء بشكل منهجي في فرض أحادية السلطة، عبر قرارات المحكمة الاتحادية التي قوضت احكام الدستور العراقي، وقوضت الفقه الدستوري نفسه، بإصدارها قرارات «حسب الطلب» لتكريس هذه السلطة! كما كان مجلس القضاء الاعلى اداة في صراع تصفية الحسابات السياسية بشكل صريح! كما كان له دور مركزي في التلاعب بالانتخابات عبر الهيئة القضائية التمييزية التي اشترطها قانون الانتخابات! فقد كان قبول الترشيحات من عدمها، وتغيير النتائج الانتخابية لصالح أطراف محددة، عاملا حاسما في توجيه الانتخابات ونتائجها لصالح الفاعل السياسي الأقوى!
إن أي تفكير بتسوية سياسية، أو إصلاح سياسي في العراق، لا يتعاطى مع هذه الحقائق، وبالتالي لا تكون إعادة هيكلة هذا القضاء على رأس اولوياته، لن يكون سوى جزء من سياسة «تدوير الأزمة»!
٭ كاتب عراقي
يحيى الكبيسي
القضاة بالعراق إما مرتشين أو خائفين !
ولا حول ولا قوة الا بالله