تشير التقارير الحقوقية الدولية والمحلية، بشكل مستمر، إلى انتهاكات حقوق الإنسان، في العراق، خاصة في مجال حرية التعبير. في المقابل، بات من المألوف استنكار النظام لهذه التقارير واتهامها بالتلفيق والتزوير، وفي أحسن الاحوال، يقوم المتحدثون باسم النظام بانتقاء ما يرغبون بترويجه من التقارير وطمس البقية. وشهدت السنوات الأخيرة حصر كل ما يصيب المواطن من مصائب، حتى الخدمية منها، بفترة ما بعد حزيران/ يونيو 2014، أي تاريخ إعلان تأسيس «الدولة الأسلامية» في مدينة الموصل، في الوقت ذاته الذي يتم فيه التعامي عن إرهاب النظام وميليشياته، المتبدية فسادا وطائفية، وإرهاب المحتل المتبدي جرائم ونهبا.
إن انتقائية النظام في التعامل مع حرية التعبير ليست عفوية، بل هناك حملة منهجية، منظمة، لمسح أحداث كارثية مر بها المواطن العراقي، ولا يزال، منذ غزو بلده عام 2003، وليس منذ عام 2014 كما يروج. تهدف الحملة الدولية، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والمحلية بقيادة النظام العراقي، إلى غرس أحداث مغايرة تحتل مركز الأولوية لدى المواطن وتعمل، تدريجيا، على تصنيع ذاكرة جماعية يتلقى المواطن أبجديتها عبر وسائط متعددة. إنها عملية تصنيع وأحلال حدث، بدل آخر، لخلق ذاكرة فردية وبالتالي جماعية ليست بالضرورة جزءا من السيرورة التاريخية العضوية للمجتمع، وما ينتج عنها من تراكم معرفي يساعد على الفهم، وتدارك الكوارث غير الطبيعية كالحروب، بل غايتها نشر روح الانتقام والتمييز الطائفي والقومي.
تؤدي أجهزة الإعلام دورا مهما في تشكيل الذاكرة الفردية وبالتالي الجماعية. وقد أدى التطور التكنولوجي في وسائل الاتصالات والتواصل الاجتماعي، إلى تسريع التشكيل وإجراء تحولات جذرية في التكوينات الرمزية للذاكرة الجماعية. فالتكنولوجيا قادرة على المسح والتشويه والتضخيم بشكل سريع ومؤثر على وعي الفرد، خصوصا إذا افتقدت الحياة اليومية التفاعلات عبر الأجيال وبين السكان في أماكن إقامتهم وعملهم. سبب هذا، كما يذكر جفري أندرو باراش، في كتابه «الذاكرة الجماعية والماضي التاريخي» هو «قدرة هذه التكنولوجيات على محاكاة التجربة المباشرة، وخاصة عن طريق الصورة، حيث تجعل الواقع أكثر وضوحا من تحديدات الذاكرة الجماعية، وغموض الماضي التاريخي الذي يقع، دائما، بعيدا عن متناول الذاكرة الحية».
ومن منظور أعم وأشمل، يقترب من التأثير السياسي والايديولوجي (أي الذي يجمع بين الفكرة والعاطفة)، يؤكد عمل باراش على الطرق التي تختار بها وسائل الإعلام، وتحدد وتنقل أحداثا معينة، ومن ثم تمنحها أهمية تجعلها في متناول الجميع كنسخة تحمل رمزية، معينة، تناسب مصالح محددة. وهي أقرب ما تكون إلى تعريف د. نورمان فنلكلشتين لـ «صناعة الهولوكوست» باعتبارها «منشأ ايديولوجي صنعته مصالح محددة»، في هذه الحالة استثمار انتقائي لجرائم النازية السابقة وتعميمها للتغطية على جرائم الصهيونية الراهنة ولابتزاز أوروبا سياسيا وماليا كالتعويضات.
وهذا ما يحدث، إعلاميا، في العراق، في ظل «الحرب على الإرهاب»، بقيادة أمريكا. حيث يتم نشر معلومات تحمل معاني تضليلية، يتم من خلالها توجيه الوعي العام، لتشكل ذاكرة جماعية، يعاد من خلالها ترتيب أحداث التجربة اليومية. فالعراقي المحاط، في كل لحظة، بطوفان أفلام وصور وأغان وبرامج تلفزيونية، تتمحور حول تاريخ غامض تطغى عليه الأساطير، تروم تغيير تاريخه، مصورة «الآخر» كعدو، لابد أن تترسب في ذاكرته صورة مستحدثة، مقولبة بأيديولوجيا تزاوج الطائفية بالفساد وتهدف إلى إشاعة الخوف. الخوف الذي يضعف المرء ويجعله أكثر عرضة لقبول الحماية من أي كان، خصوصا إذا كان يعيش مهددا بالحرب.
ما يزيد من ترسيخ هذه الصورة ـ صانعة الذاكرة، الاحتفالات السنوية، والطقوس الجماعية، والمهرجانات، وإقامة النصب وزيارتها. وهي محطات مهمة في تاريخ الشعوب، غالبا، إلى أن تصبح من عوامل ديمومة المظلومية والابتزاز (الهولوكوست مثالا) والفاشية وتسويق الأكذوبة الجماعية على حساب الحقيقة، وتعجيل ذوبان الفرد بالمجموعة العقائدية ابتغاء الحماية والتخلص من المسؤولية الفردية.
وإذا كان شهر العسل بين أجهزة الإعلام والنظام العراقي الفاسد قادرا على تغطية الكثير من الانتهاكات، بضمنها ما يمس العاملين في المجال الإعلامي نفسه، إلا أن حجم الانتهاكات المتزايد وهمجيتها، خدش الصورة الناعمة عن حرية التعبير وديمقراطية النظام المتوخى حفرها في ذاكرة الناس عن سنوات الاحتلال و «محاربة الإرهاب».
ونقرأ في تقارير لجان الدفاع عن الصحافيين، عبر السنين، السابقة واللاحقة لإعلان «الدولة الإسلامية»: «في عام 2011 ظل العراق من أخطر البلدان في العالم على الصحافيين. وصنفت لجنة حماية الصحافيين العراق على رأس قائمتها لمؤشر الإفلات من العقاب لعام 2012 « الذي يركز على عمليات قتل المتظاهرين دون عقاب، وأفادت بأنه لم تحدث إدانات على جرائم قتل الصحافيين منذ عام 2003 «. وينطبق الأمر على السلطات العراقية وحكومة إقليم كردستان الموصوفة بأنها النموذج الحقوقي لبقية العراق. وكان العراق «أسوأ دولة» في مؤشر الإفلات من العقاب الصادر عن اللجنة حول حوادث قتل الصحافيين بدون تسوية، لعام 2013. إذ لم تصدر أية إدانة في أكثر من 90 جريمة قتل لصحافيين منذ عام 2003. أما تقرير الاتحاد الدولي للصحافيين الصادر عام 2016، فقد كرر وصف العراق بإعتباره أخطر دول العالم على الصحافيين. وأصدرت لجنة حماية الصحافيين الدولية، في 23 آب/ أغسطس، تنبيها ينص على أنه «على الرغم من انحسار تواجد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، لم تتحقق زيادة في الاستقرار في البلد، إذ أدى بروز الميليشيات الشيعية من جديد، إلى زيادة المخاطر العامة التي يواجهها الصحافيون في المنطقة»، استنادا إلى سجل الميليشيات «السيء في مجال حقوق الإنسان… حيث تم توثيق ممارسات ارتكبتها بعض هذه الوحدات من قبيل عمليات إعدام بإجراءات موجزة، واختفاءات قسرية، وتعذيب، وتدمير للبيوت» خاصة بعد أن «بات لزاماً على الصحافيين الحصول على موافقات عمل من هذه الوحدات العسكرية ومن الحكومة». وتحذر اللجنة من إمكانية لجوء الميليشيات «إلى العنف كوسيلة لفرض الرقابة على التغطية الصحافية بشأن موضوعات الفساد والعنف والإساءات وانتهاكات حقوق الإنسان».
هذه المخاطر المصاحبة لمرحلة « ما بعد داعش»، المهددة للصحافيين، يعيشها المواطن ويعرف طعمها منذ مرحلة « ما قبل داعش»، وستستمر، ربما، بتصنيفات مستحدثة تلائم تصنيع الذاكرة الجديدة لعراق لا يرتدي غير السواد.
٭ كاتبة من العراق
هيفاء زنكنة
لازال منطق من يمسك بالحكم بالعراق هو المظلومية !
وهو حال من تعود على الإستجداء عمراً حتى وهو أغنى الأغنياء !!
ولا حول ولا قوة الا بالله