في ستينيات القرن العشرين، كانت الرؤية الماركسية الجديدة قد غدت الرؤية المسيطرة على حقل الأنثروبولوجيا في فرنسا. إذ شعر العديد من الباحثين بوجود صعوبة في تطبيق المقاربات الماركسية الأرثوذكسية لدراسة المجتمعات قبل الرأسمالية، خاصة أن الماركسية بقيت تتعامل مع هذه المجتمعات ضمن نظرية مورغان في التطور، التي ترى أن المجتمعات تتطور وتنتقل عبر التاريخ وفق مراحل وحتمية، لا بد أن تمر بها كل ثقافة من الحالات الدنيا إلى الحالات الراقية فالأكثر رقياً.
لهذا فقد حاول البعض أن ينقب بشكل أعمق في داخل ماركس ليعثر على أدوات تحليلية يمكن تطبيقها على كل من المجتمعات الطبقية والمجتمعات غير الطبقية. ولم يقتصر تأثير هذه الرؤية على هذا الحقل، إذ سرعان ما أخذت بعض كتب الماركسيين البنيويين الفرنسيين والعلماء الماركسيين الألمان والروس، بما في ذلك كتابات ماركس نفسه، تترجم إلى الإنكليزية؛ لتغدو هذا الترجمات مع فترة السبعينيات أكثر حضوراً وتكراراً داخل الحقل الأنثربولوجي الأنكلو ـ سكسوني، خاصة أن هذه الفترة كانت تترافق مع تحولات جديدة في أمريكا تمثلت في اغتيال مارتن لوثر كينغ، وعودة العنف إلى حركة الحريات المدنية والاحتجاجات المناهضة لحرب فيتنام. ولذلك فقد اعتبر العديد من الانثربولوجيين أنهم أقرب للرؤية اليسارية، واتخذ البعض منهم مقاربة تلفيقية انتقائية من الماركسية، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية.
وربما يعد كتاب «إعادة اختراع الأنثروبولوجيا» الذي قام بتحريره ديل هيمز في عام 1969، هو ما قدح زناد هذا النوع من الرؤى اليسارية الجديدة داخل الحقل الأنثربولوجي الأمريكي، إذ وصف ثلاثة من المساهمين في الكتاب أنفسهم بأنهم «علماء نقاد من داخل التقليد الماركسي، وأنهم منخرطون في تحليل بنى الاستغلال السائدة». ورغم أن الرؤية التي قدمها المساهمون لم تكن رفضاً راديكالياً للتقاليد الأنثربولوجية أو دعوة لبداية جديدة كلياً، لكن لوحظ أن هناك تركيزاً في الكتاب على موضوع دراسة ثقافات القوة، بما في ذلك كل من المؤسسات المهيمنة على مجتمعنا والعمليات الواسعة مثل الإمبريالية، على أن تأخذ في اعتبارها أن هذه الإمبريالية لا ترتبط وحسب بما هو اقتصادي، بل بما هو ثقافي.
في مقابل هذا الكتاب، كان طلال أسد يقوم بتحرير كتابه المعنون «الأنثروبولوجيا ومواجهة الاستعمار»، الذي حظي بشهرة واهتمام أوسع من الكتاب السابق؛ فقد ركّز المشاركون في الكتاب على دراسة الدور المركزي الذي لعبته الأنثروبولوجيا في القضاء على وجود العوالم غير الأوروبية ومقاومتها، كما توصل أسد إلى طرح بقي يسيطر على مخيلته حيال رؤيته لتاريخ هذا الحقل وعلى مخيلة العديد من تلامذته إلى يومنا هذا؛ مفاد هذا الطرح أن الأنثروبولوجيا لم تكن سوى أداة للغزو الاستعماري لعوالم عديدة.
على مستوى العالم العربي، لم يتعرف الباحثون والقراء على أطروحة طلال السابقة إلا في فترة التسعينيات، ورغم أن هذا التعرف لم يتم بشكل مباشر، وإنما جرى من خلال إشارات أدوارد سعيد لدور الاستشراق والدراسات الأنثربولوجية في خلق شرق غامض غرائزي مقابل غرب عقلاني، إلا أن هذا النقد، بالإضافة إلى ترجمة أطروحة جيرار ليكلرك «الأنثروبولوجيا والاستعمار» التي ترجمها أستاذ الفلسفة اللبناني جورج كتوره، قد ساهمتا في التأسيس لـ»محنة منهجية» ـ وهنا نستعير مقولة المفكر العربي رضوان السيد في سياق دراسته للاستشراق ـ حيال تاريخ وإنتاج الحقل الأنثروبولوجي الغربي. الإصرار على أن علم الأنثربولوجيا هو علم إمبريالي، وتفسير كل شيء وفق هذه المقولة، كان يعني تجاهل مسألتين أساسيتين: الأولى تتعلق بالقراءة الاختزالية لطبيعة العلاقة بين الطلب السياسي الاستعماري والعرض الأنثربولوجي الأكاديمي. ويمكن في هذا السياق أن نحيل إلى المرافعة المعرفية العميقة التي قدمها عالم الأنثربولوجيا المغربي حسن رشيق في حواريته الشيقة مع الأنثربولوجي السعودي أبو بكر باقادر (الأنثروبولوجيا في الوطن العربي)، إذ يشير رشيق إلى أن السلطة الاستعمارية لم تكن دوماً أمام عرض أنثروبولوجي متجانس، كما أنها كثيراً ما كانت تقصي وتهمّش ما يتعارض مع سياساتها. ومن ناحية أخرى يرى رشيق أن الأنثربولوجيين الاستعماريين لم يسقوا من المغرفة النظرية نفسها، وأن هذا الاختلاف لا يمكن إغفاله بدعوى انتمائهم، أو تعاطفهم، أو تعاملهم مع السلطة الاستعمارية. ولتوضيح هذه الملاحظة، قام رشيق بعقد مقارنة بين ما كتبه الأنثربولوجي الفرنسي روبرت مونتاني (1893 ـ 1954) من المتحمسين البارزين للاستعمار الفرنسي، فقد أثبت في دراساته أن الزعامات السياسية الاستبدادية عابرة، وأن الأصل في المجتمعات البربرية (الأمازيغية) هو الجمهوريات القبلية الصغيرة الحجم. في حين حاول قبله أدموند دوتي (1867 ـ 1926) أن يقنع السلطة الاستعمارية بالاعتماد على الزعامات الدينية، التي لها تجذر اجتماعي وثقافي في مجتمع مسلم كالمغرب، والإعراض عن الزعامات السياسية العابرة والمفروضة على الناس. هناك نعثر ـ وفقاً لرشيق ـ على خلاف بين مونتاني ودوتي، ليس لموقعهما وموقفهما المساند للاستعمار، ولكن بالنظر إلى المرجعيات النظرية التي كانا يعتمدانها؛ كان الأول يصف ويفسر الظواهر المدروسة انطلاقاً من البنيات الاجتماعية والسياسية، بينما كان الثاني تطورياً يجعل من الدين الفكر المهيمن على المجتمعات البدائية.
المسألة الثانية:
هذا النقد الذي جاء في السبعينيات في الحقل الأنثربولوجي الأنكلوسكسوني، والتسعينيات في العالم العربي، كان يتجاهل التحولات الجديدة التي يعيشها الحقل، سواء على مستوى تقاليد البحث الأثنوغرافي والبحث عن بقايا خزانة العجائب في حياتنا اليومية؛ إذ لم يعد أبناء الحقل منشغلين بدراسة الجماعات البدائية أو أساطير الماضي، بل أخذت إشكاليات جديدة تفرض نفسها على جدول أعمالهم، كما في حالة ولادة «أنثروبولوجيا شوارع المدينة»، التي ركزت على إجراء دراسة ميدانية لحي معين في الولايات المتحدة أو في بعض مدن العالم الثالث. بالإضافة إلى أنه في فترة الثمانينيات ـ كما يشير إلى ذلك سيدل سيلفرمان في محاضراته التي نُشرت في كتاب «الأنثروبولوجيا: حقل علمي وأربع مدارس» ـ كان هذا الحقل يشهد عملية إعادة الاختراع الثانية خلال الفترة التي جاء بها، وهي فترة ما بعد صناعية وما بعد فوردية، تميزت برأسمالية جديدة ذات تراكم وتحول من إنتاج السلع إلى الاستهلاك، كما تميزت هذه المرحلة لاحقاً مع التسعينيات بتدفق المعلومات ونشر وسائل الإعلام الجماهيرية للثقافة.
هذا الواقع الجديد دفع بعض الأنثربولوجيين من أمثال أرجون أبادوراي في كتابه «المستقبل واقعاً ثقافياً» الذي ترجم مؤخراً للعربية، إلى الحديث عن ضرورة تكوين «أنثروبولوجيا للمستقبل» يقوم دورها على فهم تأثير تحولات القــيم الثقافية على تشكل وتخيل الحياة الجديدة في ذهنية أي جماعة أو مجتمع محلي.
وبالتالي نلاحظ هنا أنه في الوقت الذي كان فيه المثقف العربي يؤسس لصورة نمطية عن تاريخ هذا الحقل عبر التعرف على أطروحة الاستعمار والأنثروبولوجيا، كان هذا الحقل يشهد تطورات وطقوس عبور جديدة؛ مع ذلك، فإنه من الملاحظ في السنوات الأخيرة محاولة بعض الشباب الإسلاميين إعادة استدعاء رؤية أسد السابقة كأداة سياسية وليست معرفية، خاصة أن مقولات النسبية الثقافية التي يطرحها بعض الأنثربولوجيين باتت تصب في نقد الحداثة والدفاع عن «المحلية المتخيلة» الفقيرة التي يحلمون بالعيش في كنفها؛ أو حتى لدى بعض اليساريين، إذ نجد مثلاً أن حميد دباشي ورغم المراجعة المهمة والقطيعة التي قدمها مع السعيديين حيال تراث الاستشراق، من خلال النظر إليه بوصفه تراثاً غنياً، نجده في كتابه «الربيع العربي: نهاية حقبة ما بعد الاستعمار»، والذي جاء ـ وفق قناعته ـ لإعادة النظر في أدوات فهم الشرق الأوسط الجديد، يعود للتأكيد على أن حقل الأنثروبولوجيا «قد نشأ وتطور كحقل أكاديمي في هذا العالم، العالم الذي وضع نفسه فوق وضد عوالم أخرى كان قد احتلها»، وهو ما يعني تكرار ذات الكليشيهات التقليدية عن تاريخ هذا الحقل.
مؤخراً صدر كتاب عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بعنوان «الأنثروبولوجيا: حقل علمي واحد وأربع مدارس» ترجمة أبو بكر باقادر ـ إيمان الوكيلي، وقد خُصِّص الكتاب لدراسة تراث هذا الحقل في أربعة تقاليد (الألمانية، البريطانية، الولايات المتحدة الأمريكية والفرنسية).
أما الجديد في هذا الكتاب، فهو أنه يقطع مع الرؤية والطقس الرتيب الذي عادة ما يستدعي الاستعمار أثناء الحديث عن تاريخ هذا الحقل، وبدلاً من هذه الرؤية الاختزالية يكشف لنا الكتاب عن تاريخ آخر للأنثروبولوجيا، وهو تاريخ غني على مستوى النظريات والرؤى، وعلى مستوى الصراعات والخلافات بين المدارس والجامعات. صحيح أن هذا التاريخ لم ينقطع عن السياسة وتحولاتها، لكن كثير من الأثنوغرافيا التي خرج بها هذا الجهد كانت ذات قيمة دائمة.
ومن بين الأمور المهمة التي يكشف عنها الكتاب أيضاً، هو أن الحقل بقي حيوياً على مستوى إعادة النظر بأجنداته البحثية، بدل النظرة السكونية التي رسمت لهذا الحقل في عالمنا العربي؛ فمثلاً نجد أن مارغريت ميد التي انشغلت خلال الثلاثينيات بدراسة المجتمعات البدائية في غينيا الجديدة، تعود في عام 1957 لتقود عملية إعادة اختراع لدورها ودور الأنثروبولوجيا. ففي خريف تلك السنة أشرفت ميد على واحدة من الحصص المسائية المزدحمة بالطلاب في جامعة كولومبيا. وفي ذات مساء سألت الطلبة: ما هو الشي الأكثر أهمية الذي حدث لكم هذا الأسبوع؟ وكانت أجوبة الطلبة المختلفين: لقد وجدت شقة، وأنا حصلت على وظيفة جديدة، وأنا تشاجرت مع صديقي. وبعد الاستماع إلى كل الطلبة، قالت ميد: لا، كان الشي الأكثر أهمية الذي حدث لكم هذا الأسبوع هو صعود القمر الاصطناعي «سبوتنيك». فبالنسبة لميد كانت هذه الكلمات تعني أنه تم تجيهز الأنثروبولوجيا بشكل فريد لفهم هذا العالم. واعتقدت أن كل رحلة فضائية من الآن فصاعداً يجب أن تحمل عالم أنثروبولوجيا (ربما لغزو واستعمار الكواكب الأخرى كما يتخيل أسد وتلامذته).
كاتب سوري
محمد تركي الربيعو