توجد أحداث في التاريخ تصلح لأن تعتبر معالماً على الطريق، وبحيث يمكن الارتياح لمقولة ما قبل وما بعد دون كثير من التحفظ أو التدقيق، ولذلك أصبحت عبارات مثل عالم ما بعد سبتمبر 2001 أو الشرق الأوسط ما قبل يونيو 1967 ذات دلالة لا يمكن تجاهلها بالنسبة للمؤرخين والمتابعين، ولكن هذه المسألة لا تصلح دائماً لوصف حقبة معينة، بمعنى آخر، إذا كنا نعيش اليوم حقبة من التراجع العربي والتردي ربما غير المسبوق، فإنه من الصعب التوافق على بداية هذه الحقبة، غزو العراق للكويت يصلح ليكون عنواناً بنفس الطريقة التي تعتبر نكبة 1948 أيضاً، وستجد محطات أخرى مثل اتفاقية كامب ديفيد أو سقوط بغداد 2003 فرصة للطرح كبداية للطريق الذي نعايشه حالياً.
توماس فريدمان المتخصص في شؤون الشرق الأوسط أخذ يقترح سنة 1979 بوصفها بداية الحقبة التي تعايشها منطقة تخصصه إلى اليوم، هو ينفي عن نفسه الانحياز العاطفي لأن تجربته مراسلاً دولياً كانت بدأت من بيروت في تلك السنة تحديداً، ويحاول أن يطرح مجموعة من المعطيات المهمة التي تجعله يتخير السنة المذكورة بداية لتحولات المنطقة فهي السنة التي شهدت سيطرة جهيمان العتيبي ومجموعته على الحرم المكي، وهي السنة التي شهدت الثورة الإسلامية في إيران وحادثاً نووياً في الولايات المتحدة أدى إلى وقف بناء محطات نووية جديدة والدفع بسطوة البترول على سوق الطاقة العالمي، هي أحداث مهمة، ولكنها لا تصلح بداية لحقبة أعطاها فريدمان وصفاً بلاغياً يستحق التوقف عنده فهو يقول بأن المنطقة تعيش في نفس السنة إلى اليوم، وأننا نعايش سنة 1979 مكررة للمرة السادسة والثلاثين.
ما الفرق بين سنة 1979 وبين سنة 1990 التي شهدت على التوالي، سقوط الشيوعية بصورة رسمية في الاتحاد السوفييتي وبداية انحلاله بوصفه كياناً سياسياً، وشهدت أيضا الوحدة بين اليمنين التي كانت تعني تغيراً في مجمل الظرف السياسي في الجزيرة العربية، وأخيراً غزو العراق للكويت وتأثيراته على مفهوم الوطن العربي، وربما القضاء عليه لمصلحة مفهوم الشرق الأوسط الذي أفرز ظروفه ومعطياته الخاصة، وينطبق نفس الأمر على سنوات مثل 1973 و1977 و1982 و2003، وكلها سنوات ما زالت تلقي بظلالها على الوضع الراهن وتعيش في العقلية السياسية والسلطوية في معظم البلدان العربية.
بالنسبة لشعوب الشرق الأوسط فإن سنة أخرى أقدم كثيراً من مقدم السيد فريدمان للمنطقة يمكن أن تصلح بالفعل بداية للمرحلة الحالية، ويبدو أننا ما زلنا نعيش في تنويعات مختلفة منها، ونسخ أكثر تطوراً تستلقي أمامنا ربما لأكثر من مرة في السنة الواحدة، ومن ايران يمكن أن توضع شارة البداية إذا كان الوضع يتعلق بمنطقة (الشرق الأوسط) وتحديداً سنة 1953 وحدث واحد على قدر كبير من التأثير وهو انقلاب 19 أغسطس 1953 الذي أطاح بحكومة مصدق المنتخبة في ايران بدعم مباشر وكثيف من المخابرات الأمريكية التي كانت ترى الإنقلاب مجرد حدث ضمن عملية أجاكس التي أدارها ميدانياً ضابط السي أي أيه كيرميت روزفلت.
لماذا يعتبر ذلك الحدث مؤثراً إلى هذه الدرجة، وحتى لوصفه بأن الحدث المسيطر على المنطقة إلى اليوم؟
الإجابة تكمن في أن الإنقلاب على حكومة مصدق كان يمثل البصمة الأولى للاستعمار الجديد على النمط الأمريكي بديلاً عن الاستعمار التقليدي بشقيه البريطاني والفرنسي، وكانت الرسالة واضحة أن الغرب لن يترك المنطقة للمرحلة التي تحقق فيها استقلالاً حقيقياً يعبر عن الإرادة الشعبية، ولن تطوي صفحة مصالحها لتترك شعوب الشرق الأوسط تسعى إلى تحقيق ذواتها الوطنية، فالأمريكيون سيتدخلون في اللحظة التي سيعتبرون مصالحهم فيها مهددة بطريقة ناعمة أو خشنة، كان ذلك هاجساً جديداً يخيم على المنطقة، ولم يزل كذلك.
التقط جمال عبد الناصر الرسالة، وبعد أن كانت فكرته تدور حول (التسوق) بين موسكو وواشنطن فإنه توجه على خلفية أحداث طهران لاتخاذ مواقف مضادة للإمبريالية الأمريكية تتصف بقدر كبير من النبرة العالية، وربما الاستعراضية، وكان سحب عرض تمويل السد العالي من قبل البنك الدولي الذي كان واقعاً تحت النفوذ الأمريكي مدعاة لأن يحسم عبد الناصر خياراته ضد الأمريكيين الذين كانوا يجدون عمقاً مختلفاً في العلاقة مع السعودية وايران في المقابل.
الاستعمار الأمريكي لم يكن مجرد استحواذ أو سيطرة على الموارد أو تأميناً لمواقع استراتيجية لصيانة إمبراطورية مترامية مثل بريطانيا، ولكنه كان سيطرة شاملة على عقلية سياسية توظف الدول التي تدور في الفلك الأمريكي لتخوض معارك ليست بالضرورة ضمن أولوياتها الوطنية، وهو أسوأ عملياً من الاستعمار التقليدي، فمثلاً لم يكن الاستعمار البريطاني في حد ذاته حائلاً دون ظهور حركات التحرر ووجود بيئة سياسية فاعلة، أما الاستعمار الأمريكي غير المباشر فكان يستهدف أصلاً استقرار دول موالية وتابعة وتستطيع أن تؤدي أدواراً بالوكالة، ورفضه لأي تغيير في بنيتها السياسية مع الاستعداد للتدخل (الجراحي) بما يشابه عملية أجاكس، وبذلك يمكن أن يصنف الانقلاب على مصدق بداية للعصر الأمريكي في المنطقة.
بالطبع كانت الولايات المتحدة تطبق هذا الأسلوب بين وقت وآخر في أمريكا اللاتينية، وكان دورها في انقلاب بينوشيه على الرئيس التشيلي المنتخب سلفادور الليندي يؤكد على النزعة الأمريكية غير المتسامحة مع خروج أي دولة من مدارها الخاص الذي يخدم مصالح واشنطن، وكانت هذه الوضعية تشجع رئيساً مثل أنور السادات على التقرب من الأمريكيين بصورة غير مسبوقة من خلال تقديمه عرضاً للجيش الأمريكي باستخدام قاعدتي رأس بناس وقنا الجويتين، وبذلك أصبح التنافس على الرضا الأمريكي أولوية لدى معظم الدول العربية وعلى الرغم من أنه كان يتم بصورة لائقة أثناء الحرب الباردة لتجنب هبات شعبية تغير من المعادلة، إلا أنه تحول إلى علاقة مجانية ومن طرف واحد بعد انتفاء المنافسة السوفييتية، وأصبحت واشنطن قبلة للدول العربية لدرجة أنها تحولت إلى أحد الأنشطة الأساسية بالنسبة لأي رئيس عربي بما تستدعيه من اهتمام إعلامي وسياسي في عاصمته هو، وليس في واشنطن بالطبع.
لا يبدو أن التحرر من العصر الأمريكي يلوح في الأفق لعدة سنوات قادمة، صحيح أن فرنسا بدأت تحرص على علاقات دافئة مع الدول العربية وتقدم نفسها بديلاً للأمريكيين، لدرجة حولت الرئيس فرانسوا أولاند إلى ما يشبه مندوب المبيعات لدى استقبال بعض الشخصيات العربية، ولكن الأمريكيين يثبتون المرة بعد الأخرى قدرتهم على التأثير على مسارات الأحداث بينما لا يمتلك الفرنسيون أي قدرة مماثلة، ولذلك يبدو فريدمان متفائلاً باعتقاده أن سنة 2015 ستمثل المخرج من كابوس 1979 الذي يستمر في إعادة إنتاج نفسه كما يقدمه صاحب الكلمة المسموعة في شؤون الشرق الأوسط، ولكنها مجرد سنة أخرى في حقبة بدأت من طهران 1953 ولن تنتهي إلا بالاستقلال الحقيقي الذي يحول واشنطن إلى مجرد عاصمة لدولة كبيرة وليس قبلة للحجيج السياسي.
٭ كاتب من الأردن
سامح المحاريق
فيردمان غوغاء وأنا قابلته شخصياً في منطقة واشنطن العاصمة وهو مغرور ومتكبر ويعتقد أنه الوحيد على وجه الأرض الذي يعرف سر الوجود وسر الأسرار السياسية ومستقبل العالم ومنقذ العالم من دمار ثقوب الأوزون وأشعة الشمس وزوبان الثليج الذي يعرفها أطفال الابتدائي ويجب على العالم أن يسمع له ويقرأ كل كتبه التي بحجم كتاب “اليلوا باجيس” “yellow pages” ولا أجد له شبيه الطباع إلا في المصري محمد حسنين هيكل والطيور على اشكالها تقع!