العقل العربي الشقي وترياق التراث

من البديهي أن الفضاء العربي الشقي لن توجد فيه الحرية، مادام الإنسان تحول إلى مجرد قيمة أخلاقية بعد تنازله عن كل حقوقه السياسية، من أجل الضياع في نشوة التراث، هكذا يتم شفاء الروح من جراحها بترياق الحكايات الخرافية، ولذلك فإن السياسة الدينية تسعى إلى تسلية الشعب بواسطة السخرية والتهكم من الراهن، خاصة أن ميتافيزيقا الروح تقسم أمامهم المجال للتوجه نحو اركيولوجيا الصمت. فـ»العدميون يريدون لو تأتي نهاية العالم بأسرع ما يمكن، لأنهم يحبون ما لا يستطيعون امتلاكه».
لكن ما علاقة العقل الشقي بالتيار العدمي؟ وما قيمة نقد العقل العربي بدون التوجه إلى هدم النزهة العدمية؟ ألا يكون كل ذلك الحوار مع التراث مجرد ثرثرة تجعل من الروح إناء فارغ؟ وكيف لروح الثرثار أن تستقبل المعرفة وهي لم تمارس زهد السمع؟ بل كيف يستطيع العقل العربي أن يحقق لحظة الوعي التاريخي بدون الإنصات لنداء الحقيقة؟.
والحال أن ثقتي عمياء في هذه الأسئلة التي ستدمر كل الأوهام التي جعلت العقل العربي معتقلا في حكايات التراث، مما أرغمه على إبداع انطولوجيا المأساة، ولذلك تحول إلى عقل مأساوي يتمتع بدراسته لنص واحد مطلق يشمل الوجود والزمان، انه نص التراث المغلق في الأبدية، يمارس سلطة المقدس على الروح ويجعلها ضعيفة تمرح بالعبودية للطاغية الذي يملك سحر الحقيقة، فهو حاضر في كل مكان وانطلاقاً من هذه السيادة الكلية التي يملكها ويمارسها في الواقع، أصبح يشجع على الاهتمام بالأشياء التي لا تستحق الاهتمام وبخاصة وأنها تؤجل اللقاء بين الأرواح والمعرفة بالوعي التاريخي، هكذا نجد الخطاب السياسي الخادع يغلف بالخطاب الديني من أجل أن يملأ الفراغ الذي يسود في مجتمع المعرفة ومجتمع السياسة، ولذلك أن الشعب في عطلة دائمة ينتظر الانتقال إلى عالم ما بعد الطبيعة.
وبما أن الخطابة هي القدرة على الإقناع فإنها لن تكون سوى فن ظرفي لإقناع شعب منهار، ولوكان ذلك بالخداع والكذب، وفي ظل هذه المؤامرة نتساءل: من بإمكانه أن ينتقد الذين يسيطرون على الأرواح؟، بل من يستطيع أن يقول لهم الحقيقة؟ وأين هي حرية الرأي؟ وأين الحرية في مجتمع وسطوي؟ وأين كانت سلطة العقل مختبئة؟ وأين هي النزاهة الفكرية في هذه المرحلة؟، لا أحد من المفكرين يملك الشجاعة على مواجهة الواقع بالعقل، ولذلك التجأوا إلى نص التراث المغلق، لأن إرادة القوة انهارت قبل أن تبدع إرادة الحرية، الآن الخوف الأبكم من شراسة الخطاب المهيج للوعي الديني والأخلاقي، أرغم العقل العربي على الانحطاط، والبحث عن نفسه في التراث، وبخاصة وأن إرادة القوة كانت ولازالت تعتبر شيئاً لا أخلاقيا، تلوث تلك المشاعر الجميلة التي تؤمن بالغبار التام للفكر، بل أن الفكر أضحى عندهم حاجزاً أمام صفاء للوجدان المشتعلة، ولعل هذه السفسطة الجديدة، لا تختلف في ماهيتها عن السفسطة القديمة، «فالسفسطائيون يقدمون أول نقد للأخلاق، وأول معرفة بها، يضعون أغلب التقييمات الأخلاقية الواحدة جنب الأخرى، يفهموننا أن الأخلاق كلها لها تبرير خطابي، أي أنهم يكشفون كيف أن أصل الأخلاق سفسطائي».
لكن كيف تمكنت السفسطة من الانتصار على البرهان في الفضاء العربي؟ من كان وراء هذا الانتصار؟، ألا يكون استغلال المشاعر الدينية هوالذي أرغم العقل العربي على الانسحاب من الساحة العمومية؟
يجب الدفاع عن العقل العربي بالعقل الكوني، من أجل تحريضه على ثورة التنوير، وإلا سيظل غارقا في التراث، بعيداً عن جدلية التاريخ والإنسان، ذلك أن الثورة على التراث لا تعني شيئا آخر سوى الابتعاد عن الحقيقة الموروثة، من أجل البحث عن حقيقة العقل في مجال العلم والمعرفة، لأن حقيقة عالم الطبيعة لا ينبغي البحث عنها في عالم ما بعد الطبيعة، وإلا ستفقد قيمتها المعرفية.
ذلك: «أن التراث لا يسلمنا إلى قيود ماض لا يعود، ذلك أن تسليم التراث إن هو إلا تحرير يتحقق في ذلك الحوار الحر الذي نجريه مع ما كان» هكذا يكون الدفاع عن العقل العربي بالمعرفة هوالسلاح الذي سنقاوم من خلاله إشكالية التخلف الفكري، والانحطاط الثقافي والعلمي، لأن بناء العقل العلمي لا يتم الا بأدوات العلم، وإلا سيظل العقل ما قبل مرحلة العلم هوالسائد، لا يحكي العلم إلا في بنية الخرافة فتمزج الحقيقة بالأوهام، ولن يتمكن هذا التفسير السفسطائي من الانتشار إلا في المدينة الجاهلة وهي المدينة . «التي لم يعرف أهلها السعادة الحقيقية، واعتقدوا أن غاية الحياة في سلامة البدن، والتمتع باللذات، والانقياد إلى الشهوات، وأن يكون الإنسان مكرماً معظماً» .
وفي إمكاننا تعميم هذا الرأي الفلسفي الذي كان يقرأ عصره انطلاقاً من سؤال المعرفة والجهل، على الفضاء العربي من المحيط إلى الخليج، أن نستحضر تلك الصدمة التاريخية التي سيحدثها في تلك الأرواح الميكانيكية التي أدمنت الثرثرة وتسلية الشعوب بقدسية التراث،ذلك أن العقل هوالذي يدخل في مواجهة مع اللا عقل، كما أن الحرية هي التي تدمر الاستبداد، ومهما يكن الزمان العربي يتراجع إلى الوراء بدلا من التقدم إلى الأمام، لأنه ألغى الحاضر والمستقبل من الأرشيف، فانه سيأتي اليوم الذي يستيقظ فيه العقل من سباته الدوغمائي، إذ ما معنى أن يظل العقل العربي منفصلا عن الوعي التاريخي؟، وما معنى الإنسان بدون عقل؟، وما معنى السيطرة على الإنسان بالعقل اللا ذاتي وحرمانه من العقل العلمي؟
ثمة طريق واحد يؤدي إلى تحرير الحقيقة من أوهام السفسطة، وقد يكون هذا الطريق محاصراً بحراس العدمية، لكن مع ذلك فإن إرادة القوة ستهزم إرادة الضعف والانحطاط، بمجرد ما يهزم العقل أوهامه، لأنه في أعماق هذا الصراع بين العقل والأوهام ينبثق إنسان التنوير الذي ينتقل من عدم استعمال العقل إلى استعماله، وبلغة كانط، من القصور الفكري إلى الرشد، بيد أن هذا الاستعمال للعقل يتطلب الشجاعة، والشجاعة تتطلب إرادة القوة: « فلتكن شجاعاً على استعمال عقلك».
ما أعظم هذه الشجاعة التي ستعيد للإنسان العربي القدرة على التفكير العقلاني، من أجل أن يتجاوز التفكير الوجداني، وفي مسار هذا التحول سيولد عالم الحقيقة، مادام أن العقل العربي أصبح تاريخاً يتساءل عن حاضره، إذ ما معنى هذا الحاضر الذي يعيش فيه بدون أن يخضعه للتساؤل؟، وما أهمية هذا العقل الذي يحمل حاضره؟ ولماذا يضيع سدى هذا الأمل كلما أراد أن يخرج إلى الوجود؟ هل أن التيار الديني أقوى من التيار العقلاني؟ ومن يمنحه هذه القوة؟
المدهش في هذه الأسئلة أنها لا تبحث عن الإجابة، لأنها هي نفسها إجابة، ولكنها ظلت في النسيان لقرون عديدة. هكذا استطاعت أن تمتزج بنسيان الوجود، إنها لعبة بين الروح وميتافيزيقيا الموت، كان ضحيتها العقل، ولذلك أضحى هذا الفضاء بدون عقل، وبما أن هذا النسيان الانطولوجي ليس له علاج، مادام أنه من إبداع مرضى الأنفس الذين يمارسون الهيمنة السياسية والدينية، ولذلك نجد الفارابي يتهكم من هؤلاء قائلاً : «ومرضى الأنفس بفساد تخيلهم الذي اكتسبوه بالإرادة والعادة، يستلذون الهيئات الرديئة والأفعال الرديئة، ويتأذون بالأشياء الجميلة الفاضلة أولاً يتخيلونها أصلاً، وكما أن في المرضى من لا يشعر بعلته، ويظن أنه صحيح لا يصغي إلى قول طبيب، كذلك من كان من مرضى الأنفس لا يشعر بمرضه ولا يصغي إلى قول معلم»
ومهما يكن هذا التمزق في الكينونة مدمراً للوجود الإنساني، فإنه يشكل عائقاً إبيستيمولوجياً أمام نموالعقل، وبخاصة وأن العقل لا ينمو إلا في مجال المعرفة، فالمعرفة لا تأتي قبل الوعي التاريخي، ومغادرة قارة الوعي الشقي، ولذلك فإن هذا الحشد المتناثر من المناهج العلمية التي تداولها، لا يدين باتساقه لغير التنظيم الإداري للجامعات، لأن غايات العلوم لم تعد هي نفسها: «هكذا نجد أن جذور العلوم في أساسها الجوهري قد ذوت واضمحلت».
فبأي معنى يمكن أن نتحدث عن العلم في غياب سيادة العقل؟ وبعبارة أخرى، هل العقل هوالسيد الحاكم حقا في هذا السؤال عن العلم؟ ما موقع العقل في الجامعات العربية؟ وكيف يستطيع العقل أن يدعي لنفسه حق السؤال في أمر العلم، وهو لم يحصل بعد على الحق في الوجود؟ وكيف يمكن لمن أرغم على النسيان أن يتحدث عن اليقظة والاستيقاظ ؟
لا نستطيع أن نهرب من هذا القدر الحزين، الذي أصبح يتكلم في وجـــــودنا، لأنه كلمـــــا أردنا أن ننطلق انطلاقة جديدة، كلما حاصرتنا الحقيقة الموروثة، وبما أن الوجود العربي يختصر في هذه الحقيقة، فإن ما يشير إليه العلم هو هذا الوجود ذاته ولاشيء سواه: «ولكن من العجب أن الإنسان الذي يقوم بأبحاثه، وهو ينتسب إلى هذه اللحظة، فانه يتحدث عن شيء آخر غير الموجود، لأن ما هو موجود يضاد العدم»

كاتب مغربي

العقل العربي الشقي وترياق التراث

عزيز الحدادي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول بولنوار قويدر-الجزائر-:

    السلام عليكم
    تحية ومحبة ومعذرة للسيد الكاتب أنا لست في مقامك حتى أجادلك ولكن من حقي أن أبدي برأيي فإن كان فيه من الصواب فذاك من الله وإن كان فيه من الخطأ فذاك نظرا لعدة عوامل منها الخضوع المتأرجح بين الولاء والعصيان لأفراد كانوا السبب في ذلك مع الملاحظة لا دخل للدين فيها بل حقيقتها التمسك بالهوى والرغبات وحب الدنيا …والعقل بصفة عامة سواء عند العرب أو العجم يخضع لعدة تأثيرات سياسية وإقتصادية وإجتماعية وثقافية وكل هذه الإتجاهات تلعب دورا في تلوينه باللون الذي ترغب فيه من الأبيض الناصع إلى السواد الفاحم وما بينهما من تدرج للألوان…وبما أنّ العقل العربي واحد من هذه العقول ومتأثر بهذه التأثيرات فقد وقع عليه مالم يقع على الآخرين نظرا وفقط للسياسة…
    من ذلك يجب أن يعرض العقل العربي لعدة علاجات وإختبارات منها :النفسية والإجتماعية تحت تأثير ثقافي مميز ليعيده إلى جادة الصواب …تحضرني نادرة متداولة بين الناس مفادها: أنّه عرض في سوق بيع الأدمغة العالمية مجموعة من العقول منها -اليباني والأمريكي والصيني والعربي-وكانت الأسعار كالآتي:اليباني ب5دولار والأمريكي ب10 دولار والصيني ب30 دولار والعربي ب2999 دولار-تعجب الحاضرون من هذه المفارقةو سألوا البائع ما سر التفاوت بين هذه الأسعار فرد بكل بساطة:إنّ العقل اليباني تعب من البحث والعمل فلذلك لم يبق فيه شيء يستثمر وهكذا بالنسبة لبقية العقول حسب التدرج..فسأل أحدهم وما سر إرتفاع سعر العقل العربي فرد بكل بساطة أيضا بقوله : مازال العقل العربي لم يشتغل بعد لذلك من يشتريه يستغله ويستثمره أحسن الإستغلال…
    ولله في خلقه شؤون
    وسبحان الله

  2. يقول R. Ali USA:

    العقل العربي الجاد وترياق التراث الجميل: “ليس غذاء الطعام بأسرع في نبات الجسد من غذاء الأدب في العقل” إبن المقفع

إشترك في قائمتنا البريدية