العقل العربي بين الرواية والقراءة

حجم الخط
1

هنا مسألة، ينبغي التوقف عندها، حتى لو اعتبرها البعض حاشيةً غير مفيدة.
في متابعةٍ لمسألة تطوّر الجبر في المرحلة الواقعة بين القرنين التاسع والثاني عشر، يقول الباحثون بأن الجبرَ لم يعرف تطورا نوعيا ملحوظا بعد تلك المرحلة، وحيث أنه من الراسخ الاعتراف بأنه لا يمكن كتابة تاريخ هذا العلم وتاريخ كلمة اللوغاريثم بدون ذكر الخوارزمي، وأنه هو أول مَن عرَّف المجتمع الإسلامي العربي، ومن ثم الغربي بالنظام الترقيمي، فإنه في مقدّمةٍ ضرورية للدخول في فن قراءة الرواية، في إطار بحث واقع الثقافة العربية، وعلاقة الرواية بأحداث خراب المنطقة، وفي إطار اعتبار قراءة أعمال الروائيين نقديَّاً، أمرا يتيح النظر في كيفية نقــــل الانطباع الحقيــقي الكامل للحياة في هـــذه المرحلة الملتهبة، لا بدّ من قولٍ بات مزعجاً لكـــثرةِ ترداده بأن الأدب والعلم لا يفترقان، وأن الأدباء بعضهم علماء، فساحــة التقاليد المنهجـــية الرياضــية العربية الإسلامية تعجّ بأسماء لعلماء كبار شعراء، ما يعني ارتباط الأدب بالعـــلم، الشعراء العلـــماء جذّابون: السموأل، الخيام، شخصيات ذات اعتبار ساهمت في تطوير وإرساء الأسس النظرية لعلم الجبر، ولم تقـــع في التنـــاقض، التطنيب بأن العلوم إنتاج الفكر، والفكر البشري يتألف من الذاكرة والمخيلة والعقل، التاريخ ملكته الذاكرة، والآداب (الشعر) ملكتها المخيلة، والفلسفة ملكتها العقل، فالآداب بأنواعها (قصصية وصفية تمثيلية رمزية)، علم، فلماذا ابتعدت لغة الآداب عن لغة العلم، فلم تعد تتحدث الآداب والعلم معا اللغة نفسها، ولم تعد تتحدث الآداب والفلسفة معاً اللغة نفسها، ليس المطلوب هنا ربط الكتابة الأدبية بالفلسفة، فكل نص إبداعي هو ابن كاتبه، أما قراءة النص فأمرٌ آخر.
المطلوبُ ليس بسيطاً: اكتمال القراءة. اكتمالها بالكشف عن طبيعة النص الإبداعي ومشروعه الفكري، فعلاقة الراوي بالبطل مؤشر يجب التوقف عنده، ثم علاقته ببقية الشخصيات مؤشرٌ آخر، فماذا بوسع الذين لا يعرفون أن الأعمال الأدبية، كإعادة تقييم راديكالي للأوضاع الإنسانية، بأنها ذريعةً لتفكيكِ مواقع الفلسفة والعلم، في المجتمع العربي، وأن الحالة الفكرية السياسية الاجتماعية تنعكس داخل النص الأدبي، كيف لهؤلاء أن يعرفوا قراءة النص الأدبي/ الرواية، بشكلٍ خاص؟
إنه اقتراحٌ من شأنه إلحاق الرواية العربية في سياق برنامجٍ ضخمٍ من التفحص والبحث المتمثل في فهم كل المنتجات الثقافية العربية في المقولات والتصورات ونوعية الابستمي، أي نوعية نظام الفكر في الرواية العربية المعاصرة.
كان العلم والفلسفة يتحدثان اللغة نفسها، في سيطرة العلوم الجزئية الحديثة التي تبحث كل ما يظهر في العالم، سلبت من الفلسفة كل ما يمكن انتـــزاعه، إلاّ التأمل الانعكاسي للإنسان على ذاته بصفته محل ظهور العالم، وكان لهذا تأثيره الصاعق على النظــــرية الأدبية التي باتت تفرض فهم النص – الكل من جزئياته، وفهــــم هذه الجزئيات بالتالي من النص ـ الكل، سيتحول النص حلقةٌ مفرغَة، هزيلة، لا يمكن تجاوز خوائها إلاّ بتشبيك العلاقة بين أجزاء النص وكلّه انطلاقاً من اللغة في مغامرة التحليل والتأويل بتوسيع دائرة الدلالة لكشف غموض النص وأسراره البعيدة، ليس في ذلك ادّعاء، إنه ما تقتضيه عملية كشف المستور في الرواية وحركة أبطالها، باستعمال منجزات العلم الحديث، هذا شأن القراءات الكبرى المشوّقة التي تخبرك عن كافة الحقائق أفضل بكثير مما يخبرك به تراثٌ ضخمٌ بتمامه.
وضع الفارابي قوانـــــين تصحيح القـــراءة، وقوانين الشعر في مصنّفه «علم الألفاظ» وكذلك قوانين تصحيح الكتابة، فالألفاظ لا يمكن تصورها بمعـــزلٍ عن الدلالة ولا وجود لألفاظٍ فارغة الدلالة في علمي المنطق والفلسفة، هذه قوانين راسخة، وكان فيتغنشتاين حاول في مؤلفه الأول «الرسالة المنطقــــية للفلسفة» أن يبيــــن ماهـــية اللغة وبنيتها ووظيفتها، يقول هناك نوعٌ من التشابه بين بنية اللغة وبنية العالم (العالم بمعنى مجموع الوقائع)، والبنية المقصودة هي البنية المنطقية، التي يمكن التوصل إليها بالتحليل المنطقي، منطلقا من النظرة التقليدية للغة المستخدمة، فالجملة الصادقة هي جملة العلم الطبيعي، أما قضايا علم الأخلاق وعلم الجمال فهي لا تقول شيئا ذا مدلول، لأنها لا تصف أي وقائع، رغم أنه كما يقول، لا استحالة في قول قضايا سيكولوجية، أو عرضها أو إظهارها، إذ يوجد ما لا يمكن التعبير عنه، فهذا يعرض ذاته، كل إمكانية إذن لتحقيق قراءة تفترض نوعا من القدرة على التعامل مع الغموض، القراءة المنتجة لا تأتي من فراغ، وإنما من الدخول على العمل الأدبي من وعيٍ بمكانة الأدب كوجه يتقدم به الراوي الإنسان للمجتمع، عندما يُخلع القناع المخادع ينكشف الأيديولوجي، وعندما تظهر مخاطر لغة الاحتفاء بالرومانتيكية المستندة إلى المبالغة في تحويل هزالة البنية الروائية إلى «حالةٍ روحيّة»، تحصل القراءة، هناك ثمنٌ يجب دفعه لفهم كنه الإبداع وحقيقته ومآل دلالاته في السرد العربي.
ظهرت محـــاولاتٌ عظيمة في تسليط ضوء منهجي، انطلاقاً من علم الدلالة والمنطق والفلسفة، طُبّقتْ على قراءة المادة الأدبية، نُشرت في مقالات وكتب وفي مجلات متخصصة، أقامت منهجية القراءة الأدبية على أساس البعد الرياضي العلمي (لو جــــاز التعبير)، إنه تأسيسٌ لافت باستخدام البراهين لأجل تقيـــيم النــــص، كما في الجبر، بالبرهانين: البرهان بالعلة، والبرهان باللفظ، ما زالت هذه المحاولات تأخــــذ مقامهــا وتحتاج، عملاً ترسيخيا إلى جانب أعمالٍ تظهر تباعاً حديثة ومعاصرة تصب في الاتجاه نفسه.
من وجهــــةِ نظرٍ منهجــــية، بكلمة بعد هذه الحاشية، يمكنُ للرواية العربية المعاصرة أن تكشف العلاقة المتبادلة ما بين المصيرِ التاريخي للمجتمعات العربية، وتقدُّم الحداثة، أُدركُ كم تحتاج المهمّة إلى حدوث سيطرة كاملة على قراءة الرواية.

أكاديمية لبنانية

العقل العربي بين الرواية والقراءة

وفاء أفيوني الشعراني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتورجمال البدري:

    السّيدة الفاضلة الدكتورة وفاء أفيوني الشعرانيّ : بعدما قرأت المقال ؛ وجدت أنّ طروحاته تحتاج للرّواية التي لم تكتب بعد.فأين الرّواية العربية اليوم من الفلسفة والعلم؟ الرّواية العربية في غالبيتها ( صوت إيقاع ) على شاكلة { فإذا نقرفي الناقور}.لا واقعة لتصحيح الزمان والمكان والإنسان الصحيح أوالمكسور.تقنية الرّواية العربية وقودها مضغ القات ؛ لذلك التنافس الرّوائي العربيّ ( بيني ) لا يستطيع السّمونحوالتنافس العالميّ ؛ من هنا نحتاج لقوانين خاصة للبناء الرّوائيّ المعاصر…قبل الدخول تحت مظلة القوانين العالمية.ففي مقولتك : { فالآداب بأنواعها (قصصية وصفية تمثيلية رمزية)، علم } فلا نجد مثل هذا العلم بل قصارى ما نجده شيء من الفنّ وشيء من الأدب المفتون.لكننا ( تعودنا ) على المضغ اليوميّ ؛ فهي عادة القراءة ؛ لا المعرفة النقدية في العقل الإبيستيمولوجي : ( Epistemology ) مع المودة.

إشترك في قائمتنا البريدية