العقل العربي والتنوير… شاعرية الضياع في الاغتراب

«التنوير هو الخروج من القصور الفكري إلى الرشد.. فلتكن شجاعا على استعمال عقلك »
كانط.. ما الأنوار

هذه الشجاعة على استعمال العقل، تمكن الإنسان من اختراق فضاء الأنوار، متحمسا ومبتهجا، لأنه سيتحرر من الوصاية والقصور الفكري، ويتجه نحو الانعتاق والرشد، ذلك أن القدرة على الاستعمال الحر للعقل هي شعار التنوير، لأنه السلاح الذي سيحرر الإنسان من العبودية، والقضاء على الهيمنة السياسية التي يمارسها الأشرار على الأخيار، بل التصدي إلى المعاناة والحقيقة الزائفة، وبلغة فلسفة الأنوار، إنه البرهان على وجودية الموجود، أو بالأحرى وجود الإنسان في العالم وتمتعه بالحرية والمساواة، فجوهر التنوير هو الإثبات، من خلال بناء مفهوم جديد للإنسان، لكن ما معنى الانتقال من تجربة المعاناة في القصور الفكري إلى تجربة إثبات الذات في الرشد الفكري؟ ما قيمة هذا السفر من السلبي إلى الإيجابي؟، ماذا لو كان التنوير يحقق ذاته بدون معاناة؟
لابد من تحرير الإنسان من مجتمع الكارثة، لينعم بجزيرة الحرية، بيد أن الانتقال إليها يتطلب ركوب سفينة التنوير، لأنه أينما توجهت هذه السفينة، فهي تجلب الحرية والمساواة، غير أنها ظلت محاصرة في المحيط والخليج، تواجهها أسلحة الدمار، التي يتحكم فيها أعداء العقل الأنواري، ولذلك حان أن تتحمل الفلسفة مسؤولية التنوير، وتواجه المجتمع الأسطوري بالنقد العقلاني، على الرغم من صعوبة اختراق الاستبداد السياسي والديني، لأنهما يشكلان عائقا معرفيا أمام انتشار الأنوار: «فالتصور العقلاني لدور الأنوار الحاسم هو نفسه تصور حياة المجتمع باعتبارها صراع مصالح الغلبة فيه هي دوما من نصيب الأقوى».
ومع ذلك يظل الأمل هو الأمل لا يرى نفسه إلا في المستقبل، بواسطة جدلية التنوير والتاريخ، فالعودة إلى فلسفة الأنوار، وبالذات إلى مسلماتها القائلة بحتمية انتصار الحقيقة في نهاية المطاف، يبرهن على أن صراع الطبقات الاجتماعية يؤدي إلى تقدم الفكر البشري، الذي سيرفع المجتمع إلى حالة من الكمال، والمواطنين إلى المساواة والسعادة. هكذا يكون التنوير هو المحرك لهذا الصراع الإيجابي الذي يحقق غايته في التقدم، فالمجتمعات التي يقتحمها التنوير، تمتلك مناعة ضد الانهيار. وتنتقل داخل الأزمة، لأن الفكر يتجدد كلما وجد نفسه مهددا بالانقراض، مادام أنه تلبية لنداء حاجيات الحاضر، ففكر الأنوار هو سؤال منبثق عن الحاضر، حين يجد في الحرية دعامته، وفي النقد وسيلة. فكيف يمكن أن نحصل على هذا الفكر المحرر في مجتمع أسطوري يدير ظهره للفكر؟ وبعبارة أخرى؛ ما الذي أخر الفكر عن موعده؟ ومن المسؤول عن هذه العدمية؟
لا شيء إذن أشد تعارضا مع صناعة التنوير، باعتبارها صناعة للأرواح العلمية التي ستحدث ثورة على الهوة الفاصلة بين المصالح الخاصة والمصلحة العامة، من خلال إعادة صياغة مفهوم المجتمع، انطلاقا من مفهوم المساواة، لأن القضاء على اللاتكافؤ داخل المجتمع هو السبيل للخروج من انفصام الأواصر بين طبقة الميسورين التي تعيش على إيقاع البذخ، وطبقة المعسورين التي تشقى من أجل القوت اليومي، لأنها ضحية النبلاء والأعيان، باعتبارهما شعارا للنهب، والاغتصاب: «فعلة الداء الاجتماعي تكمن إذن في التوزيع اللامتكافئ للثروات»، لأنها مصدر الشرور الأخرى، وأخطرها الجهل، والحرمان من المعرفة والعلم، هكذا تتفكك الأمة إلى عدة أمم متعارضة المصالح ومسلحة ضد بعضها بعضا.
ربما يكون هذا الفضاء المنغلق على ذاته، والرافض لرياح التنوير، هو الغاية للنظام الاستبدادي الذي يستعبد الشعب بشعارات قديمة يتم اختيارها من العقيدة وسجل التاريخ، والمدهش في الأمر أن الشعب الذي يفترسه الجهل هو نفسه الذي يتذوق مرارة الفقر. «أما في الدولة التي يكون كل فرد فيها مالكا، فإن الشعب يجمع على حماية الملكية.
فالتوزيع المتوازن للأملاك والخيرات يقف حجر عثرة في وجه قيام النظام الاستبدادي». ولعل هذا الشعب بالذات هو ما يحتاجه عصر الأنوار للسكن في المسكن، ونشر ظلاله من أجل حماية الإنسان من انهيار الشقاء، فالملكية تنادي الكرامة، والكرامة مصدرها الحرية، والمساواة، إنهما الشيء نفسه ، وجهان لعملة واحدة: «أما حيثما كان المواطنون لا يملكون في غالبيتهم شيئا، فإن الرغبة في الاستيلاء على مال الغير تجب كل ما عداها». للاستبداد ثلاثة أعمدة يقوم عليها وهي الفقر، والجهل، والهيمنة الإيديولوجية، وغالبا ما تكون بواسطة العقيدة، ولذلك فإن اللامساواة هي الوسط المغذي للاستبداد، لأن: «الأغنياء يشترون جزءا من الشعب، ويخضعون بواسطته الجزء الآخر للاستبداد الأرستقراطي أو الملكي». وبما أن هذا النظام الفاسد يحكم على الروح بالموت الرمزي: «غير أن من شأن هذا الامتحان بالموت أن يجهز على الحقيقة ذاتها التي كان ينبغي نتاجها عنه، ويجهز في الوقت عينه على اليقين الذاتي بوجه عام». فالحكم على الوعي بالذات من خلال تمجيد الوجدان وإشعال نارها بالخطابات التي تتحدث عن الموت بانتشاء مطلق وتحرض الأرواح المنهارة على لباس الوعي الشقي والاعتزاز به.
ههنا يجد التنوير شراسة من قبل أعدائه. ولذلك لا يستطيع أن يتجلى في الوعي المستعبد، الذي يضع حجابا متينا بينه وبين الحقيقة، فلنتصور هذا الشعب الذي فقد القدرة على معانقة الحقيقة، كيف سيكون بإمكانه الانفتاح على التنوير، والارتواء بمبادئه. إنها معاناة لا يمكن أن يشعر بها إلا الفيلسوف الذي يتفرج على مأساة شعب يدير ظهره للحرية، ويحتفل بعيد الاستبداد، والاستمتاع بالبؤس في كل مكان وأي زمان.

كاتب مغربي

عزيز الحدادي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول بولنوار فويدر-الجزائر:

    السلام عليكم
    العقل العربي أكثر سعرا في العالم…
    زعموا أنّ سوقا أقيمت لبيع العقول من مختلف الدول والقوميات وكل يعرض بضاعته وعليها السعر المناسب لها…والغريب في هذا المعرض أنّ الفكر اليباني والامريكي همأ أقل سعرا بينما الملاحظ أن الفكر العربي أعلى ثمنا …تعجب تجّار السوق من الظاهرة وهم العرفين بما أنتجه الفكر الياباني والامريكي من مخترعات في التكنولوجيا التي أبهرت العالم ومازال في الخدمة؟؟ على العكس ممّا قام به الفكر العربي…عقدوا جلسة سرية عاجلة لتفسير الامر …فجاء الجواب من خبير اقتصادي ومفكر حداثي وفسّر لهم الامر في سطرين:
    إنّ الفكرين السابقين قد تعبا وضعف من جراء عمله ليلا ونهارا بينما الفكر العربي مازال لم يستخدم بعد نظرا لما سلط عليه من ضغوط مختلفة فهو كما يقال في الجزائر مازال ww :أيجديد ولم يستعمل…
    ولله في خلقه شؤون
    وسبحان الله

  2. يقول moussalim.:

    °°° العقل العربي معتقل من طرف الإستبداد والفساد .
    .
    *** هل لأبواق نظام بشار ، الذين كوّنتهم ماكينة الحزب العلوي السوري ، هل لهم ” عقول ” ؟ .

إشترك في قائمتنا البريدية