عناوين عديدة يمكن تفسيرها على أنها تؤسس لمرحلة جديدة من العلاقات التركية العراقية، من أهمها ما كشفه اللقاء المشترك لوزير الخارجية التركية مولود جاويش أوغلو ووزير الخارجية العراقي إبراهيم الجعفري. أهم ما صدر عن اللقاء المشترك تحميل مسؤولية سوء العلاقات التركية العراقية إلى رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، رغم أن هذا الرأي صدرعن وزير الخارجية التركي مولود أوغلو، إلا أن نظيره العراقي لم يعارضه، والتفت إلى ما هو أهم من ذلك، وهو أن الدولتين بحاجة إلى فتح صفحة جديدة تطوي كل سوء العلاقات والتهم المتبادلة في المرحلة السابقة.
وزير الخارجية التركي عبر عن سعادته بأن هناك إدارة شاملة جديدة على رأس السلطة في بغداد والعراق حالياً، فمجرد زيارة ابراهيم الجعفري في هذا التوقيت، وهو المقرب من الحزب الحاكم الفعلي للدولة العراقية وهو حزب الدعوة، فإن ذلك مؤشر على ان هذا الحزب العراقي، وهو في السلطة السياسية يتوجه إلى القيادة التركية لإيجاد حلول لمشاكل سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية وقعت في المرحلة السابقة أولاً، وانه يتوجه إلى تركيا في خطوة يمكن تقديرها على انها بقدر قربها من تركيا فإنها تبتعد عن إيران، لأن العراق ومنذ ان وقع تحت الاحتلال الأمريكي عام 2003 زادت أسهم إيران في العراق، بحكم الوفاء للمراحل السابقة التي دعمت فيها إيران المعارضة العراقية، التي كانت تتركز على الطائفة الشيعية وميليشياتها العسكرية، التي وجدت الإيواء والتدريب والتسليح والتمويل من الدولة الإيرانية، فكان طبيعياً أن تكون العلاقات العراقية الإيرانية في المرحلة السابقة على حساب كل الدول العربية والإسلامية، التي وقفت ضد الاحتلال الأمريكي للعراق، وما نتج عنه من دستور وحكومات محاصصة طائفية، بحسب المشاركة العراقية والأمريكية للديمقراطية العراقية. ولذلك فإن تحميل مسؤولية سوء العلاقات بين البلدين لنوري المالكي كانت إشارة إلى أن سوء العلاقات سببه الجانب العراقي، الذي اعتمد على إيران اكثر من اعتماده على جيرانه الأتراك والعرب، وسوء العلاقات التي صنعها المالكي مع دول الجوار، أدت إلى سوء الأوضاع الداخلية اكثر من سوئها مع دول الجوار في الخارج، فلم تستطع حكومة المالكي، في ظل الاحتلال الأمريكي وبعد انسحابه عام 2011 ، أن توحد الشعب العراقي حولها، ولم تؤد إلى إقامة دولة ديمقراطية، بل ادت إلى مزيد من الحروب الطائفية داخل العراق، وإلى فساد سياسي ومالي كبير، أدى إلى ضعف الدولة العراقية، وإلى ان يستفيد من هذا الفساد «تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)»، كما قال المرجع الديني السيستاني، في خطبة الجمعة (7/11/2014) من المتحدث باسمه أحمد الصافي.
الحديث عن الماضي مهم للاعتراف بان انحراف البوصلة السياسية العراقية في اتجاه واحد لن يحل مشاكل العراق، بل سيزيدها سوءاً، وقد ضرب إقليم كردستان في شمال العراق مثلاً إيجابياً في تحسين أوضاع الإقليم، الذي كان من أهم أسبابه العلاقات الحسنة التي أقامها رئيس الإقليم مسعود برزاني مع الحكومة التركية برئاسة رجب طيب أردوغان في حينه، وعليه فإن تحسين العلاقات بين العراق وتركيا لا بد ان تنشأ عن تصور جديد للحكومة العراقية في تحسين العلاقات مع دول الجوار، وفي مقدمتها تركيا، التي ترحب بهذا التوجه العراقي الجديد، لأن رفع العلاقات بين الدولتين سوف يؤدي إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية للبلدين، وسوف يضع الأطر الصحيحة لمعالجة عدد من القضايا الإقليمية التي تهدد أمن المنطقة، وفي قدمتها الأوضاع في سوريا، وما ترتيب عليها من عنف داخل سوريا وخارجها، وبالأخص العنف الذي يقوم به تنظيم «داعش»، الذي يؤمن النظام التركي بان للنظام السوري الأسدي دورا كبيراً في نشوئه ودعمه.
أما على صعيد العراق فإن وزير الخارجية التركي مولود اوغلو أوضح ان تركيا حريصة على وحدة العراق سياسياً، وأن تكون للحكومة العراقية المركزية السيادة التامة على العراق، وفق أسس العدالة لكل أبناء الشعب العراقي بدون استثناء أحد، ولا إقصاء احد الأطراف المكونة للمنظومة الاجتماعية والعرقية والقومية والطائفية والدينية في العراق، في المستوى الداخلي للسياسة العراقية، وكذلك أن تكون سياسة العراق الخارجية منسجمة ومتوافقة مع دول الجوار بدون تهديدها لأحد، ولا دعمها لنظام سياسي على آخر لأسباب طائفية أو محورية إقليمية، بل إن تركيا تتطلع الى ان تتعاون الحكومتان التركية والعراقية في مواجهة التهديدات التي تتعرض لها المنطقة، والتي تواجههما على وجه التحديد.
هذه الزيارة لإبراهيم الجعفري إلى تركيا هي الصفحة الأولى لمرحــــلة جديدة بـــين الدولتين ستعقبها زيارة قريبة لرئيس الوزراء التركي أحـــمد داود اوغلو إلى بغداد، وبين يديـــه النسخـــة الثانيـــة من اتفاقية التعاون الاستراتيجي رفيع المستوى بين البلدين، فالحكومة التركية تتطلع إلى الحكومة العراقية الجديدة على انها أمام مسؤوليات جمع المجتمع العراقي خلف هذه الحكومة، لمعالجة أخطاء الماضي أولاً، ولمواجهة تحديات الارهاب التي تهدد العراق وتركيا معاً، آخذين بعين الاعتبار أن الحكومة التركية غير مقتنعة بالاستراتيجية الأمريكية في محاربة «داعش» بالغارات الجوية، او عن طريق دعم الأكراد في سوريا، وهم يحملون نزعة انفصالية في سوريا قد يكون لها تأثير سلبي على الوضع الأمني في جنوب شرق تركيا، وهي المناطق التي تحاذي الحدود العراقية التركية أيضاً.
الحكومة التركية تتطلع إلى وضع استراتيجية مشتركة بينها وبين العراق تضع حداً للتردد الأمريكي بمعالجة أخطار «داعش» على مدى طويل لا تحتمله دول وشعوب واقتصاديات دول المنطقة، فدولتا العراق وتركيا غير معنيتان باستدامة المعارك مع «داعش» لسنوات طويلة، وأكثر الدول المتأثرة سلباً من هذه الحرب طويلة الأمد هما تركيا والعراق، لأن الدولة الثالثة وهي النظام السوري الأسدي يستفيد من هذه المعارك بخلق ظروف يتحرك فيها بشكل أفضل من قبل، ومن هنا فإن من مصلحة تركيا والعراق وضع استراتيجية مشتركة تنقذ الدولتين من إطالة امد الحرب على «داعش»، وخلق منطقة آمنة وصالحة للتنمية والاستثمار والاقتصاد الناجح، وهو ما ينبغي أن ينعكس على العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بين البلدين، وما توقيع اتفاقية إلغاء التأشيرات بين الدولتين أثناء هذه الزيارة إلا دليل على ان السرعة مطلوبة وضرورية ومهمة.
أما المؤشر الأكبر في هذه الزيارة فهو تصريح وزير الخارجية التركي بان «وزيري الدفاع والداخلية العراقيين طلبا من تركيا تدريب الجيش والشرطة العراقيين»، وهو ما لقي جواباً إيجابياً من الحكومة التركية، فهذا التوجه العراقي الجديد دليل على ان الحكومة العراقية الجديدة بمكوناتها القومية والطائفية الجديدة تريد بناء الجيش والشرطة العراقية بخبرات جديدة، غير الأمريكية والإيرانية، وبالأخص بعد الفشل الذريع الذي وقع فيه الجيش العراقي في يونيو الماضي عند سقوط الموصل بيد «داعش» خلال أيام قليلة، وفرار الجيش العراقي بطريقة مذلة وهزلية، فالحكومة التركية أبدت استعدادها للتعاون مع العراق وتدريب الجيش العراقي والشرطة العراقية، حتى لو كان التدريب يأخذ جانباً نوعياً، أو لو كان ذلك بطلب من طرف عراقي معين، أي من الطائفة العراقية السنية، ولكن بالتوافق والتنسيق والتعاون مع الحكومة العراقية.
٭ كاتب تركي
محمد زاهد جول