كثر الحديث عن الدولة العميقة في دول الثورات العربية ودورها الكبير في الثورات المضادة، خصوصا في مصر وتونس.
والثورة المضادة ليس شرطا أن تبدأ عند انتصار الثورة، بل هي تتحرك مع تحرك الثورة وتتصارع معها في مسارها كله حتى تقتلها أو ُتقتل على يدها، بل أن بذور ومقومات الثورة المضادة ربما تكون موجودة في المجتمع حتى قبل قيام الثورة أصلا. فالانقسام المجتمعي الطائفي والإثني والطبقي مثلا في البلد، يعتبر أحــــد أهم حوامــل الثورة المضادة، وخير دليل على ذلك هو أن الانقسام الطائفي في سورية كان أحد أهم عوائق الثورة الشعبية فيها وأحد أهم حوامل الثورة المضادة المواكبة للثورة.
والدولة العميقة رغم أهميتها الشديدة في الثورة المضادة، إلا أنني أعتقد انها تبقى قوى مشلولة ومبتورة الرأس وغير قادرة على القيام، بدون الحبال الخارجية الممدودة لها، لذلك فان أهم سؤال يجب أن يسأله الثوار لأنفسهم والنخبة الواعية المتبصرة عندهم هو، هل القوى العالمية الكبرى مع ثورتهم أم ضدها؟ هل توجد قوة عالمية ولو واحدة تدعم ثورتهم؟ لأن الصراع بين قوى الثورة وقوى الثورة المضادة سيتحدد من خلال معرفة الجواب على هذا السؤال الكبير.
فلو كانت القوى الدولية مع الثورة فلن تقدر صفوف الدولة العميقة على شيء وستتلاشى قواعدها وُتقطع حبالها وستُلاحق رموزها وتحاكم ولو تعلقت بأستار الكعبة، ولن يكون هناك صراع بين القوى الثورية وبين القوى المضادة. ومثل ذلك هو ثورات أوروبا الشرقية، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار المنظومة الشيوعية، حيث أيدت القوى الغربية تلك الثورات وتبنتها، لذلك فلم تحس للدولة العميقة في تلك الدول همسا، ولم تسمع لرجالاتها بعد تلك الثورات ركزا، رغم أن القيادات والأنظمة في تلك الدول كانت متأصلة في القمع والوحشية.
أما لو كانت القوى العالمية الكبرى ضد الثورة فانها ستعمد إلى تبني ورعاية الدولة العميقة وستمد رجالاتها في بلد الثورة بحبل سري يقويها وينميها ويشد من بأسها، وبكل الوسائل بشكل مباشر أو عن طريق وكلاء إقليميين ودوليين، وأيضا تأهيلها بل وتأصيل شرعيتها الدولية والمحلية. وفي هذه الحالة ينشأ صراع دام وطويل بين القوى الثورية وقوى الثورة المضـــادة في الداخل والخارج.
إذن فالدولة العميقة هي أولا وأخيرا من صنع القوى الدولية، فهي التي أسستها ورسخت وجودها في بلادنا منذ زمن، لذلك يجب علينا ألا نعطي وزنا للدولة العميقة ورجالاتها أكثر مما تستحقه، فهي وكيل عن الأصيل. مع الأخذ بعين الاعتبار أن الوكيل أيضا له مصالح ومنافع ذاتية نفعية وايديولوجية بلاشك، لكن تبقى القوى العالمية هي الآمر الناهي. وهذه العلاقة المتلازمة بين القوى الكبرى والدولة العميقة يرثها جيل بعد جيل.
والعلاقات الدولية التي ستتمخض عن الثورة في أي بلد هي التي تحدد مصيرها، لأن الثورات لا تقلب الموازين الداخلية للبلد فحسب، بل أيضا تقلب علاقاته الخارجية وتغير تحالفاته وقد تحول الاصدقاء والحلفاء الدوليين أو الاقليميين إلى أعداء والأعداء إلى أصدقاء. وقد تسقط هدن واتفاقيات ومعاهدات دولية واقليمية متبادلة، وقد تشتعل حروب بعد نجاح الثورة. وقد تكون هذه الثورة ثورة مركزية في المنطقة حاضنة وراعية وملهمة لثورات محتملة في محيطها الإقليمي. فأساس الثورة هو تصديرها وليس احتكارها، لذلك فإن التدخل الدولي والإقليمي ضد الثورة أو معها له ما يبرره من جهة المصالح القومية والصراع على البقاء، فالدول الكبرى إما أن تتبنى الثورة وتدعم روادها، أو أن تقف ضدها وتجهضها من خلال دعم ركائز الدولة العميقة والتجهيز للثورة المضادة من أجل الإجهاز على الثورة، وربما من خلال التدخل العسكري المباشر. فالعلاقات الدولية هي بالأحرى من حكم على تشاوشيسكو في رومانيا بالإعدام، وهي بالمقابل من حكم على مبارك في مصر بالبراءة، وهي من حولت بشار الأسد الى أداة إبادة لسوريا والسوريين.
والعلاقات الدولية المتوقِعة للربيع العربي هي التي أشعلت الحرب ضده وعكست رغبة دولية وإقليمية حازمة وموحدة لا تسامح فيها ولا رحمة في إجهاض الثورات العربية وتحويل هذه الصحوة الشعبية وهذا الربيع الى شتاء يطول ليله بدون اكتراث بالدماء التي ستسفك وبدون اعتبار للتكلفة البشرية والإنسانية المتوقعة. وهذا ما يجب التركيز عليه وفهمه بشكل كبير حتى تتبين لنا أبعاد مشكلتنا الحقيقية. فهي مع الأصيل، ولكن عن طريق الوكيل. وما لم نفهم العلاقات الدولية لثورات الربيع العربي فلن نفهم الأسباب الحقيقية وراء ما آلت إليه.
وإذا ما أطلقنا على ثورات الربيع العربي مصطلح الموجة الثورية، حسب مفهوم مارك كاتز، فإن مصر في هذه الموجة الثورية تحتل ما أطلق عليه كاتز أيضا الدولة الثورية المركزية. فهي الدولة الأكبر والأقوى في هذه الموجة الثورية، التي ستكون قاعدة لانطلاق الثورات في المنطقة ورعايتها وتبنيها، مهددة بذلك أنظمة كثيرة عربية وغير عربية. صحيح أن تونس هي أم الربيع العربي وللشعب التونسي يرجع الفضل في هذا الفصل التاريخي المشهود، إلا أن مصر هي الدولة المناسبة في هذه الموجة الثورية للعب دور الدولة الثورية المركزية. هذا ما كانت ستكون عليه العلاقات الدولية للثورة المصرية وهذا ما أسقطها بالتأكيد وجمع الشرق والغرب على محاربتها. فالامر أكبر بكثير من الخوف من بناء مركز تجاري دولي في قناة السويس ينافس دبي أو غيرها، الموضوع هو موضوع صراع على البقاء وان الثورة المصرية ستشكل يوما ما تهديدا مصيريا لوجود وبقاء أنظمة كثيرة في المنطقة. لقد تضررت الثورة السورية كثيرا بانتصار الثورة المضادة في مصر، وكذلك الثورة الليبية والتونسية، بل واليمنية، وتحولت مصر بعد نجاح الثورة المضادة فيها الى دولة مركزية للثورات المضادة وملهمة لها في دول الربيع العربي. فلم يكن لحزب النهضة في تونس أن يقدم التنازلات الكبيرة لو أن الثورة المصرية ظلت حية وما كان للجنرال حفتر في ليبيا هذه السطوة أو أن يظهر أصلا لو لم تكن هناك ثورة مضادة أصبحت متمكنة في مصر. فكما أن العلاقات الدولية للثورة في مصر قد اسقطتها، فان العلاقات الدولية للثورة المضادة في مصر قد دعمتها وقوتها وأعطتها الشرعية الدولية.
ومثل ذلك ايضا فان العلاقات الدولية للثورة السورية هي التي جعلها تعاني ما تعانيه وتتعثر ذلك التعثر، وتدفع تلك التكلفة البشرية والإنسانية الرهيبة.. وتخلف مأساة كبيرة هي مأساة العصر. فالثورة الشعبية في سورية ستضع الأغلبية السنية في الحكم، مربكة ومنهية بذلك ما قد أجمعت عليه القوى الكبرى منذ عقود من تمكين الشيعة السياسية في الحكم في سورية وفي العراق وفي لبنان، وربما في المنطقة ككل في المستقبل القريب، بل أكثر من ذلك فان الثورة السورية ستنهي الحكم العلوي في سورية الضامن الأكبر وحامي حمى نظام سايكس بيكو في بلاد الشام والعراق. فسيطرة العلوية السياسية على الحكم في سورية هي صمام أمان لحماية سايكس بيكو. وانهيار نظام سايكس بيكو يعني سقوط الحدود المصطنعة بين الدول في هذه المنطقة وعودة بلاد الشام والعراق وحدة جغرافية متكاملة كما كانت عليه قبل الاحتلال الغربي للمنطقة.
وهذا لعمري أكبر خطر يواجهه النظام الدولي منذ قيامه، لذلك كان القرار هو قمع الثورة السورية وتم استخدام ايران وبشار الأسد وأتباعهما في هذا الغرض. فهم ليسوا أكثر من أداة لقمع الثورة السورية، فالقرار تم اتخاذه في أعلى المستويات في الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
إذن فالعلاقات الدولية التي ستحدثها الثورات العربية هي من كتب على مصيرها التعثر أو التراجع والتقهقر، لأن الثورات الشعبية في منطقتنا هي ضد مصالح الغرب الســـياسية أولا ثم الاقتصادية بغض النظرعن أفكارها وايديولوجياتها، والدولة العميقة ورموزها ليست أكثر من وحش طروادة خلقته وتبنته القوى الغربية وأرادت تسليطه اليوم على الشعوب من أجل الانقضاض على ثورات الربيع العربي، وان تعجب فعجب قول البعض إن السياسية الأمريكية تجاه الربيع العربي هي سياسة غير واضحة ومتخبطة.
٭ كاتب سوري
منذر عيد الزملكاني