العمى الأبيض والإرهاب الأسود

حجم الخط
0

تبدو الألوان غير ذات قيمة وأنت تتحدث عن الموت، ولكن مازال البعض يصر على أن نقد الإرهاب في أعلى درجاته يتم عبر وصفه بالسواد. كلمات تبدو مكررة في كل مشهد إرهابي، وصور موت يراد لها أحيانا أن تكون مكررة، مجرد أرقام تضاف إلى أرقام وتتحول إلى سلاح في أيدي كل طرف من أطراف العنف والقمع، من إرهاب يحتفي بالخسائر البشرية وقمع نظم يستخدمها لتبرير سياسات، والتغطية على أفعال وتجاوز قواعد.
في عمق اللون نقف أمام حالة عمى أسود يواجه عمى أبيض، وإنسان يمد يديه محاولا تلمس طريق الخلاص. يصبح العمى الأسود مقابلا لكل العنف والقمع وسوء استخدام السلطة، وإهانة الإنسان وكرامته والاقتناص من حريته. أما العمى الأبيض، والتعبير من رواية جوزيه ساراماغو الرائعة «العمى – 1995»، فهو حالة مختلفة لا يعترف فيها الشخص بالعمى بالضرورة، على الأقل في حالته الأولى- الفردية، ويمكن أن نتصور إمكانية تعميمها إن كانت حاله تعايش جماعية، لمجرد أن ما يراه من بياض يختلف عن المتعارف عليه في العمى من رؤية الأسود فقط. تناقض الأبيض والأسود لا يغيّب الحقيقة إلا في حدود الإنكار، فالاختلاف في التفاصيل، ولكننا في العمق أمام عمى يستهدف وعي الانسان وإدراكه للأشياء.
بياض ناصع يحجب الحقيقة، يغيّب ما يفترض أن نراه، يغلف سواد العمى المعروف ويراد له أن يغلف الواقع. يراد لنا أن نكره العنف الذي يمارسه الإرهاب لأنه عمى أسود، أما عنف الأنظمة فيراد لنا أن نراه أبيض مغلفا بمصلحة الشعب والوطن، وهو عمى آخر يحاول إخفاء الحقيقة وإجبار العقل على إدراك الأشياء وفقا لرؤية السلطة.
تدرك في عمى ساراماجو كيف يتراجع مستوى الأشياء مع تزايد حالات العمى الأبيض، والفوضى في غياب التنظيم وغياب السلطة. ولكن السلطة تعلن عن وجهها القبيح في الحضور والغياب، عندما يساء استخدامها وعندما لا تقوم بما يفترض أن تقوم به من أدوار. نرى كيف تكون سلطة الفرد مهمة في تنظيم شؤون المجموعة الأولى، مع إدراك قبول أفرادها لتلك السلطة وأسباب اختيارها. غياب السلطة المتوافق عليها في أحيان أخرى يعقد الأمور ويضاعف المشكلات. في حين أن ظهور المجموعة التي تستولي على السلطة بقوة السلاح، مستغلة حالة الفراغ القائمة بحكم غياب دور الدولة المنظم والحكم، يرتبط به ظهور الكثير من أشكال الفساد والاستغلال. فساد بقوة السلاح يمارس القمع والإرهاب عبر التخويف بالجوع والقتل، والثمن هو ما تملك ماديا ومعنويا، رغم أن ما تتاجر فيه هذه المجموعة هو الطعام، الذي يقدم مجانا من قبل الدولة للجميع، أو موارد الدولة، ولكن غياب المنظم العادل يولد الفساد الصغير، الذي يتسع لفساد أكبر يعمقه العنف والقمع.
تشهد كيف يمكن أن تخرج مجموعة مستغلة من قلب المعاناة، تتشابه في العمى الأبيض وتختلف في امتلاكها لقوة السلاح، والأهم في غياب قيمة الانسان وحب السيطرة وما يرتبط بها من شهوات ومكاسب. وتكتشف كيف يمكن أن ترى صور العمى الأبيض تلك بدرجات، من الذي احتفل بفرح وأطلق طلقات نارية لم تلتزم بقوانين أو قيم ومعايير، ليسقط ضحايا ويهرب الجناة ويدور الجدل حول خضوعهم للقانون من عدمه، لأن لهم ارتباطات وعلاقات سلطة ما تدعمهم، يظل البحث جاريا وأهل الضحية يقدمون ما يجدون من فيديوهات وصور تؤكد مسؤولية الجناة. والنظام الذي مازال يبحث عن الجناة، يتحرك لمحاكمة عاجلة في مايو 2017 للمحامي خالد علي المرشح الرئاسي الأسبق والمحتمل في انتخابات مقبلة، بسبب الاتيان بفعل فاضح وخدش الحياء العام في يناير من العام نفسه، بعد حكم مصرية تيران وصنافير، وفي التفاصيل يتم ربط التصعيد ضده بالتشكيك في النظام ومعارضة قراره بالتنازل عن الجزر. في حين تتم إحالة موظف بمبنى الإذاعة والتلفزيون للتحقيق بتهمة النيل من هيبة القضاء، لأنه استخدم أسانسير مخصصا لوكلاء النيابة الإدارية. لا يراد لنا وسط العمى الأبيض المسيطر أن نرى تناقض المعاملة وقيمة الحياة الحقيقية في صراع دوائر النفوذ.
السلطة والقمع، فساد الحضور والغياب، تبدو واضحة في تفاصيل الرواية، كما في الواقع. السلطة التي تختار أن تحجز مجموعة من المرضى بدون خطة واضحة، تغلف كل هذا باسم حماية الوطن وتطلب من الأعمى- المريض – الضحية أن يتقبل هذا لحماية المجموع. هو في النهاية خطاب مستهلك، لأن الحديث عن المصلحة لم يناقش أحدا ولم ينتج عن اختيار أو تطوع، ولكنه جبر مغلف بالبياض. جبر لا يختلف فيه شعور الأعمى الذي ذهب لسؤال الجنود عن تأخر الطعام، وشعر بأن ردهم كان ساخرا، عن المواطن الذي يوجه له الشكر على تحمله وصبره. حديث يفترض أن يصب في صالح شعبية الرئيس، وهو أن الصمت دليل قبول وتفويض شخصي، متجاوزا عن أن الصمت امتد لعقود، وأنه ليس دوما دليل قبول، ولكنه أحيانا نتاج قمع وغياب بديل، والمهم انه في كل الحالات ليس له علاقه بالفرد، خاصة أن ما كان يمكن تسويقه عن الوعود المقبلة وتسلم الأيادي والوظائف والفرص و»بكره تشوفو مصر» تمخضت عن معاناه تولد معاناه، ومصر «أشباه دول» و»احنا فقراء قوي» لتضاف للعبارة المفتاحية «مش قادر أديك» و»انا كمان غلبان» لنضعها فقط في مسار الأحداث وتطورها، وندرك كيف يتحدث الناس عن المعاناة ومسؤولية النظام، وكيف أن واحدا من أهم إنجازات النظام يمكن أن يشكره عليها الرئيس الأسبق حسني مبارك مع تزايد المقولات التي تتحسر على أيامه من قبل البعض.
العمى الأسود الذي شهدناه في المنيا وهو يغتال مواطنين مصريين في طريقهم للصلاة والعمل، يبرر عمى آخر يفترض أن يكون أبيض باسم الثأر، وهو يفتح جبهة معركة في ليبيا، ويوجه ضرباته لمنطقة يفترض أنها تخلصت من وجود «داعش»، قبل الضربات التي تنتصر كما يبدو لطرف، في معركة يمكن أن تفتح جبهات صراع أخرى، ويبرر تحركات عسكرية مماثلة في ليبيا وغيرها في ظل غياب محاسبة واضحة في الداخل، وفي ظل غطاء أبيض يقدم ويسوق باسم الثأر للضحايا. لا تقدم الضربات كشفا حقيقا عما حدث، ولا تحاسب التقصير الأمني قبل أو بعد الجرائم الإرهابية. تسارع التبريرات لتؤكد أن السيارات المستخدمة قدمت من ليبيا، ومراكز تدريب الإرهابيين معروفه في ليبيا، ولا تعرف أن كانت كل تلك المعلومات معروفة سلفا، فلماذا تحدث الكوارث؟ وكيف لم تضبط تلك السيارات ومن فيها قبل أو بعد الحدث؟ أسئلة كثيرة يتم تغييبها في صراخ العمى الأبيض، وتخبط أصوات العميان في فضاءات مفتوحة من أجل ترويج اختلاف عمى عن آخر، وفي المنتصف ضحية في معركة يراد له أن يظل حبيسا للعمى الأبيض، حتى لا يرى أفعال السلطة ويصدق أن العمى هو الإرهاب وحده.
تتراوح السلطة في العمى، كما في الواقع، بين خوف وعنف، وتعبر عن نفسها بالمزيد من القمع. هي السلطة التي تقمع المجموعات الأولى من المرضى، ولا تتورع عن تكرار أن موتهم أفضل حتى يموت السم معهم، وفي الخلفية سؤال عن التعامل مع المعتقلين وغيرهم. تقودك الاخبار لتقاطعات بين مطالب الأسرى في سجون الاحتلال الاسرائيلي من أجل تحسين ظروف الحبس، ومطالب أخرى في السجون المصرية لمعاملة أكثر انسانية، معاملة تقدم وفقا لدرجات طبقية تجعل مبارك ونظامه خارج المعاناة، وغيره من كافه الانتماءات عرضة للانتهاكات. تضيق الحياة وتتحول المطالب إلى تحسين ظروف السجن الصغير والكبير. يحيط بنا الأسود والأبيض من أجل خنق الحياه العادية، تلك الحياة التي مالت بالبعض في برج الازاريطه بالإسكندرية. تكتشف كيف أن حال البرج المائل جزء من حال عام، ويكفي أن تنظر إلى الموارد وكيف تخصص، والمشاريع التي يتوالى الإعلان عنها مع القروض التي يتوالى الحصول عليها، والقيود التي تفرض على الناس والعدالة الانتقائية أحيانا والطبقية الواضحة أحيانا اخرى، لندرك حجم العمى الذي يغلف واقعنا.
كان العمى الأبيض لحظة مكاشفة للذات، للسلطة والحكم، للقوة وسوء استغلالها، للعنف واستغلال الضعفاء.. كانت فترة العمى كاشفة عن الكثير، مثلها مثل ثورة 25 يناير. وكما قالت زوجة الطبيب في الرواية: «لا أعتقد أننا عمينا، بل أعتقد أننا عميان يرون بشرا عميان، يستطعيون أن يروا، لكنهم لا يرون». تنتهي الأزمة وربما يحاول من عاشها تجاوزها، ولكن الاشياء في العمق تتغير، ندرك كم ظهرت أشياء على السطح قبل أن تردم ويسقطها البعض في قبور الذاكرة، مع محاولة بناء صور جديدة للواقع القديم والحالي، اعتمادا على حالة العمى الأبيض، ولكنه عمى مؤقت يكفي أن نواجهه بعمق ونؤمن بقدرتنا على الرؤية والفهم، لنكتشف أبعاد ما وراء الصورة وكيف يتشابك العنف والقمع والإرهاب في استهداف الحياة والكرامة والحرية، والسعي إلى السيطرة والنفوذ والقوة من أجل مصلحة جماعة ما، وليس من أجل الانسان ولا الدول ومصالحها بالضرورة.
كاتبة مصرية

العمى الأبيض والإرهاب الأسود

عبير ياسين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية