■ لا شك في أن العنوان جزء لا يتجزأ من السرد السينمائي، وهو الرسالة الأولى لفهم مضمون الفيلم ودلالته، كما يساهم بشكل كبير في تلقي الفيلم قبل مشاهدته، من خلال إيجاد نوع من الاستعداد النفسي والذهني في أعماق المتلقي، وكذلك بعد المشاهدة، عبر إعادة قراءة العنوان في ضوء أحداث الفيلم.
وهناك عناوين تهكمية ساخرة، وهناك عناوين تعبر عن فكرة مغايرة للمعنى المراد، وهناك العناوين الملخصة وهي غالبا تقليدية في طريقتها، مثل سلسلة أفلام «إسماعيل ياسين في البوليس الحربي، وفي الجيش، وفي الطيران» إلخ، فمن خلال العنوان نعرف مضمون الفيلم وبطله ونتوقع أحداثه تقريبا. وفي الغالب يفهم العنوان في دلالته المبتغاة بعد الانتهاء من تلقي الفيلم، وساعتها تكون الدلالة أعمق وأظهر، كما في عنوان فيلم « كل رجال الرئيس» 1976، الذي نحتاج إلى التوقف عنده ودراسته؛ لنتفهم أبعاد عنوانه المثير للجدل. تبدأ أحداث الفيلم، مع انتخابات عام 1972، حيث كان مراسل صحفية «الواشنطن بوست» بوب ودورد مكلفاً بتغطية تلك الانتخابات، التي شهدت سيطرة الحزب الديمقراطي مع مؤشرات صريحة للخلل. وتتداعي أحداث الفيلم، تشير إلى تلقف خيوط تشير إلى عمليات غير مشروعة قام بها الحزب الديمقراطي، ضد عناصر من الحزب الجمهوري، لمعرفة تحركاتهم وتصريحاتهم وخططهم، وهو أمر محرم وممنوع، خصوصاً وقت الحملات الانتخابية. ومع بداية الأحداث، يقوم صحافيان وهما وود وبرنستين، بالعمل كل منهما بشكل منفرد، وفي المرحلة الثانية تطور الأداء إلى التعاون الثنائي، وأيضاً مظلة رئيس التحرير، ومقدرته على مواجهة التحديات والأوامر، للوصول إلى الحقيقة، وعندها باتت الصحيفة ونعني بها «الواشنطن بوست» فريق عمل موحداً، كل منهم يساهم في تقديم المزيد من المعلومات، وعبر قنوات عدة وعلاقات كل منهما يوصل إلى خيط ومعلومة جديدة تساهم في الكشف عن تلك المؤامرة التي تورط بها الرئيس نيكسون؛ وهنا تتغير المعادلات تماماً، فمن الحذر والترقب والخوف، إلى الثقة والتعاون، لكشف خيوط تلك الفضيحة التي زلزلت الحزب الديمقراطي، وأدت إلى اعتراف الرئيس نيكسون بما فعل، وبالتالي سقوطه.
ولو عدنا إلى العنوان «كل رجال الرئيس»، وبعد مشاهدة الفيلم وفهم أحداثه والمتورطين في الفضيحة الكبرى، سيكون العنوان ناقصا لكلمة واحدة، وهي «متورطون أو مدانون»، أي «كل رجال الرئيس مدانون»، فلم يرتكب نيكسون الفضيحة بمفرده، وإنما عاونه فيها أعضاء من حزبه ومكتبه الرئاسي والحكومة. والأمر نفسه نجده في الفيلم المصري «البريء» 1986، والذي تدور أحداثه حول «أحمد سبع الليل» شابٍ ريفي فقيرٍ لم يتمكن من تلقي تعليمه بسبب ظروف معيشته القاسية، ويتعاطف معه «حسين وهدان» الشاب الجامعي المثقف ويعلمه بعض المبادئ الوطنية، كما يشجعه على الالتحاق بقوات الأمن المركزي التابعة لوزارة الداخلية، التي بموجبها سيتحول سبع الليل إلى حراسة المعتقلات الخاصة بالسياسيين، وهناك يتم غسل مخه وإيهامه بأن كل من في المعتقل هم أعداءُ الوطن الذين يحاربون تقدم البلد، ويتم تعليمه الطاعة العمياء، ويخلص سبع الليل في الخدمة، ويحظى بالترقية إلى درجة عريف، وتحدث المفاجأة له، وذات مرة، وهو يقوم بحفلة الضرب المعتادة، عندما جاءت جماعة جديدة من المعتقلين، يتفاجأ بأن «حسين وهدان» جاء للمعتقل مع هؤلاء الشباب المعتقلين، فاضطر إلى التوقف عن الضرب ومنع زملاءه كذلك، وقال للعقيد شركس أن حسين ليس من أعداء الوطن، بل هو الذى أفهمه معنى الوطنية، ولكن شركس يضربه بقوة، ثم يأمر بسجنه مع حسين في زنزانة واحدة، حيث يخبر حسين سبع الليل، بأن جميع الموجودين في المعتقل ليسوا أعداء الوطن، بل هم وطنيون، فيعترف له سبع الليل بأنه قتل واحدا منهم. وتتطور الأحداث، بأن يقوم العقيد توفيق شركس بإطلاق عدد من الثعابين في الزنزانة، فلدغ أحدها «حسين» ومات، واعتبر مساعد شركس الضابط فهيم أن ما فعله سبع الليل إهمال في الخدمة، وليس عدم إطاعة الأوامر لتجنب محاكمته، وتم توقيع جزاء عليه بحبسه 15 يومًا وتنزيله إلى رتبة نفر مجددًا، واستمر ورود المعتقلين إلى المعتقل.
لو تأملنا دلالة الاسم في ضوء أحداث الفيلم، سنجد أن «البريء» تعني دلالات عديدة تتصل بشخصيات في الفيلم، أولها سبع الليل ذاته، فهو عنوان للشاب القروي البريء في فهمه وفعله، وهو يتورط في محاربة الشباب الوطني. وأيضا تتصل بشخصية حسين وهدان الشاب المثقف، الذي مات بريئا، وهو يقوم بأنشطة وطنية، وتنفتح الدلالة أكثر، لتشمل كل فرد في الشعب، يسير وراء نظام الحكم على قناعة بأنهم يقودون الوطن إلى الخير والحرية.
وإذا نظرنا إلى عنوان فيلم «البداية» لصلاح أبي سيف، سنجد أن دلالته معكوسة، فأحداث الفيلم تظهر كيف أن أي مجتمع إنساني يحوي في أفراده ـ وإن قلوا ـ نماذج من التضاد الفكري والنفسي، فهناك المستبد الذي ينازع الشورى والديمقراطية، وهناك المرأة المستقيمة والأخرى الغانية، وهناك العالمة المستقلة الجادة، ونقيضها المستعدة لمنافقة المستبد، وغير ذلك. فتكون دلالة العنوان معكوسة، لأنها تشير إلى المستقبل للوطن، الذي ستكون بدايته الحقيقية للنهضة والاستقرار والإبداع تتمثل في البداية الصحيحة، بالتأسيس على عدد من القيم أبرزها: الحرية والديمقراطية وصيانة الحقوق ومنع الاحتكار.
كاتب مصري
مصطفى عطية جمعة