جميل أن يجد الكتاب العربي مساحاته الطبيعية، المعارض، في جو عام يسوده الجفاف والخوف من مستقبل غامض. الكثير من الناس يرفضون الصورة التي تتجلى بها المعارض العربية اليوم، كونها سوقا للكتاب، وينسون أن خيارات القارئ العربي تحديدا محدودة في هذا المجال.
نموذج معرض فرانكفورت لا يمكنه بنظامه وآلياته أن يستجيب لحاجاتنا الثقافية، بحيث أن المعرض هناك هو بالدرجة الأولى لإبرام العقود، وشراء الحقوق والترجمة، والاتفاقيات، وعرض البضاعة الكتبية الجديدة.
المعارض العربية في هذا أقرب إلى معرض باريس بتحقيقها الخاصيتين، خاصية سوق الكتاب، والبيع والدعاية، وخاصية شراء الحقوق إذ يخصص يوم في المعرض لصناع الكتاب والمحترفين. في ظل سوق كتاب عربية شبه مغلقة، تقدم لنا بعض معارض الكتاب العربية المتعددة، المغاربية والمشرقية، الكثير من المظاهر الجميلة التي يتجارى فيها القارئ نحو كاتبه المفضل مما يدل على أن القراءة في الوطن العربي ببعض الخير، على الرغم مما يقال عن محدوديتها، وهو أمر صحيح، إذا ما قيست عالميا، ولكنها موجودة في مواجهة وسائل التواصل الاجتماعي التي تبتلع كل الوقت. تلعب شهرة الكاتب دورا مهما في علاقة القارئ بكاتبه، ومن ضمن ذلك أيضا، القيمة الفنية المصحوبة بالعادة القرائية لشخص معين دون غيره.
من هنا يأتي السؤال: هل الشهرة رهينة الدعاية كيفما كانت هذه الأخيرة؟ وماذا تعني الدعاية في مجال الكتابة؟ هل هي مهنة مرتبطة بالكاتب أم حرفة حية ومستقلة، الهدف من ورائها جعل الكتاب مرئيا؟ ماذا يعني للإنسان أنه أصبح مشهورا ومعروفا؟ ربما في الجوهر لا تعني الكثير، وتعني كل شيء أيضا.
فهي حالة تقود إلى حقيقتين. الأولى أن كتب المؤلف أصبحت مرئية، وهذا مهم بالنسبة للمقروئية ويوجه اهتمامها حتى لا تبقى رهينة الفوضى القرائية، الثانية ترتبط بالحالة الإيهامية، التي تعمق الحس النرجسي لدى الكاتب أنه أصبح إلها صغيرا، أو نبيا محاطا بكوكبة من الأتباع أو المريدين، وفي هذه الحالة تنتقل الحالة من الطبيعي إلى الحالة التي تحاذي الجانب المرضي الذي يجعل من الأنا كل شيء بحيث يخرج الأمر من دائرة الكتاب، ويتجه نحو فكرة الماركة المسجلة التي تجعل من الكاتب إيقونية تجارية، وتصبح فكرة القراءة والكتاب شيئا ثانويا. القارئ ليس مريدا أعمى عندما تكون العلاقة بالكاتب صحية، ولكنه صديق وفي، ومتابع جيد لأنه يمكنه أن يتخلى عن كاتبه في أية لحظة من اللحظات عندما يغير هذا الأخير مسارات الكتابة التي عوّد قارئه عليها، أو لم يعد مقنعا في فعله الكتابي. كان الكاتب العربي الذي يكتب بلغة أخرى غير العربية، المقيم في أوروبا في بعض نماذجه، يكتب لقارئ أوروبي بالدرجة الأولى. يريد أن يسترجع شرقا صنعه الرحالة والكتاب الأجانب والاستشراق. شرق البذخ الوهمي، شرق مصنّع وفق الحاجة، وليس شرق المعاناة في مواجهة حداثة قاسية وصعبة. وكانت رواياتهم منتظرة باستمرار من هذا القارئ الذي اكتشفهم من خلال رواياتهم التي تستجيب لأفق انتظاره، ولكنهم عندما غيروا المسارات التي عودوا عليها القارئ، وراحوا يبحثون في موضوعات البيروقراطية التي تأكل المجتمعات العربية، ومشكلات التطور وصعوبات التنمية وغيرها، تخلى عنهم فجأة قراؤهم، والدار نفسها لم تمهلهم لوقت طويل، وخيرتهم بين العودة إلى الكتابة التي كانت تجلب جمهورا كبيرا، أو توقيف العلاقة والعقود. فعادوا إلى المسارات الاستشراقية الأولى التي منحتهم الخصوصية في سوق الكتاب. القارئ يتكون عبر الاستمرارية والسنوات وليس في القطيعة، ومن هنا وفاؤه. اشتهر أمين معلوف بالرواية التاريخية وظل وفيا لها وما يزال. حتى عندما كتب صخرة طانيوس التي خرجت عن ملحمته التاريخية المعتادة، أو رواية أصول التي تناول فيها جزءا مهما من سيرته الذاتية، أو التائهون، تمّ ذلك من موقع التاريخ البعيد أو القريب، ولهذا ظلت مقروئيته مستمرة ووفية. وتتوجه لقارئ بمواصفات محددة وخاصة، هاجسها المركزي هو التاريخ. دور النشر في الغرب لا ترحم. توفر كل الفرص لشيوع النص، ولكن على هذا الكاتب أو ذاك أن يفرض نفسه؟ والا ستتخلى دار النشر عنه، وعليه أن يبحث عن ناشر غيرها. الهاجس التجاري مهم وحاسم في عملية تسويق الكتاب، ولا يمكن التغاضي عنه، بالخصوص بالنسبة لدور النشر المعروفة والكبيرة التي لها خط واضح تسلكه في مجال الطباعة والتسويق. من حق الكاتب أو المبدع عموما أن يشعر ببعض الاهتمام تجاه نصوصه، ولكن ذلك لا يتعدى الحالة الطبيعية والمعقولة، أن يمنح بحضوره منصات التوقيع والمحاضرات، لنصوصه فرصة أن تكون مرئية مثلما هو الحال في الغرب؟ وفي متناول قرائه، وإلا ستصبح الحالة معقدة ومرضية. في الغرب يسهم الكاتب بشكل طبيعي في حركية الكتاب.
دار النشر توفر له فرصة أن يتحرك مع كتابه، وهو يقوم بالباقي أي اللقاء مع جمهوره، والمؤدى في النهاية هو الوفاء لجمهور القراء، ينتظر الكاتب في أمكنة مختلفة، ولا يمكنه أن يخذله بعدم المجيء أي أن الكاتب يلعب دورا طبيعيا في عملية التسويق التي هو شريك فيها، الكتاب هو منتج تجاري يوضع في السوق، وله أن لا يبقى مكدسا على الرفوف وإلا سيكون جزء مهم في سلسلة الكتاب قد تم التخلي عنه. هناك ميزانية في الدار مخصصة لهذه الحركية الإعلامية والدعائية حتى يصبح الكتاب جسدا وليس مجرد افتراض في وسائل الاتصال. الامر يختلف جذريا في الوطن العربي، فالناشر العربي، في الأغلب الأعم، لا يخسر مليما واحدا من أجل الدعاية لكتاب هو نشره، بما في ذلك كبريات الدور.
وينتظر من الجوائز أن تقوم بذلك إذا حالف الفوز أحد النصوص التي قام بطباعتها. المسار الدعائي يصنعه أحيانا، الكتاب أنفسهم بالكاريزما التي يملكونها، وربما الصدفة أيضا إذ إن هناك كتبا تملك حظا أكثر من غيرها. في أعماقها شيء خفي يقودها إلى الانتشار ولا علاقة لذلك بالقيمة الأدبية. ليس دائما الكتب الأكثر انتشارا هي الأهم. طبعا هذا لا يمس حق الكاتب في التعريف بكتبه كلما كان ذلك ممكنا، لكن أن لا يتحول الكاتب إلى آلة دعاية لكتبه، لأنه لا جدوى من وراء ذلك. القارئ ليس غبيا حتى وهو تحت تأثير الصحافة الأدبية الصانعة للكاتب أو المفبركة له أحيانا، يتشمم بوسائله العميقة والخاصة، الحقيقة، ويدركها بحواسه الفنية. من يستغبي القارئ هو الغبي.
القارئ كيان متحرك. وفي حركيته يخيط هذه العلاقة مع كاتبه المفضل بهدوء ولكنه، كلما كبر اتسعت شروطه إذا لم يجدها تخلى عن كاتبه وذهب في اتجاه كاتب آخر أكثر تعبيرا عن تعطشه ومطالبه الجديدة. يبدأ طفلا في المكتبة الخضراء، ثم، تحت تأثيرات المراهقة المرتبكة عاطفيا، يسير نحو الأدب الوردي الذي يعبر عن مآزقه العاطفية، قبل أن ينتهي في عمق أسئلته الوجودية التي تحملها الكتب بين طياتها، فينتمي إلى الأقلية المتسائلة عن شرطيتها الإنسانية.
واسيني الأعرج
هل الكتابة، حالة ولادة،البعض يزعم أنة يغرف من بحر،والبعض الآخر ،وأنا منهم أزعم أنني أنحت في صخر.
لكن في كل حرف،كلمة،جملة نبض،يضغط،يعتصر،يشد،
ويرخى،حسب العصب،ودرجة توترة ،هل نحن شعب مرتاح
أم مأزوم ؟!. الإجابة قد تجدها ،بين السطور .