أودّ، بادئ ذي بدء، أن أوضح ما أعنيه بمفردتَين، وتعبيرَين، في عنوان هذه المادة.
مفردة القصة القصيرة هنا، هي شكل القصة القصيرة جداً، وليس المتوسطة أو الطويلة نسبياً، ذات الخصائص المعروفة التي استقرت نسبياً؛ مثل الحجم الوجيز، والكثافة، واللقطة المنفردة، والشخصية شبه الوحيدة، وزمن القراءة، وما إلى ذلك مما نجده في سلسلة التعريفات الكلاسيكية للقصة القصيرة. وأمّا القصة القصيرة جداً فهي، في نظري وباختصار شديد، جنس أدبي حديث العهد، يعتمد على مزج بالغ الحساسية بين العنصر القصصي، أو القصصية، وعناصر الاقتضاب والتلميح والدلالة الخاطفة والصدمة، فضلاً عن عنصر اللغة عالية الإيحاء والدلالة والمجاز.
المفردة الثانية، أي الجديدة، أعني بها النماذج القصصية التي انتهجت هذا الشكل، أو هذا الجنس الكتابي؛ ويستوي في هذا أن تكون الكاتبة أو الكاتب من جيل شابّ، أو وسيط، أو رائد. ذلك لا يعني، البتة، أنه لا جديد، أو لا تجديد، في نصوص الكاتبات والكتّاب الأوفياء لأنماط القصة القصيرة المألوفة، أو لم يكتبوا إلا القليل فقط من نماذج القصة القصيرة جداً. وهنا أنظر إلى مفهوم الجديد بالمعنى الجدلي الذي تحدث عنه أنطونيو غرامشي ذات يوم، أي مبدأ الجديد ذي الولادة الشاقة، الذي يصارع سياقات قديم لم يمت بعد. هذه الحال تختصر جوهر التعبير الأول، أي إغواء الشكل؛ من حيث أنّ القصة القصيرة جداً باتت خياراً جذاباً في الكتابة، صاعداً، سريع الانتشار، و»على الموضة» إذا جاز لي أن أقول، على نحو يذكّر بصعود قصيدة النثر، مقابل قصيدة التفعيلة والعمود. والإشكال، هنا أيضاً، أنّ الخيار ليس بالسهولة التي يبدو عليها، وبالتالي فإنّ الإقبال على الكتابة فيه أمر، واستثمار القسط الكافي من مزاياه وكموناته أمر آخر مختلف تماماً. وأمّا التعبير الثاني، مشقة النوع، فهو ناجم عن ذلك الصدام المنتظَر منطقياً، بين الاستجابة لإغواء الشكل، وتوفير مقومات الحدّ الأدنى في خدمة النوع؛ بحيث يتكامل القطبان بدل أن يتنافرا، ويجبّ أحدهما الآخر. ذلك لأنّ الشرط الأوّل لإنجاز نموذج ناجح من القصة القصيرة جداً، هو إدارة خطّ قصصي، أو حكائي لمَن يشاء؛ وبالتالي تفادي النأي عن النوع والانجرار خلف الخاطرة أو حتى قصيدة النثر.
ولعلي أبدأ من حكاية جدل الجديد مع السابق، ولا أقول القديم، في مشهد القصة القصيرة الأردنية عموماً؛ ومن سؤال لفت انتباهي منذ أن قرأت أوّل قصة قصيرة أردنية، وكانت ـ يا لحسن المصادفات ـ للصديق محمود الريماوي: ما الذي يجعل القصة القصيرة، هذا النوع الكتابيّ الفريد والمنفرد، الذي بدا آخذاً في الانحسار والانكماش كما يتوجب أن نعترف، متطوراً إلى هذا الحدّ في الأردن، وناضجاً على نحو كمّي ونوعي مثير للدهشة حقاً؟ وإذا صحّ أنّ استنتاجاً كهذا ينطبق على مشهد القصة القصيرة الإجمالي، أي كما يكتبه الرجال والنساء على حدّ سواء؛ فلماذا تبدو حصة المرأة في صناعة هذا المشهد، وكأنها أكثر بكثير من مجرّد «قسط» طبيعي؟ ولماذا تبدو كتابات هند أبو الشعر وسهير التل وسحر ملص وسامية العطعوط وبسمة النسور وحزامة حبايب وحنان بيروتي وجميلة عمايرة وأميمة الناصر ومجدولين أبو الرب ومريم عويس ومنيرة صالح وجواهر رفايعة وانتصارعباس… لماذا تبدو وكأنها، في صناعة بيت القصة القصيرة الأردنية، حجر أساس وسقفاً وأرضيةً في آن؟ وأخيراً، لماذا يلوح، أيضاً، وكأنها «البصمة» والعلامة الفارقة، خصوصاً إذا اتفقنا على أنّ القصة القصيرة التي يكتبها الرجال تندرج بهذا القدر أو ذاك في التيارات الأعرض للقصة القصيرة العربية، ولا تميل إجمالاً إلى عكس انفرادات أسلوبية أو جمالية فارقة، ما خلا خصوصية الموضوعات المحلية بالطبع؟ ذلك يقودني إلى الابتداء من الجديد الذي تطرحه القصة القصيرة جداً، والجديدة؛ حيث تتقاطع المضامين في ثلاثة محاور مركزية، ذات طابع كوني إنساني عريض، ولكنها غالباً تأخذ أيضاً منحى الهواجس الوجودية الكبرى: الجسد، اللغة، والمكان.
الجسد: محور الانعتاق
في المحور الأول، الجسد، وعند كاتبات من أمثال تبارك الياسين وخلود المومني وتغريد أبو شاور، فإنّ الكتابة تبدو فعل انعتاق بامتياز، الأمر الذي تشدّد من مغزاه حقيقة أنّ الأصوات النسائية الشاعرة أقلّ بكثير من الأصوات القاصّة، وأنّ هذه الأخيرة تكاد تحتكر معظم قسط التعبير الإبداعي النسائي. وفعل «الانعتاق» هذا مقترن، في قناعة كاتب هذه السطور، بأدب المرأة أينما كان، سواء في بلدان تسودها ثقافات تقليدية وتقاليدية، أو في بلدان أخرى تتحرّك ثقافتها في فضاء ليبرالي مفتوح.
والأرجح أنّ الموضوعات الشائعة في قصص الياسين والمومني وأبو شاور، ولكن أيضاً لدى معظم القاصّات الأردنيات في الواقع، هي الدليل الأفضل، عملياً ومنهجياً، إلى تلمّس فعل الانعتاق ذاك. ومن الجلي أنّ الأشكال، أسوة بالموضوعات، تتعدد أو تتباين أو تتقاطع أو تلتقي، لا لشيء إلا لكي تصنع مشهداً متجانساً في نهاية الأمر؛ جدلياً في اختلاف القاصّات واتفاقهنّ، وحيوياً في تعبيره عن البنى الشعورية المعقدة للمرأة العربية إجمالاً، وللمرأة الأردنية بصفة أكثر خصوصية. والجسد، في سياق فعل الانعتاق الذي تمارسه القاصّة الأردنية الساعية إلى تحرير الذات، ليس موقع الرغبة الحسية أو مادّتها أو موضوعها، ولهذا فإنه ليس الجسد بمعناه الجنسي أو البهيمي. إنه مقام الذات ومنفاها في آن معاً، ولا سبيل إلى تحرير الذات وخروجها من منفاها إلا إذا تحوّل الجسد إلى نصّ ناطق، بدل بقائه – أو إبقائه – كتلة من اللحم والأعضاء. في «برود»، القصة المؤلفة من 21 كلمة، تكتب الياسين: «قَهْقَهَتْ بصوت عال، وهي ترى الأُخريات يبكين ذوبان رجل الثلج، الذي صنعنه…
فمازال رجلها صامداً إلى الآن يتناول طعامه في الصالة». حيث لا يقتصر المشهد على تسجيل مزيج من السخرية والنقد، بل يقود أيضاً إلى حسّ بالانعتاق، عن طريق القهقهة. وفي «ثورة»، القصة المؤلفة من 41 كلمة، تكتب المومني: «فم الذاكرة مليء بالزبد، يصرخ في وجه كل النساء، التي أسلمت حاضرها ومستقبلها لرجل تناديه زوجي ثم تثور عليه. لهذا قبلتك، أرعبني البنصر، عشقت الخضاب في اليدين وحلمت بالأثواب المزركشة وبالزغاريد. ولأنك سرقت دميتي وطائرتي الورقية ومشابك شعري الملونة؛ كرهتك». وليست مفردة العنوان هنا سوى اختصار صارخ، مباشر بل لا يخلو من تلقائية ساذجة، لحال الانعتاق؛ ليس من المنادى بصفة الزوج وحسب، بل من المؤسسة الزوجية ذاتها، ومن رموزها في الجسد والدمية ومشابك الشعر والخضاب.
وفي «ملحمة»، القصة القصير جداً بدورها، ولكنها تتجاوز 200 كلمة، تحيل أبو شاور إلى رموز مثل كنعان وفينوس ونرسيس والفهدة الإفريقية وحجازية العينين ذات البرقع الأسود، وتختتم هكذا: «صباح أخير لا فجر فيه، ينعتق فيه العبد من جماله فيصير قشة على وجه الماء، ويتسرب فيه الورع من أكفّ الداعين. وينعتق الوجع في جباه الصبايا، والرمد في عيون الرجال. أبانا، إلهنا: ماذا سينقص الجغرافيا لو زاد عدد البائسين؟». ومن الواضح أنّ التشديد على مفردة الانعتاق، في أبعاد واقعية وأخرى رمزية، لا يقتصر على النساء وحدهنّ، بل يشمل الرجال، وصفة «العبد» عموماً. هذا مقام الجسد الحيّ، غير الرمزي وغير المجازي، المصنوع من لحم ودم. لكنّ القاصة الأردنية اشتغلت على تنويعات مدهشة أخرى لمفهوم الجسد، لا تقتصر على بُعده الفيزيائي وحسب، بل تتعداه إلى أبعاد أخرى تجعل من الجسد رمزاً للهوية، قناعاً، حجاباً، أو حتى لوحاً أردوازياً يتلقى النصّ كتابةً على كتابة/كتابات سابقة. لافت، في المقابل، أنّ القاصّ الرجل يمكن أن يستولي على موضوع الجسد الأنثوي، على نحو لا يكتفي بنسبة السرد على ضمير مؤنث، بل تكاد سيرورة التبادل تنقلب إلى ما يشبه الإنابة في التعبير عن فعل الانعتاق، في مستوى مدهش هو تخليق الجسد الأنثوي، أو تخيّل تركيبه من منظور ضمير المتكلم تحديداً؛ وصولاً إلى البلوغ به نحو نهاية ختامية، حلمية وكابوسية الطابع. مثال على هذه الحال نقرأه لدى البستاني، في نصّ بعنوان «سقوط حرّ في مرآة مهشمة»، يقوم معماره على تركيب مجموعة لوحات قصصية قصيرة جداً، كما أراها، من مجموعته «الفوضى الرتيبة للوجود»، التي صدرت سنة 2010: «يمرّ ضباب كثيف. تحتجب الرؤية فتحسّ بسعادة غامرة ونشوة، تحسّ بنفسها تنقلب من الداخل إلى الخارج. يظهر لها شعر قصير جميل وأذنان كلّ واحدة فيها سبعة أقراط. يظهر لها جسد مكتمل الأنوثة، وتعبق برائحة الليمون وملمسه». شنب، في نصّ بعنوان «انتظار»، من مجموعته قهوة رديئة»، يقارب انعتاق موضوع الأنثى بطريقة خافية، وبارعة؛ حين يمارس إنابة عن ضمير المؤنث الغائب، ذات طابع عاطفي يتقصد الميلودرما. ولكنه، في الرسالة الدلالية العليا كما أفهمها شخصياً، يثير مسألة الانعتاق على نحو نقدي ساخر، مستخدماً بعض عناصر الجسد:»ملول حبيبي وأنا خرقة بائسة» خطت امرأة على منديل ورقي، فوق طاولة من زجاج، في مطعم فاخر، وتحت إنارة خافتة… وبالمنديل ذاته جففت دمعتين وسائلاً انساب من أنفها. ثم انطلقت إلى الشارع المضاء. وتركت للريح أن تعابث شعرها».
اللغة: سياج التقطير
المحور الثاني هو اللغة، وهذا عنصر يشمل المضمون مثل الشكل، خاصة في هذا النوع الكتابي الذي نسميه القصة القصيرة جداً. مطلوب من الجملة أن تكون فعلية، في أقصى مدى ممكن، لكي تضخّ من باطن الاختصار والإضمار المقدار الأعلى الممكن من المعنى والدلالة، ولكي تنأى ما أمكن عن الجملة الاسمية والاستطراد فيها بصفة خاصة. وإذا صحّ انّ القصة القصيرة هي، أصلاً، فنّ سرد البرهة الكثيفة، واللقطة الخاطفة، والحالة الشعورية المتفردة… فإنّ القصة القصيرة جداً مطالبة بهذا أوّلاً، ولكن بعد تقطيره أكثر فأكثر لغوياً في المقام الأول. في «المحنة»، من مجموعته «مقدمات لا بدّ منها لفناء مؤجل»، يكتب هشام البستاني:»العالم مخدة ملاكمة، وأنا البطل. أسدد بيميني، أموّه، أسدد بيساري، أترنح مخاتلاً منافساً متوهماً تضيع ضرباته في الهواء، يسيل عرقي غزيراً وتتلاحق أنفاسي كقطار بخاري، وعندما ينهدّ حيلي وأرتمي كالشريطة مستنداً إلى جدار النادي، يتباطأ اهتزاز مخدة الملاكمة رويداً رويداً ليتوقف تماماً في المكان نفسه الذي بدأت حركتها منه: نقطة الصفر». ورغم افتتاح النصّ بمبتدأ وخبر، فإنّ الأفعال سرعان ما تتعاقب، فتبلغ 12 فعلاً؛ كلها ذات محتوى حركي مادي، يتفادى المجاز تماماً، وكأنّ هذا الخيار يتوسل توحيد الشكل والمحتوى في صيغة لغوية، وجيزة ومكثفة وخاطفة. ولعلّ امتياز البستاني الأهمّ هو وعيه العالي بمنطق كتابة القصة القصيرة، في كينونتها هذه تحديداً؛ وبالتالي استكشاف المحتوى والشكل معاً، في قلق كبير على تفادي الشطط في تحميل النوع ما يُنتظَر عادة من طرائق القصّ الأخرى. وهذا دأبه حتى حين ينحاز، بشدّة، إلى نسق الكثافة الشعورية التي تسيّج الأحدوثة، حيث لا يقتصر السياج على الإيجاز البليغ، بل يضغط مشهداً زاخراً، ويستبطن ما يحتشد على السطح.
في «التباس»، يكتب عامر الشقيري: «ومن المحتمل أن السماء كانت متخمة بغيوم سوداء وأن الساعة كانت الثانية صباحا من يوم ثلاثاء عادي تماما لا يمكن أن يحدث فيه شيء. ويعتقد أن الرجل كان يريد البقاء لولا أنه دخل بيته ووقف مطولا أمام المرآة وفاجأته ملامحه الغريبة إذ لم يكن هو هو.. الأمر الذي استدعى أن يخرج راكضا من بيته ويغيب عن الحي تلك الليلة.. وإلى الأبد». وثمة، هنا، توازن بين الجمل الفعلية والأخرى الإسمية، لا يلوح أنه أخلّ بمناخات القصّ القصير جداً، خاصة أنّ الخطّ السردي ينتهي إلى قفلة ختامية أقرب إلى إغلاق الحبكة المصغرة. وفي هذا الخيار بعض التنويع على علاقات الشكل بالمضمون، عبر ذلك التوازن تحديداً؛ وكذلك في ميل الشقيري إلى التدخّل بلسان سارد خارجي، كما في التعقيب على اكتساب المشهد مزيداً من المأساوية، أو ترجيح احتمال أن تكون السماء متخمة بالغيوم.
محمد فائق البرغوثي يختار التحرر أكثر من اشتراطات اللغة في القصة القصيرة جداً، تحت طائلة الإخلال بالتوازن التعاقدي بين الجملة الفعلية والإسمية، وبين مقتضى القصّ الوجيز وإغواء انفلات الجملة إلى إيقاع تواتري سريع؛ كما في «كلاسيك»، التي تبلغ قرابة 50 كلمة: «رحاب» الشاطرة الجميلة الأولى على صفها، رحاب الصغيرة محتارة؛ مهندسة أم دكتورة ستصبح عندما تكبر، رحاب الصغيرة ينمو العنب على صدرها فيخرجها والدها من المدرسة، رحاب تبكي، رحاب الثائرة.. الآن في حضن عريسها الكهل. رحاب ينتفخ بطنها وتنجب مولودة أنثى، يسميها أهلها «عائشة « وأنا أسميها رحاب .
رحاب.. الشاطرة الجميلة الأولى على صفها، رحاب الصغيرة محتارة… رحاب الصغيرة».
خالد سامح المجالي يفضّل شحن اللغة بالمجاز، خاصة أنه يعتمد المناخات الفانتازية العجائبية، ويقيم معمار السرد على شحنة عالية من القصّ باتجاه حبكة وقفلة؛ على نحو يصنع المفارقة، بوصفها واحدة من ابرز عناصر القصة القصيرة جداً. يكتب، في «ليلة ميلاد القطط الوحشية»: «القطط الوحشية التي سقطت في طريقي بعد حفل عيد ميلادي لم تكن سوى شبح الموت بأرقِ هيئاته، خرجت من كل الأزقة وزوايا الشوارع التي مررت بها، ملامحها مسطحة، عيونها الفسفورية تضيء وتنطفئ بصمت بارد امتد لرقبتي كطوق النهاية. عندما دخلت غرفة نومي كانت إحداها تغفو على سريري، اقتربت مني وبما يشبه المواء الحاد وشوشتني: «أمنح عمرك عاماً إضافياً، وأستطيع تجديده».
لكنّ جمعة شنب، المخضرم الذي نشر مجموعته الأولى «للأرض جاذبية أخرى» سنة 1980، ومال في السنوات الأخيرة إلى القصة القصيرة جداً؛ يقترح مزجاً ديناميكياً تتباين فيه طبائع اللغة، فيجري تشديد المجاز تارة، أو تبسيطه طوراً؛ وإعلاء اللغة الذهنية الداخلية في فقرة أولى، ثمّ استخدام اللغة الوصفية الخارجية في فقرة لاحقة؛ فضلاً عن الموازنة بين الجُمَل القصيرة المتقطعة، وتلك الطويلة المنسابة؛ والعامية أو الفصحى المبسطة، في موازاة الصياغات الاستعارية والإيحائية. «طحلب» تبدأ بالإعلان عن نموّ «طحلب شرس تحت بيوتات مدينة الجوز واللوز، وامتصته أجساد الناس بسهولة منقطعة في سبع ثوان، فتحولوا إلى شخوص مختلفين»؛ ثم تنتهي هكذا: «وفي اليوم التالي أخذت المسألة طابعاً آخر، حيث راح الناس يلقون بمتاعهم في الشوارع التي غدت مثل كرنفال ملوّن، وغصّت بالأسرّة والثلاجات وكل مظاهر التكنولوجيا، ثم لم تعد بهم رغبة في طعام فألقوا بأكداس هائلة من البندورة والبطاطا والكمثرى والزيتون والليمون والكيوي على الأرصفة…
وفي اليوم الثالث، نقص عددهم إلى الثلث، فاجتمعوا واتفقوا على أن يقتل بعضهم بعضهم، وما إن حلّ المساء، حتى تحوّل التعداد إلى صفر».
أمّا عند القاصة المرأة، فإنّ محور اللغة ليس مجرّد استخدام من نوع آخر لمفردات القاموس ــ الذي قد يصحّ القول إنه ظلّ ذكورياً أمداً طويلاً ــ بل هي في الآن ذاته محاصصة للمعنى، واقتطاع لما يمكن اعتباره حصّة الأنثى من دلالة المفردات والمصطلحات والأفكار. اللغة هنا مطالَبة بإعادة صياغة كامل التجربة الإنسانية للأنثى ــ من موقع الأنثى هذه المرّة ــ ومطالَبة بتحويل هذه الصياغة الجديدة إلى أداة للحوار مع الرجل، وربما مع العالم الخارجي بأسره. ذلك لأنّ اللغة الأخرى، لغة الرجل بمعنى ما، هي اللغة السائدة للنظام السائد الذي تحاول القاصة الانعتاق من إساره بوسيلة الكتابة؛ وكسر تلك القيود الخافية، أو حتى المعلنة، التي تكبّل الأحاسيس والرؤى والأحلام، وتنقلب إلى قيد ثقيل لا يعيق الانعتاق وحسب، بل يحوّل المعنى إلى سجن لغوي.
المكان: افتراضي وتعاقدي
في المحور الثالث، أي المكان، يندر أن تشير القصة الجديدة، وأعني دائماً القصة القصيرة جداً، إلى المكان في تعيينات اسمية أو جغرافية فعلية؛ وتميل، في المقابل، إلى اعتماد مكان مجازي ومتَخيّل، وهو غالباً موقع افتراضي يشهد جدل الشدّ والجذب بين الموضوعيَن السابقيَن (الجسد واللغة)؛ مما يجعله، بدوره، مادّة ثالثة لفعل الكتابة. وقد يُقال إنّ شكل القصة القصيرة، فما بالك بالقصيرة جداً، لا يتيح الاستفاضة في تشخيص المكان؛ بل لعله يجبّ تماماً خيار موضعة الحدث، الوجيز أصلاً والكثيف والمنفرد، في سياقات مكانية، حتى ضمن حدودها الدنيا. بيد أنّ هذا القول يحتمل سجالاً جدياً، ليس لأيّ اعتبار يخصّ إدراج أو إغفال المكان، بل كذلك لأنّ المكان زمان أيضاً، أو هو استراتيجية غير مباشرة لردّ القصّ إلى واقع فاعل، ملموس مرئي أو مجازي تخييلي، سيان. والحال أنّ المكان، من زاوية أخرى، قد يتحقق بصورة مضمرة، لا تُدرج العناصر المحلية أو الجغرافية بالضرورة، بل توحي بها في معطيات شتى تشير إلى بيئة ما، أو إلى منطقة، أو حتى إلى بلد ذي تميّز خاصّ. حين تتحدث المومني عن المضافة، وعرافة القرية، وتستعيد عبارة مستخدمة في لعبة شعبية (جمّال سرقولك جمالك)، فإنها تحيل إلى بيئة، وإلى مكان. وحين يشير شنب إلى حيّ فيه مطعم يبيع الحمص والفول والفلافل، أو يحكي عن المؤذن الشيخ جبريل وهو يصعد إلى مئذنة، فإنه يجرّد المكان من مجازيته المطلقة، فيجعله منتمياً إلى بيئة وسياق؛ رغم استخدامه توصيفات مثل «مملكة الدر المنثور» أو «مدينة الزيزفون»، بل يسمّي ضاحية بروكلين في نيويورك، أو قلعة عجلون.
وثمة دلالة خاصة في أنّ البستاني يصدّر مجموعته «أرى المعنى»، بهذا الاقتباس من الحلاج: «من وصل إلى النظر استغنى عن الخبر، ومن وصل إلى المنظور استغنى عن النظر». وفي نصّ مهدى إلى يوسف عبد العزيز ويوسف أبو لوز وطاهر رياض، يؤثث البستاني مكان الشعراء الثلاثة على النحو المجازي الأقصى، ليس دون تلميحات إسمية إلى مواقع محددة؛ ثمّ يترك لنا إقامة الصلة المكانية، وربما الزمانية أيضاً، بين الجغرافيا التي نعرف أنّ هؤلاء الشعراء ينتمون إليها، والجغرافيا التي يُفردها لهم هكذا: «الشعراء ثلاثتهم، ينزوون إلى طاولة العتمة، يرشقون القصائد على الحائط المقابل في الكناري، يتأملون رؤوس الخراف المقطوعة في قبو أبي موسى، يتعلمون الرقص على خطوات ابنة الليل، يقرؤون كلامهم الجميل على الأشجار، ويذوبون في اللغة. الشعراء، ثلاثتهم، فاتهم مترو الذئاب، فجلسوا في كراسي المحطة بانتظار أسنان بليت، وأظافر تقصقصت، وعمر ذهب ولن يعود».
ومن الجدير بالذكر، هنا تحديداً، أنّ بعض نصوص شنب والبستاني تتولى عبئاً خاصاً، تعبيرياً وأسلوبياً؛ هو إقامة الصلة بين القصة القصيرة جداً، وقصيدة النثر كما اقترحها والت ويتمان وبودلير، وليس كما صارت عند أدونيس أو محمد الماغوط مثلاً؛ خاصة من حيث تدوير كتلة النص، أو على العكس تقطيع سطوره، أو المزج بين تمثيلات متغايرة بين السطر الشعري والفقرة والمقطع. أشير خصوصاً إلى أنّ شنب يتعمد ضخّ نبرة من السخرية، محسوبة بمقدار، في النصوص التي يبدو فيها النَفَس الشعري طاغياً أو عالياً؛ كما في نصّ بعنوان «رضا»، يُختتم هكذا:
«لماذا، يا قلبي المسكين، كلما نسيني حبيبي تعلقتَ به أكثر؟
ولماذا، يا أنا، أحبّ حبيبي لما يذكرني، ولما ينساني؟
رباه!! كم يطيب لي أنّ في ساعات يومي حبيباً، ولو نسّاء!
حدثت أنثى نفسه، واضطجعت جذلى نشوى».
المكان، إلى هذا، يمكن أن يكون من صنع الكاتب، وليس بمعنى التكوينات الناجمة عن أنشطة التخييل وحدها، التي قد تبدو تحصيل حاصل؛ بل بمعنى شحذ الخلفيات المعطاة في القصة، بأبعاد إضافية، أسطورية أو رمزية أو أيقونية أو بصرية، توكل للقارئ مهمة استنباط، أو حتى خلق، مكان تعاقدي مع النصّ. وهذه تقنية شاقة تنمّ عن مراس في تطويع النصّ الوجيز، نقرأها في تنويعات بارعة لدى غالبية المخضرمين من كتّاب القصة القصيرة جداً؛ وبين أفضلها، وأرقاها فنياً، خيار تشييد مكان مجازي اتكاء على سَوْق معطيات سياسية أو اجتماعية أو أنثروبولوجية أو أسطورية. وأشير هنا، على نحو مخصص ضمن ما تناولته من أسماء، إلى شنب والبستاني.
أعود، في الختام إلى سؤال جدل القديم والجديد، فألاحظ أنّ تجاور القصة القصيرة مع القصة القصيرة جداً ـ ليس على مستوى تناظري بين نتاج وآخر، بل على مستوى النتاج الواحد ذاته لدى القاصة إياها، أو القاصّ إياه ـ يبدو أقرب إلى التعايش الحيوي والتعددي من حيث الشكل أوّلاً؛ كما انه، في المقام الثاني، حقل خصب لحوار المضامين تارة، أو تَوازيها طوراً، أو حتى ارتطامها بصدد ما تفرضه الأشكال ذاتها من حدود.
وفي ذلك، وما يستدعيه من جدل حواري، بعض السبب في اطراد المشهد القصصي المعاصر في الأردن، وفي اغتنائه بالجديد، أكثر فأكثر.
٭ ناقد سوري ـ باريس
صبحي حديدي
رائع أستاذ صبحى ، كانت إضاءة لامعة ونظرة بانورامية على المشهد القصصى الاردنى ، أنا شخصيا استتمتعت بها فى عمان ، ليتك توسع مجال العرض لتستكمل هذا الضبط الدقيق ، وتخليصنا من الإلتباسات المحيطة حول هذا النوع الادبى الحديث : القصة القصيرة جدا
قبل نحوسنة جاءني صديق…وقال كتبت قصتي بدقيقتين…وأراني ( النصّ ) القائل : ( ولد فكان وهومولود ليكون وغداً سيكون.العمرعنده ثوان من اللحد إلى المهد أي بالعكس فلا يموت ؛ إنه ينتصرعلى تسلسل الزمن بالمقلوب أوبالخداع ؛ ليبقى من الخالدين ).وقال : ما رأيك بالفكرة ؟ قلت له : ( إنها فعلاً فكرة فقط ).قرأت مقالك عزيزي صبحي الحديدي.أظنّ إنه أكثرمن فكرة فقط.مع مودتي.