لم تغب القصّة القصيرة، تحوّل الضوء عنها فحسب. يتحمّل الناشرون المسؤوليّة في ذلك مرّتين، إذ نشروا مجموعات قصصيّة كثيرة، لا ترقى لتكون بين أيدي المتلقّين، ثمّ أعرضوا في ما بعد عن نشر القصّة تقريباً.
النقد يتحمّل المسؤوليّة أيضاً، فلم يقم بدوره التنويريّ والمعرفيّ، بالتركيز على أهميّة تنوّع النتاج الثقافيّ، الأجناسيّ والأنواعيّ، والتشجيع على رفد الحياة الثقافيّة به، ووضع الحدود بين القصّة القصيرة، وما عرف باسم «نصوص»، مستسهلاً فكرة الكتابة عبر النوعيّة، التي غالباً ما دلّت على ضعف، كما أدخل بعض الدارسين، التهويمات الكتابيّة كلّها، تحت اسم التجريب، بما يكتنفها من ضعف اللّغة.
المبدعون أيضاً ذهبوا إلى الرواية، لأسباب شتّى، منها رغبتهم في وهب ذواتهم لنصّ واحد متعدّد العلاقات، أو لحياة موازية لوقت طويل، تلك المتعة التي توفّرها الرواية، ومنها الجوائز، ومنها تحوّل الأداة، وآليّة التفكير، ذلك أنّ العودة إلى كتابة القصّة بعد الاستغراق في مشروع روائيّ، ليست أمراً هيّناً.
نجد، رغم ذلك كلّه، مبدعين كباراً، روائيّين، لا يتخلّون عن كتابة القصّة، فيعودون إليها بين الفينة والأخرى، وأعتقد أنّهم يعرفون أنّها ضمانة توقّد أرواحهم، واستمراريّتهم في القبض الخاطف على لحظات استثنائيّة في الحياة، تمضي سريعاً، ولا تتكرّر، وضمانة الحفاظ على القدرة الحكائيّة من الجمود، فالقصّة القصيرة، كما أراها، تمرينات جماليّة للذكاء. لعلّ ما جعلني أشير إلى ذلك، المجاميع التي قرأتها مؤخّراً، لروائيّين خلت أنّهم انصرفوا إلى الرواية، فالمغربيّ أحمد المديني صاحب «ممرّ الصفصاف»، أصدر عام 2012 مجموعته القصصيّة «طعم الكرز»، وكان قد أصدر «عند بوطاقيّة» وهي قصص قصيرة أيضاً يربطها مشترك ما. وقد أصدر الجزائريّ واسيني الأعرج في 2010، والذي قلّما أُضيء على قصصه، بالنسبة لإنتاجه الروائيّ الغزير، مجموعة بمذاق جديد، تحت عنوان «مالطا». أمّا المصريّ إبراهيم عبد المجيد فقد أصدر «أشجار السراب» عام 2011، جمع فيها قديمه إلى جديده.
أمّا رهبان القصّة القصيرة التاريخيّون، فقد وجدوا أنفسهم في هذا الفنّ، إذ آمنوا بأهميّته، مثلما آمنوا بموهبتهم، وبمتعتهم الذاتيّة. ذلك أنّ عالم «الميغا بروجيكتس»، الذي مثّلته الرواية، لن يكفّ عن حاجته إلى التفاصيل الصغيرة، المغرقة في حميميّتها، أواستثنائيّتها، التي لا تحتاج إلى أكثر من حكاية صغيرة، أو مشهديّات خاطفة، تجعل المتلقّي يفكّر كثيراً، أو يتأثّر فينسى، لكنّه يستعيد ما تأثّر به يوماً ما، وربّما صاحبه ذلك الأثر مدى الحياة. وإذا ما أردنا قياس القيم الاستعماليّة للفنون، التي يذهب إليها علم اجتماع الأدب، فيمكن أن نشير إلى أنّنا لن نستغني مع «المولات» الكبيرة عن الدكاكين الصغيرة في الحارات، ولا عن الأكشاك في الطرقات الخالية، التي ترفدنا بالأنس والحاجات السريعة والألفة.
رهبان القصّة القصيرة، لم يوقفهم تغوّل الرواية، ولا انصراف جلّ النقد عن نتاجهم. قد يعود ذلك لإيمانهم بدورة الأنماط، أو لشغفهم بالحكاية، وقد يكون ذلك لنظرتهم التي هي أوسع من المحيط العربيّ، أو السوق العربيّ، أي إلى نظرتهم إلى العالميّة، وأذكر منهم في مصر سعيد الكفراوي، وسمير الفيل، وفي سورية زكريّا تامر وكوليت بهنا، وفي الأردن بسمة النسور، وسحر ملص، وهشام البستاني، وفي المغرب أنيس الرافعي، وربيعة ريحان، التي خرجت من دير القصّة مؤخّراً نحو الرواية في تجربة أولى عام 2013 في «طريق الغرام»، ولعلّ الذي يتابع الإصدارات الجديدة المتتابعة للشباب الجدد، أو للجيل الذي سبقهم مباشرة، يغتبط بهذا الاشتغال المقصود لذاته، حيث سنجد تجارب مضيئة مثل تجربة المصريّ منير عتيبة في «بقعة دم على شجرة»، وتجربة زياد إبراهيم في «إعادة شحن»، وأسماء عوّاد في «صباح يأتي لك»، ورانيا هلال في «دوار البرّ»، وحنان صالح في «ممرّات سريّة للفرح»، وسعاد سليمان في «شهوة الملايكة»، ونجد في الأردن خالد سامح في «نهايات مقترحة»، ونجد في سورية علياء الداية في «شهرزاد الكوكب»، وسامر أنور الشمالي في «ماء ودماء»، ومصطفى تاج الدين الموسى في «قبو رطب لثلاثة رسّامين»، وسماء سليمان في «الوجه الآخر للحلم»، وفي عُمان سليمان المعمري في «عبد الفتّاح المنغلق لا يحبّ التفاصيل»، ومن الإمارات سلطان العميمي في مجموعته «الصفحة 79 من مذكّراتي»، بينما لاحظت أنّ المغرب العربيّ مازال يذهب إلى نبذ الأنواعيّة، وإلى عناوين مثل النصوص والمحكيّات، كما فعل عبد الإله المويسي في «غرام»، وقد يعود ذلك إلى أثر النقد الذي ذهب إليه الزملاء في المغرب، من إرث البنيويّة والسرديّات، المعنيّة بكيفيّة صناعة الخيال، أكثر من الخيال ذاته.
القصّة القصيرة اليوم تتمطّى، وتقوم من قيلولتها، ولاشكّ في أنّ المنعطفات التي مرّت بها المنطقة العربيّة، وتمرّ، لها تأثير كبير على عودة النشاط القصصيّ، إذ سينتبه المبدعون من جديد للظواهر والأشياء، سيلاحقون المتغيّرات، وقد تصدر كتابات عن حساسيّات جديدة، وستمكّنهم القصّة من فعل ذلك، وأعتقد أنّهم سيعيدون اللحمة بين القصّة والمتلقّين إذا ما استعادوا الحكاية، ومايزوا بين مستويات اللّغة، وأؤكّد على اللّغة، فلابدّ من أن يبذل القاصّ جهدا في امتلاك لغة فصيحة، وفي تحسين التعبير بها، عندها يمكنه أن يفصّح عاميّته بسهولة، وأن يحقّق التعدّد في مستويات الحكي. على الكتّاب أن يجوّدوا، وعلى دور النشر أن تستجيد، والنقد عليه أن يستعيد دوره التنويريّ والكشفيّ والإرهاصيّ…
إنّ نفي الاستسهال في الدرس، والمعرفة، والكتابة سينقذ، لا شكّ، الثقافة والفكر، ويصعب على المهمومين بالأدب أن يغيب نوع من الأنواع الراسخة، أو يُغيّب لأسباب أخرى غير جماليّة.
كاتبة سورية
شهلا العجيلي
ما دام نشر النتاج القصصي (أو النثري، عمومًا) انتقائيًّا تحكمه المصالح والتوجهات الشخصية والبيروقراطية، وبالأخص مصالح وتوجهات الطبقة الحاكمة، في بلادنا المنكوبة، سيبقى النقد تابعًا لهذه الانتقائية حتى لو ادَّعى بأنه أخذ “يستعيد دوره التنويريّ والكشفيّ والإرهاصيّ”،