لا يمكن الحديث عن الأدب الأفغاني المعاصر، بدون التطرق إلى تجربة الكاتبة والقاصة سبوجماي زرياب، التي تعد من الأسماء التي فرضت وجودها بقوة في الساحة الأدبية الأفغانية خاصة في فرنسا. فجل مؤلفات الكاتبة مترجمة إلى الفرنسية بحكم تواجدها في هذا البلد، واعتمادها اللغة الفرنسية لغة ثانية في الكتابة. ولدت الكاتبة والصحافية سبوجماي زرياب سنة 1949 في كابل وغادرت أفغانستان إلى فرنسا عام 1990. إذ أن الحرب الأهلية التي اندلعت في كابل آنذاك، كانت سببا في إغلاق المدارس. سافرت زرياب إلى فرنسا مع بناتها، حتى تهدأ الأوضاع في أفغانستان، لكن بما أن الوضعية لم تتغير، استقرت في المنفى في مونبلييه، حيث حصلت على اللجوء السياسي.
تختار زرياب دائما النساء شخصيات رئيسية ورواة في مؤلفاتها المكتوبة باللغة الفارسية، أو الأخيرة التي نشرت بالفرنسية. فاعتماد المرأة كشخصية يسهل عملية التوغل في جلد الرجال، باعتبار أن المجتمع الأفغاني مجتمع ذكوري. لكن يبقى الهدف الرئيسي من هذه العملية هو تحرير المرأة ومنحها قوة الكلمات، أي أنها تمنح صوتا لأولئك الذين لا يملكون شيئا. فمعظم أدباء أفغانستان هم من الرجال، على الرغم من أن شعر البشتون النسائي مشهور جدا. من هنا فإن زرياب من الكاتبات المتمردات التي تكيفت بسرعة مع الواقع، وأصبحت تنافس الرجال في خلق عوالم أدبية مستوحاة من عمق المعاناة اليومية التي عاشتها، والتي تركت صورة سوداء لا تغادر ذاكرتها.
سهل قايين
وقصة «القفطان الأسود»، لا تعدو أن تكون مجرد قصة تندرج ضمن مجموعتها القصصية «سهل قايين». تقدم زرياب للقارئ قصة حول مصير امرأة حامل اختارت الموت لنفسها ولطفلها. بلغة خشنة وجميلة تكشف زرياب معاناة المرأة الأفغانية التي عادة ما تختار الموت أو الغناء «شعر اللاندي» للتعبير عن الألم والظلم والعبودية التي تطالها كل يوم، في مجتمع لا يعترف بوجود النساء. فقصة «القفطان الأسود» تصور لنا حال النساء منذ ولادتهن إلى سن الزواج، وما ينتج عن ذلك من معاناة مستمرة، فالمرأة كيفما كانت وفي أي عمر تعاني من ظلم الرجال وسطوة التقاليد والأعراف المتعصبة.
فقد قسمت زرياب مجموعتها القصصية «سهل قايين» إلى جزءين: الجزء الأول تحت عنوان المرأة والحياة، والجزء الثاني موسوم بالمرأة والموت. والملاحظ أن هذا التقسيم يعكس بكل وضوح حالة المرأة الأفغانية، التي تناضل من أجل الحياة وينتهي بها المطاف موتا. وفي الحالتين معا تتجدد المعاناة ويتجدد معها الظلم والألم والاضطهاد والرعب، لذا فالحلم عادة ما يكون المهرب الوحيد من هذا العالم الموحش والمتوحش. وتفتتح زرياب كتابها هذا، بنص قصصي يحمل عنوان الكتاب نفسه «سهل قايين»، نص يتسم بالرمز والإيحاءات، لأنه يدخل القارئ في متاهة بين العصور القديمة وعالم اليوم. بلغة المجاز والأسطورة تفضح الكاتبة وحشية ومجازر النظام الشيوعي في السهول الأفغانية.
لتنتقل بعدها إلى نص قصصي آخر يحمل عنوان «مدينة التاجر»، الذي يعد من أجمل النصوص وأعمقها. فمن خلال هذا النص، تصف الكاتبة مدينة خيالية، حيث كل شيء. في هذه المدينة كل شيء يباع ويشترى: الكلمات والاستماع والضحك والدموع. أشخاص يدفعون مالا ليتكلموا مع أشخاص آخرين، وآخرون يدفعون للاستماع إلى شخص آخر، نساء يحكين، رجل يقبل المال للضحك على ذلك. غرابة هذا النص وقوة تصويره اللغوي والسردي يجعل منه أجمل النصوص التي نسجتها زرياب من خيوط الخيال الخصب والتخيل المعمق.
تنتقل بنا زرياب بعد ذلك إلى نص قصصي آخر حاملا عنوان «التوقيعات»، والغرض من هذا النص انتقاد البيروقراطية التي وصلت ذروتها. تصور لنا الكاتبة امرأة شابة تعمل في مكتبها، وعندما تغادر المكتب يستغل زملاؤها الفرصة ليكتبوا في دفاتر رمادية يخفونها في خزانات مقفلة بالمفاتيح، لا تعرف المرأة ما الذي يفعله هؤلاء، لكنها تحس شيئا فشيئا بالعدائية المتزايدة نحوها. تعود المرأة إلى عملها لتقاوم هذا العمل الغامض.. فالمرأة تجهل ما يصنع هؤلاء من وراء ظهرها…هي مجرد قصة خيالية تصور لنا حالة المرأة في المجتمع البيروقراطي. لتمر الكاتبة بعد ذلك إلى نص آخر، لكن هذه المرة تضع عنوانا غريبا» «أحذية الوهم»، وهي أيضا قصة قوية جدا. تسرد أحداث هذه القصة في قرية ما في أفغانستان، حيث امرأة في حالة من الهذيان تتذكر الحياة قبل وصول الدبابات الشيوعية. فهذه الدبابات تسحق كل شيء تجده في طريقها خاصة «الأحذية، والأحذية، والعنب، والعنب». إن المرأة تكرر هذه الجملة لتضيف عبارة «الموت الموت». فالهدف من هذه القصة تصوير مشهد الرعب الذي تخلفه الدبابات الشيوعية بعد مرورها، فهي لا ترحم لا الإنسان ولا الأشجار ولا الأحذية.
هكذا نرى أن جل النصوص مستوحاة من تجربة عاشتها الكاتبة، خلال فترة تواجدها في أفغانستان قبل الهرب إلى فرنسا. فهذه المجموعة القصصية من النصوص المؤثرة التي جمعت بين الواقع والسريالية، بين معاناة الحياة وعبثية الموت، بين الأمل والتشاؤم، بين مزيج من الحكايات القديمة والواقع الحالي.
هذه الجدران
التي تسمعنا
يعد الإصدار الثاني بعد «سهل قايين»، وهو مكتوب بلغتين: الفرنسية في الشق الأول والفارسية في شقه الثاني. أما الشق الأول فهو مكتوب بالأسود ومرفق ببعض الرسومات. أما الشق الثاني فمكتوب بالأحمر ويتضمن أيضا بعض الرسومات من إعداد الكاتبة نفسها. من النصوص القصصية الجميلة والمؤثرة، نجد «بطاقة الهوية». العنوان وحده يعكس موضوعا من أهم مواضيع الأدب الأفغاني المعاصر، إشكالية الهوية الممزقة. فالنص يسرد لنا معاناة مراهق يبلغ من العمر 15 سنة، لم يغادر غرفته منذ سنة و8 أشهر و12 يوما. فقط أمه من تزوره لتقديم الطعام وسرد ما يحدث في الخارج. هذا المراهق لا يحمل بطاقة الهوية، وكبير بالنسبة لسنه، تخاف عليه أمه من أن يسجن من طرف قوات المراقبة. والسبب راجع إلى وفاة إخوانه وأخواته في سن مبكر وفرار أبيه إلى الجبال. يتذكر «الأب الصغير» هكذا سمته زرياب في القصة، طفولته والحب الذي يكنه لأمه والمدرسة التي تطل على الجبال الأفغانية. طفولة فقيرة وسعيدة. لكن بسبب الحرب ينقلب كل شيء ويقرر المراهق العيش مختبئا في غرفته. تقرر أمه الذهاب بحثا عن بطاقة الهوية، فيظل الأب الصغير مختبئا إلى أن تعود هذه الأخيرة… هذه القصة تعكس الواقع الأفغاني المتأزم ومعاناة الفرد الأفغاني بسبب الهوية المتمزقة، أو ما سميناها في العديد من المقالات السابقة بأزمة الهوية المتفسخة. فإشكالية الهوية من المحاور الرئيسية التي يعالجها جل الأدباء الأفغان، خاصة بعد تجربة المنفى التي تجعل من الهوية مصيرا في حد ذاته.
وفي نص آخر اختارت له زرياب عنوان «البحث عن الملائكة»، تسرد لنا قصة امرأة تهتم بشؤونها المطبخية، في حوار مع ابنتها التي تطرح مجموعة من الأسئلة عند رؤية سقوط الثلج. هذه الأسئلة ستعيد المــــــرأة 25 سنة إلى الوراء متذكرة الشيء نفسه والأسئلة نفسها التي كانت تطرحها على جدتها. وفي إجابة المرأة عن سبب سقوط الثلج، تقول بأن الملائكة من يُسقِطُون الثلج. ملائكة حراس يتحولون إلى ثلج ليكتبوا أفعال الإنسان في انتظار يوم الحساب. هذه القصة الممزوجة بنوع من السريالية والمستوحاة ربما من الثقافة الإسلامية، هي وجه من وجوه الثقافة الأفغانية المظلمة. فاختيار اللون الأبيض له دلالته لأنه مرادف للكفن والكفن مرادف للموت. والعلاقة بين الإنسان والملائكة واليوم الآخر، هي العلاقة التي تجمع بين الإنسان والحياة والموت. فالموت المتخيل الذي يطارد شخصيات زرياب، هو في الأصل واقع يطارد كل يوم النساء الأفغانيات.
ويعد نص «هذه الجدران التي تسمعنا» من أجمل النصوص التي يتضمنها هذا الكتاب. ويعيد هذا النص تصوير مشاهد قصة «التوقيعات» لكن بطريقة مغايرة. فأحداث هذه القصة تدور حول امرأة تشتغل أيضا في مكتب، فتلاحظ أن زملاءها ينقصون كل يوم ومنهم من يختفون دون رجعة. في يوم من الأيام تقرأ كتابا، يلاحظها زميل لها ويطلب منها موعدا. يلتقي الاثنان ليعترف لها بأن له أيضا مجموعة من الكتب وأن زوجته تعتقد أنه مجنون. يريد البطلان البقاء وحيدين للكلام والاستماع إلى بعضهما، ولكن ليس هناك أي مكان آمن. والخلاصة التي يمكن أن نتوصل إليها من خلال هذه القصة، هو أن الكاتبة تنتقد بشدة بطريقة أو بأخرى مسألة العبودية والسيطرة التي يتعرض لها الفرد الأفغاني. لكن يبقى الهدف الأسمى هو إحياء العلاقات الإنسانية والمعرفة عن طريق الكتب. هناك نصوص أخرى دائما تعيد تشكيل علاقة المرأة بابنها الوحيد، أو المرأة التي يأخذها الحنين إلى سنوات الطفولة. فهذه المجموعة القصصية تصور لنا عالما، حيث المرأة ضحية الحرب وضحية الشيوعية والتعصب الديني، وضحية البيروقراطية. إنها كتابة شاعرية بكل ما تحمله الكلمة من معنى تنسجها الكاتبة من الوحدة والاضطهاد والألم.
أُرْسُمْ لِي دِيكًا
هذه المجموعة القصصية هي الإصدار الثالث لزرياب. وفي هذا الكتاب تثبت الكاتبة قدراتها الأدبية ومواصلة كفاحها ضد الظلم الذي يطال المرأة في أفغانستان، خاصة مواصلتها كتابة القصة القصيرة كنوع أدبي على غرار الشعر والرواية. دائما بمنطق الكتابة، تكشف لنا زرياب عالما آخر من المعاناة اليومية، لكن في «أرسم لي ديكا» يلاحظ تزاوج الشعر مع السرد عاكسا بذلك صورة من صور أفغانستان التراجيدية. فأحداث هذا الكتاب تدور في أفغانستان أيضا، لكن تتخذ من الطفولة موضوعا رئيسيا لها. فهذا الكتاب نتاج للحزن والمعاناة راسما بذلك العنف الذي تتعرض له أفغانستان. والعنوان جاء تعبيرا عن قصة مستوحاة من رسم فتاة لديك. تروي لنا زرياب قصة امرأة تتذكر المعاناة والكآبة التي عاشتها في طفولتها من خلال تأمل الديك الذي رسمته ابنتها. من خلال هذا التأمل تختلط ألوان الفرح بألوان الدم ويصطدم خوف النساء بنظرات رجل أعمى. إن الكاتبة تجعل من نظر الرجال عنفا. من هنا فإن المرأة أي بطلة القصة تتذكر كم كانت تتمنى في شبابها لو كان كل الرجال عميان حتى تعيش أمها سعيدة. هي صورة تكشف الواقع المرير الذي تعيشه المرأة الأفغانية المحكوم عليها بالخضوع لسطلة وقوة الرجل.
ومشهد الرجال العميان هو نوع من التحرر الذي تحلم بها المرأة في هذا المجتمع المنغلق.
لا تكف زرياب عن وصف العنف والقمع الذي تعاني منه المرأة الأفغانية، فالكاتبة تحمل على عاتقها معاناة كل النساء الأفغانيات، وتتمنى أن يتغير الوضع في أفغانستان. من ثمة فإن زرياب تمزج بين الشعر والحكي والأسطورة والرمز، وبين الواقع المعاش والسيريالية المتخيلة. فالكاتبة تجعل من عبثية الحرب والقتل والرعب أساس نصوصها التي تدفع بالمتلقي إلى التساؤل حول وضعية المرأة الأفغانية المزرية. وهكذا تبدو الكتابة ليست فقط فعلا جماليا، وإنما أداة للنضال والتمرد وصرخة ضد الظلم والعنف الذي ينهش جسد المرأة الضعيف. تبقى سبوجماي زرياب خبيرة الحكايات، فمن خلال نظرتها الثاقبة يتوغل القارئ إلى جلد المرأة ليلمس بكل صدق معاناتها. إنها بالمجمل كاتبة تبحث عن الأمل والحب من خلال الكلمات.
٭ كاتب وباحث مغربي
عثمان بوطسان