في الغرب تكتب الكثير من روايات التسلية والترفيه، التي تتميز بمستوى فني وجمالي سطحي ومباشر يفتقر، وبشكل متعمد، لعمق الرؤية وللإضافة الإبداعية. فهناك الروايات العاطفية الخفيفة والروايات التي تتناول قضايا الذات ببعدها الروحي وسعيها للبحث عن المعنى في عالم تسوده النزعات المادية والفوضى، وروايات الخيال العلمي المغرقة في الإثارة والتغريب، بعيداً عن محاولة تأسيس وعي علمي وثقافي بقضايا جدية تتعلق بالاشكاليات والتحديات الأخلاقية التي يثرها التقدم العلمي المطرد في المجتمعات الحديثة.
تلك الروايات الخفيفة تستهدف قطاعاً واسعاً من القراء المحاصرين بضغط الحياة اليومية وأعباء العمل الممل لساعات طويلة، والباحثين عن تسلية سريعة واستهلاكية وبديلة عن المسلسلات الترفيهية للقنوات الفضائية. إنهم قراء القطارات السريعة ومواصلات النقل العام، يقتلون وقت التنقل من البيت إلى العمل ومن العمل إلى البيت في قراءة روايات تجعل حياتهم الرتيبة أكثر احتمالاً، وتضفي عليها نوعاً من الخيال الطفولي يتجسد من خلال الخوض في تجارب عاطفية ومغامرات مثيرة تمنحهم الإحساس بذواتهم القلقة، التي تعاني من إيقاع الحياة في مجتمعات لا تجد في الإنسان سوى عضلة مكملة لعمل الآلة. مثل تلك الكتابات الروائية الخفيفة تجد لها ما يبررها وتقوم بدور حيوي لا يستهان به.
ومن الجدير بالملاحظة أن كتاب ذلك النمط من الروايات في الغرب لا يخجلون من تصنيف كتاباتهم ضمن فئة روايات التسلية الخفيفة والترفيه. فهم يبيعون ملايين النسخ وتترجم أعمالهم إلى عدة لغات، وغالباً ما يتم تحويلها إلى أفلام تحصد إقبالاً جماهيرياً لافتاً. إنهم في الواقع يحصلون على شهرة وانتشار واسعين يفوق بكثير ما يحصل عليه كتاب الروايات الأدبية الجادة، كما أنهم يتمتعون بثروة كبيرة من عائدات بيع كتبهم تجعلهم يعيشون حياة شبيهة بحياة نجوم هوليوود، حياة مليئة بالإثارة والسفر والترفية.
لا يدعي أي من كتاب ذلك النوع من الروايات أن لديهم مشروعاً ثقافياً جاداً، ولا يتحدثون عن إعادة إنتاج وعي جمعي عميق بالمشكلات الإنسانية والاجتماعية، ولا بمحاولتهم الوصول إلى أجوبة قاطعة لقضايا أخلاقية معقدة أو البحث في أسباب القلق الوجودي الإنساني المتأصل في الروح. فهم على وعي تام بطبيعة نتاجاتهم الروائية وبالمستوى الفني والجمالي والفكري الذي يقفون عليه. ولا يجدون في تصنيف كتاباتهم على رفوف المكتبات العامة ومحلات بيع الكتب الكبيرة أي حرج أو محاولة للنيل من مكانتهم الإعتبارية وجهدهم الإبداعي.
ففي المكتبات المنشرة في مختلف المدن الكبيرة تحرص الإدارة على تصنيف الكتب تصنيفاً خاصاً، يتيح للزبائن الوصول إلى مبتغاهم بأسرع وأسهل الطرق ومن دون إضاعة للوقت والجهد. فهناك رفوف لروايات الناشئة وروايات الخيال العلمي والروايات العاطفية المفرطة وروايات التطوير الذاتي، وكذلك الروايات الأدبية الجادة.
ووفق تلك الآلية من التصنيف يتم تلقي واستقبال الأعمال الروائية على مستوى جماهيري واسع. كما يتم التعرض لها بمراجعات نقدية من على الصفحات الثقافية للصحف اليومية والصفحات الخاصة بعروض الكتب الصادرة حديثاً. وهكذا نجد روائيين مثل الأمريكية دانيلا ستيل التي باعت أكثر من 800 مليون نسخة من رواياتها، والأيرلندية سيسليا آهيرن، والأمريكية الشهيرة بسيرها الذاتية الروائية ذات الطابع الروحي اليزابيث غلبيرت، والبرازيلي الشهير باولو كويللو، والتركية أليف شفق، والأمريكي دان براون، وغيرهم، يكتبون وينتجون أعمالاً روائية تحقق انتشاراً واسعاً ومبيعات خيالية وشهرة كبيرة، ولكنها لا تتخطى السقف الفني والجمالي والفكري لروايات التسلية والترفيه والاستهلاك السريع. ولا يبدو أولئك الروائيون منزعجين من ذلك السقف المؤطر لتجربتهم الروائية طالما أنهم يتمتعون بالانتشار والشهرة الجماهيرية العريضة.
ومن المفارقات المثيرة أن بعضاً من تلك الأسماء ممن تترجم أعمالهم إلى لغات أخرى يتم استقبالهم وتلقيهم في ثقافات متعددة، آسيوية أو أفريقية أو شرق أوسطية، على أنهم كتاب رواية أدبية جادة تحمل مضامين فكرية وجمالية عميقة، وأصحاب مشروع ثقافي يسعى لتأصيل الوعي وتوسيع مدارك الذات البشرية، كما يحصل مع باولو كويللو وأليف شفق وإليزابيث غيلبرت، حيث أضفت النزعة الروحية السطحية لأعمالهم، مع نوع من الصوفية التجارية الاستهلاكية، عليهم هالة من التقدير والاحترام تظهرهم بمظهر المعلمين الروحيين الجادين والباحثين عن تأصيل الاتجاه الروحي العميق في الأدب العالمي. وغالباً ما توجه لهم الدعوات لحضور معارض الكتاب والملتقيات والمهرجانات الثقافية باعتبارهم الوجه الحقيقي للإبداع الروائي العالمي.
وقد ساعدت تلك الظاهرة على ظهور كتاب وروائيين محليين من ضمن تلك الثقافات يحاولون تقليد ذلك النمط من الكتابة الروائية الخفيفة، ويتوسلون بمعرفة محدودة في الاتجاهات الروحية والحالة الإنسانية للفرد في المجتمعات الحديثة، ويكتبون بغزارة لافتة، ويحققون مبيعات مرتفعة وشهرة جماهيرية واسعة، ويحتلون الواجهة في المشهد الثقافي العريض بوصفهم أيقونات ثقافية متميزة. ومما يساعد على ذلك، الترويج الواسع الذي تقوم به دور النشر لأعمالهم الروائية، لأنها وببساطة تحقق لهم أرباحا كبيرة وتدر عليهم أموالاً طائلة تعوضهم ما تعاني منه تجارة الكتاب من كساد وركود. فتلك الأسماء بالنسبة لدور النشر ليست أكثر من مجرد سلعة تجارية مطلوبة في السوق الاستهلاكية.
وفي الثقافة العربية يمكن الإشارة إلى نماذج عديدة لعل من أبرزها أحلام مستغانمي وواسيني الأعرج وعلاء الأسواني وأمير تاج السر وأحمد مراد وهيفاء بيطار ومي منسي وسعود السنعوسي وأيمن العتوم.
ولا يعني ذلك بأي حال من الأحوال الانتقاص من مكانتهم ولا التقليل من شأن الجهد الكتابي الذي يبذلونه، طالما أن إنتاجهم الروائي يلبي حاجة قطاعات واسعة من الجمهور. ولكن ما يجب تجنبه هو أن يتم إعادة إنتاج كتاباتهم وتسويقها على أنها تقع ضمن فئة الروايات الأدبية الجادة، وأن يتم تقديمهم بوصفهم أصحاب مشروع ثقافي وجمالي يسعى من خلال الكتابة الروائية إلى الارتقاء بالوعي الجمعي وتعميق الإدراك الجمالي والفلسفي. فهذا الخلط بين روايات التسلية والاستهلاك السريع وبين الروايات الأدبية الجادة يعمل على إرباك أصحاب تلك الأسماء ويدفعهم إلى تقمص صورة ثقافية لا تتناسب مع مستوى ونمط كتاباتهم. هذا الإرباك الذي يحاول كتاب الرواية ذات الانتشار الجماهيري في الغرب التخلص منه عبر آلية التصنيف النوعي الصريح، من دون أي أحساس بالانتقاص من مكانتهم الابداعية.
ولعل تلك المسافة بين طبيعة الوعي والهم الجمالي والثقافي الذي يحمله كتاب الرواية التجارية، وذلك الذي يتميز به كتاب الرواية الأدبية الجادة، سرعان ما تتكشف للمتابع والمراقب من خلال اللقاءات الحوارية وجلسات النقاش والمنتديات والندوات الثقافية، إذ يبدو جلياً أن المتحدث يقحم نفسه في مستوى معين بعيد عن شخصيته الكتابية وهويته الأدبية، وتظهر صورة وعيه الثقافي والجمالي هزيلة وضبابية تفتقر للعمق وللوضوح وتلتزم السطحية والمجانية في تناول القضايا النقاشية وإبداء الآراء.
فإن يتناول الروائي قضايا الهوية والجنس ووضع المرأة في المجتمع والفساد السياسي والوعي الذاتي الوجودي، لا يعني أنه ينتقل من مستوى الكتابة التجارية إلى الكتابة الأدبية الجادة، وإنما يتعلق الأمر بزاوية الرؤية وطريقة التناول والطرح والفهم العميق لطبيعة القضية والوعي الشمولي بأبعادها ونتائجها، ومن ثم بقدرة الروائي على خلق التمثيل الرمزي الإبداعي الذي يحفز التأويلات ويدفع القارئ إلى مساءلة وعيه الذاتي وقناعاته ومواقفه المسبقة، ومن ثم يحمله إلى مستوى أعمق من الوعي والإدراك.
ونعود للتأكيد على أن صفة التجارية أو الأدبية التي تلحق بالإنتاج الروائي هي ذات طبيعة وصفية تصنيفية وليست حكما يتضمن نوعاً من الانتقاص من قدر تلك الكتابات. ولعل ذلك يفسر التلقي السلبي الذي قوبلت به رواية «أماكن شاغرة» للروائية البريطانية ج. ك. رولينغ، مؤلفة سلسلة روايات «هاري بوتر»، عندما حاولت الابتعاد عن النمط الكتابي المتميز الذي تجيده وتتمكن منه بحرفية عالية.
وهنا يبدو من الضروري أن يتمتع الكاتب بالوعي الكافي لتحقيق حالة الإدراك الذاتي والنوعي لطبيعة كتاباته ومستوى تصنيفها، مما يتح له مواصلة الإبداع ضمن حقله الكتابي وتجنب هالات البريق الإعلامي والترويج الدعائي الذي يجعله يتقمص شخصية اعتبارية مزيفة أو مشوهة لا تلائم واقع كتاباته الروائية، عدا عن أثرها السلبي الكبير الذي تحدثة في الوعي الجماهيري بشكل عام.
* كاتب عراقي
معن الطائي*
أحييك أستاذ معن…
قراءة عميقة واستثنائية للمشهد الروائي العربي على وجه الخصوص، وتصنيف لم يتعرض له النقد العربي في حدود علمي، تصنيف نوعي وتحديد معياري مهم للتجاري والأدبي لم يمتلك النقاد العرب لا الشجاعة ولا التبصر اللازم للإحاطة به.
شكرا على شجاعتك أستاذ معن
نادرا ما يجرؤ النقّاد أو غيرهم من أصحاب الكار ومتبادلي المنافع على الأسماء الكبيرة بمعنى الإنتشار “الشعبي.. الرواية العربية تستحق احتراما لعقول القرّاء
تحيّة حارّة. أرجو أن تستمر وأن نقرأ لك المزيد
سعاد عبدااله