الكتابة الشعرية وجمالية الالتباس

مهما توثقت علاقة الخطاب الشعري بمختلف الحقول المعرفية والفكرية التي يستمد منها ثراءه الجمالي، فإنه يظل محتفظا باستقلاليتهِ المتفردة باشتغال آلياتها، مقارنة بغيره من الخطابات، ذلك أن الشعر وعلى الرغم من ميله، إلى الإقامة في مدارات العقل، فإن انتماءه الفعلي، يظل مؤطرا بجمالية الالتباس، التي لا تكتفي بالتشويش على منهجية اشتغال البعد العقلاني، بقدر ما تؤثر إيجابا في تسليط أضواء لا متوقعة على نقاط منسية في مفاصل الإشكاليات الإنسانية والكونية، باعتبار أن شعرية الالتباس هي أحد أهم مصادر الدهشة، التي تشحن الرؤية بطاقات مضاعفة من طاقات الفضول المعرفي، كما أنها تسعف القراءة كي تراوح بين ما يُعتقَدُ في كونه معلوما، وبين ما يوحِي باصطفافه جهة المجهول، وهي المراوحة التي تغري المِجْهرَ بالاقتراب التدريجي من جوهر الشيء، عبر متواليات الكشف التي تتحرك من الكُلِّيِّ إلى الجزئِي، أي من الواضح المعلن، إلى المتخفي والمستتر، الذي لا يلبث هو أيضا أن يطفو بشكل قوي على السطح، كي يأخذ شكل كُلٍ واضح المعالم ومكتملِ التفاصيل.
في حالة الالتباس الشعري هذه، لا يكون السؤال معنيا بإيقاظ ملكة الحجاج لدى المتلقي، التي تستلزم استدعاء سلطة العقلاني والمنطقي، علما بأن التأكيد على استبعاد الشعر من مجالهما، لا يعني بالضرورة افتقاره لرسالة فكرية ذات أفق عقلاني، بقدر ما يعني تمَنُّع هذه الرسالة على القراءات التي تخلط بينها وبين تلك الحاضرة في الخطابات الفكرية الإعلامية، أو السياسية بفعل اندراجها خارج البنيات المشتغلة عادة على ضوء البرهنة العقلانية، وأيضا انسجاما مع خصوصية اشتغال رسائلها. وكما أن تلقي الخطاب الرياضي والفيزيائي، على سبيل المثال لا الحصر، يتميز بقوانينه الخاصة به، فإن الخطاب الشعري يستقل هو أيضا بقوانينه التي تتحكم في منهجية محاورته ومقاربته. بمعنى أن حضور الرسالة يظل السمة الملازمة لكل أنواع الخطابات، مع الأخذ بالاعتبار ذلك الفارق الملموس والطبيعي الفاصل بينها، باعتبار أن الفكرة الواحدة، قابلة للتمظهر في صيغ مختلفة، وفي خطابات مختلفة، وأيضا من جنس إبداعي لآخر. فشكل الرسالة الحاضرة في الرواية مثلا، يختلف عنه في باقي الأنواع الفنية، كالتعبير الجسدي، أو الموسيقي، بفعل تعدد مستويات التلقي، الذي يمكن أن يستوعب رسالة مبثوثة برموز رياضية، أكثر من استيعابه لها، وقد صيغت برموزها التشكيلية أو الشعرية.
إن ما نود التلميح له، هو أن الرسالة قد تكشف في بنائها الشعري عن مكون لم يكن بإمكانها أن تعبر عنه تشكيليا، وبالتالي إن ترجمة الحمولة الدلالية لأي رسالة ما، تظل مشوبة بنوع من النقصان، الذي يعتبر في هذا السياق طبيعيا وعضويا، كما تظل الرسالة ذاتها في حاجة ماسة إلى مستويات تعبيرية مختلفة، في أفق استكمالها لإمكانيات الإفصاح عن هويتها، من هنا يجب الانتباه إلى تلافي التشبث بالرسالة، على حساب إهمال هوية النسق الواردة فيه، كما أن القراءة التي تعودت على التعامل مع رسالة اجتماعية أو ثقافية أو سياسية في خطاب ما، ليس لها أن تُلزم النص الشعري، بتبني منطق التبليغ نفسه المعتمد عادة في هذه الخطابات، مع التذكير باحتمال حضور جرعة شعرية خفية في الخطاب التاريخي، إلى جانب حضور جرعة تاريخية مماثلة في الخطاب الشعري، أي أن سياق الخطاب التاريخي مثلا، قد يستدعى حضور مسحة شعرية، لا تعدو أن تكون مؤثثا ثانويا، كما هو الشأن بالنسبة للخطاب الشعري، الذي يمكن أن تتواجد فيه خطابات أخرى محايثة، دون أن تفرض استقلاليتها على بنياته المركزية، أو تؤثر في تحريف خصوصية فضائه، وما نعنيه بالاستقلالية هنا، هو ذلك النسق الذي يقتحم عشوائيا فضاءات أنساق مغايرة، حيث يقع نوع من التنافر والخلط الهجين بين بنيات تعبيرية تكون على تضاد تام في ما بينها، مع استثناء التجارب،التي تكون مؤهلة لصهر المرجعية التاريخية والأسطورية في نار المادة الشعرية، انطلاقا من عملية تحويلية، لا تكون دائما محمودة العواقب، إذ أن الشعر، بالنظر إلى هشاشته، يكون معرضا باستمرار للتفسخ والانمحاء، والتحول إلى نقيضه، في حالة تسرب عناصر غريبة إلى فضائه، باعتبار أن الحد الفاصل بين الجمال والقبح جد رهيف، والتعبير مهما كان عاليا فإنه يظل عرضة لفقدان روائه وفتنته، فور حدوث اختلال بسيط وجزئي في بنيته الجمالية، كي يتحول خلسة إلى مسخ، باعتبار أن الخطاب الذي يعتمد الإواليات العقلانية في تبليغ الرسالة، استنادا إلى المساءلة الحجاجية، يمتلك تلقائيا بنية منسجمة مع خصوصيته، التي تكون حتما مختلفة بشكل جذري عن خصوصية الكتابة الشعرية. ولعل حرص بعض التجارب على توظيف المرجعيات التاريخية والفكرية في نصوصها، يعود إلى اقتناعها بدور المعلوم، في تيسير مأمورية التوصيل، الذي يصبح تبعا لذلك متحققا بالقوة وبالفعل. إن الكتابة الشعرية في هذا السياق تكون معنية بتوظيف تقنياتها الخاصة بها في البناء، ضمن انتقائها للمنهجية الملائمة، التي تكفل صياغة المعطيات المدونة في الذاكرة المشتركة، عبر توظيفها للأساليب الجمالية المتمثلة في تأطير المحكيات الجاهزة، وفي تذويت المحكي، وإضفاء ما يكفي من الخصوصية الذاتية والفردية عليه. وهو التذويت الذي يسمح للمحكيات وللمعلومة التاريخية، الفكرية، أو الفلسفية المنتمية إلى حقل ما من حقول القول، بمغادرة فضاءاتها الأصلية والمرجعية، كي تنصهر في قلب فضاء الكتابة الشعرية. هذا الاختيار يمارس سحره على القراءة، إنه يُشعرها سلفا، بأنها بصدد قراءة ما له علاقة جدلية بالحياة العملية، وأن الأمر لا يتعلق فقط بكتابة هلامية، تتوسل الشطحات الأسلوبية الهادفة إلى استحداث حالة من الإبهار المجاني، كما أن تجربة الكتابة هنا تسعى إلى تحقيق نوع من التوازن بين الخطابات الجاهزة سلفا، وبين الجمالية التي تضفيها عليها من عمق الشعرية الذاتية. إنه نوع من أنواع التملك الذاتي للخطاب الذي يتحقق عبر عملية انتزاعه من فضائه الخارجي وإعادة صهره في فضاء الكتابة الشعرية. ذلك هو الرهان الذي تضطلع به التجارب العميقة، طمعا في الفوز بالغنيمة، والمجسدة طبعا في السيطرة على التلقي، من خلال إقناعه بقوة المرجع أولا، وثانيا بتمثله لجوهر الشعري.
إن القارئ هنا، لا يكون معنيا بالفصل بين ما هو في ملكية التجربة الشعرية، وما هو في ملكية الذاكرة، لأنه يعيش جمالية قراءة نص مُوَقَّعٍ من قبل تجربة تمحو الفرق القائم بين ذاتية الكتابة، وموضوعية الخطاب المجاور، مع عدم استبعاد فرضية فشل التوقيع في ذلك، حيث يظل الشرخ حاضرا بقوة، بما يعني عجز الكتابة عن تذويت النص، أي الفشل في ترويض المرجعيات، بما يخفف نسبيا من سلطة الخطابات التي اعتمدتها كأرضية لبناء شعريتها، فأغلب هذه التجارب تكون معرضة للفشل، حيث يظل الشرخ حاضرا بقوة، محدثا بذلك هوة سحيقة تفصل بين الموضوع الحاضر بقوته المرجعية، والكتابة الشعرية، كي تجد القراءة ذاتها حائرة بين المابين، أي بين نص فكري تاريخي أو واقعي، وبين كتابة، عبثا تحاول أن ترقى بالمرجع إلى مستوى الشعري. ومن المؤكد ألا أحد يجادل في أهمية حضور القيم الإنسانية والفكرية في الشعر، التي تجد الكثير من نماذجها الحية في المرجعيات الثقافية الكونية، التي تعتبر بمثابة كنز ثقافي وإنساني تستوحي منه الخطابات، بمختلف تفريعاتها مواد كتابتها، على أساس أنها تمثل لحظات مضيئة في تاريخ البشرية، التي تبث أنوارها في تضاعيف الكتابة، إلا أن هذا الضوء حينما ينفلت من مشكاة الكتابة، يصبح حارقا وبإمكانه أن يعمي الكتابة، والقراءة على حد سواء. هنا تكمن فاعلية التجارب الخبيرة بأسرار الرؤية، التي تدرك بحدسها الخاص خطورة التوظيف العشوائي لهذا الضوء، حيث ينبغي الاقتصار فقط على بصيصه الخفي في النص، الذي بالكاد تحس العين المتأملة بوجوده، إنه الضوء الذي يجب الاحتفاظ به في خلفية الكتابة الشعرية، كي لا يتحول إلى سلطة حارقة تأتي على أخضر النص ويابسِه.

٭ شاعر وكاتب من المغرب

الكتابة الشعرية وجمالية الالتباس

رشيد المومني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول احمد من الاردن:

    للاسف الشديد اللغه المكتوبه احس انها مترجمه عن لغة غيرلغة العرب وبعيدة كل البعد عن الجمال الشعري ونقده وغير مفهومه

إشترك في قائمتنا البريدية