■ منذ فترة وفي ندوة عامة، سألني أحد المشاركين عن رأيي في مسألة الكتابة المشتركة، بمعنى أن يكتب روائيان أو أكثر رواية واحدة، وتجد لها قبولا لدى جماهير القراء. كما لو أنها كتبت بواسطة روائي واحد.
الكتابة المشتركة في الحقيقة ليست جديدة على الإطلاق، ودائما في كل جيل يوجد من يمارسها، لكنها ليست كثيرة ولا منتشرة حسب علمي، ولذلك نادرا ما نجد اسمين على كتاب واحد، وإن وجدنا ذلك، غالبا ما نتساءل:
لماذا كتبت هذه الرواية، أو هذا الديوان الشعري بواسطة اثنين وليس شخصا واحدا كما هو معتاد؟ خاصة إن كان الاثنان معروفين لدى القراء.
في رأيي الشخصي، أن الإبداع الحقيقي، يأتي في تفرد أحدهم بالكتابة، أي أن يكتب فكرته ورؤيته الخاصة، وبأدواته الشخصية اللتين ربما استغرق زمنا طويلا في تكوينهما، ويخاطب بهما قراء هم أيضا يعرفونه، وقضى وقتا طويلا أيضا، من أجل أن ينغرس بإبداعه وسطهم. هذا الكاتب الخبير ببيئته، ومفرداتها الذي قدم تلك البيئة، سنجده في الغالب مترددا وقليل اللمعان، إن شارك في كتابة فصل أو فصول رواية، ونجد من شاركه الكتابة، أيضا يعانون من العتمة التي لا علاقة للنص بها، ولكن لتجمهر الأدوات المختلفة في النص، وحتى الذي ابتكر فكرة النص وابتدأ الكتابة، قد يحس بالارتباك نفسه، وهو يكتب فكرته داخل نص متعدد الأصوات.
لو أردنا كتابة رواية عن الريف المصري مثلا، سنجد عشرات وربما مئات الكتاب المصريين، عالجوا تلك الفكرة من قبل، وفي نصوص جيدة مبهرة، استمتع بها القراء، وفي الوقت نفسه وجدت قبولا لدى النقاد، في زمن قلت فيه الكتابة النقدية، سنجد أعمالا لتوفيق الحكيم، ويحيى حقي، ونجد أيضا ليوسف أبو رية ووحيد الطويلة، وغيرهم كثيرين، لكن إن وضعنا فكرة واحدة، مثل فكرة رواية «يوميات نائب في الأرياف»، لتوفيق الحكيم، إحدى أجمل الأعمال الكتابية المعاصرة، وطلبنا من كل هؤلاء المجيدين أن يكتبوها، بحيث يشارك الكاتب بفصل واحد أو اثنين، سنحصل على كتاب، ونحصل على حكاية قد تكون محكمة في الحبكة والتفاصيل لكنها ليست لامعة ولن تجد القبول الذي يكفي ليجعلها محط أنظار ونقاش، مثل «يوميات نائب في الأرياف» التي كتبها توفيق الحكيم.
أيضا لو نظرنا لقضية الحرب، التي تطال دولا عربية عديدة هذه الأيام، ونظرنا إلى تداعياتها من تمزق وتشريد ودمار، لما كان عامرا في الماضي، سنجد أبجديات النصوص التي تتحدث عن ذلك واحدة، الدمار في طرابلس الغرب، هو الدمار في الفلوجة، في العراق، في حلب في سوريا، في أي مكان آخر، فيه سياط من لهب، والإنسان الذي مات أو تشرد أو جاع، أو اكتهل فجأة من جراء الموت اليومي، الذي يعانيه، هو الإنسان في كل مكان، وحتى أدوات الموت واحدة لا تتغير، والذي يلقي القنبلة الحارقة هنا، هو شبيه بالذي يلقيها هناك وهكذا.
أي كاتب متمرس من هذه البلدان، يمكنه التقاط هذه الأبجديات وكتابتها في نص روائي، مطعم بخياله، أو حتى غير مطعم، لا يهم. أي كاتب سيكتب التفاصيل نفسها مع اختلاف في المكان فقط، لكن إن طلبنا من خمسة كتاب ينتمون لخمس دول تعاني من تلك المأساة، أن يكتبوا، سنحصل على نص فيه تباين كثير، فيه انفعال هنا وبرود هناك، فيه دم غزير هنا، ودم متجمد هناك. سيكتب كل فرد حصته بأدواته هو، ويعالج بتلك الأدوات، خامات الكارثة. وأيضا هنا ثمة تساؤل عميق: لماذا لا يكتب كل واحد نصه الدامي وحده، وبأدواته الفنية وحدها؟
أذكر أن هناك كتابا أوروبيا، لم يرسخ اسمه في ذهني، وأظنه رواية، كتب منذ سنوات بواسطة ثمانية وعشرين كاتبا، كل واحد كتب فيه فصلا، وأعتقد أن هذا هو السبب الذي لم يجعل تلك الرواية تشتهر وتصبح قريبة من الاستدعاء في الذهن، وتستجيب للحظة مناداتها.
حين كنت أكتب الشعر بالعامية قديما، تعرفت إلى شاعرين، يكتبان بالعامية أيضا، وينتجان أغنيات يرددها المطربون، في المدينة مثلما كنت أنتج. كانت سادت موضة في تلك الأيام، أن يتغنى المطربون بأغنيات الفخر الوطنية، أو التي تمجد شخصيات معينة إما شخصيات تراثية، وهذه لها أغنيات تمجدها، محفوظة في التراث، ويتم انتشالها وترديدها، وإما شخصيات معاصرة، وهذه تصاغ لها أغنيات شبيهة بالتراثية، وتتطلب مهارة في تقمص روح المادح الشعبي القديم، وطريقته، حتى تنجح الأغنية.
أحد هذين الشاعرين اقترح أن نكتب أغنية مثل هذه، ليست خاصة بشخصية حية موجودة، ولكن شخصية متخيلة، تبدو حقيقية، على أن يكتب كل منا فقرة فيها. وهذا ما حدث، حيث كتبنا فقراتنا، وأعطيناها لمغن هناك، وقام بتلحينها وغنائها بسرعة، ولم تنجح قط، كنت أستمع إليها، فأجد فقرتي مليئة بالصور الغريبة، وسط فقرتين أخريين، أقرب للشعبية، وأحس بأن المغني يجاهد حتى لا يخطئ في نطق كلمة من الكلام غير المألوف الذي حفظه، وكانت هي التجربة الأولى والأخيرة، ناقشناها بعد ذلك، ولم نعد لتكرارها مرة أخرى، عاد كل منا لصياغة أفكاره الخاصة، وأغنياته التي قد تنجح وقد تسقط، لكن ليس بسبب ترنح الصياغة، وعدم وحدة الجو العام.
الآن لم أعد أذكر اسم تلك الأغنية، وحقيقة لم أعد أذكر حتى اسم المغني، وأصلا تجربتي تلك، كانت مرحلة ما من مراحل التعاطي مع الكتابة، انتهت بخيرها وشرها.
في الأدب العربي عندنا تجربة معروفة، أكثر من غيرها، هي تجربة جبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف، في كتاب «عالم بلا خرائط»، ومعروف أن كلا الكاتبين، معلمان من معلمي الكتابة، ولهما تاريخ ودراية وابتكارات وتجربة ناجحة، انتقلت إلى الغرب، بعد ترجمتها، ونجحت هناك أيضا.
«عالم بلا خرائط»، لم يكن كتابة سيئة بكل تأكيد، فقط كان بلا هوية، ولا تستطيع أن تنسبه لأي الكاتبين، وأنت ترى أسلوبين رائعين يتنازعانه.
إذن ليكتب كل روائي كتابه وحده، لينجح أو يسقط وحده، بلا سبب آخر غير أسبابه الشخصية، أو حتى بلا أسباب، فالنجاح أو السقوط في أي مشروع حتى غير مشاريع الكتابة، لا يحتاج لسبب على الإطلاق.
٭ كاتب سوداني
أمير تاج السر
الدكتورالفاضل أميرتاج السرّ…دفعني موضوعك الجديربالقراءة ( الكتابة المشتركة ) إلى ضرورة طرح إنشاء ( علم نفس الكاتب ).وآية ذلك أنّ عملية الكتابة هي سلسلة نفسية وفسلجية وبيئية وثقافية وتعليمية ؛ متفاعلة تؤدي إلى عملية الكتابة ( أعني الكتابة الجادّة المبدعة ).وهذه العملية تتكوّن في الدماغ ومنه المخ ؛ بواسطة عملية الأيض لنشوء الفكرة الأوّلية.وهناك عدّة عوامل في الفرد الكاتب تسهم في تحديد معالم هذه الفكرة للنصّ المراد كتابته…بعد عملية الانتقاء والابتكاروالتأثروالمفاعلة الخاصة…ومثلما هناك عوامل ذاتية مؤثرة في النصّ لا توجد إلا لدى الكاتب الفرد ؛ ثمة عوامل أخرى خارجية تلوّن النصّ ؛ ترتبط ببيئة وثقافة الكاتب وشخصيته ومجتمعه والذائقة العامة للناس.وكلّ ذلك يسهم في رسم شكل النصّ النهائي ؛ وما سيتتبع ذلك من قبول أورفض أونقد.إذاً لكلّ كاتب شخصية فردية كبصمات الأصابع لا تتكررإلا نادراً.وتأسيساً على ذلك تصبح الكتابة المشتركة شبه مستحيلة ؛ حتى بين التوأم الواحد ؛ فهي عملية انفلاق كالطود؛ تشبه كثيراً عملية الخلق الأول ؛ لهذا كانت الكتابة ؛ من أول مكتشافات الإنسان في فجرالحضارة الأول.ففيها لقاء الأصل بالأصل.
الدكتورالفاضل أميرتاج السرّ…دفعني موضوعك الجديربالقراءة ( الكتابة المشتركة ) إلى ضرورة طرح إنشاء ( علم نفس الكاتب ).وآية ذلك أنّ عملية الكتابة هي سلسلة نفسية وفسلجية وبيئية وثقافية وتعليمية ؛ متفاعلة تؤدي إلى عملية الكتابة…( أعني الكتابة الجادّة المبدعة ).وهذه العملية تتكوّن في الدماغ ومنه المخ ؛ بواسطة عملية الأيض لنشوء الفكرة الأوّلية.وهناك عدّة عوامل في الفرد الكاتب تسهم في تحديد معالم هذه الفكرة للنصّ المراد كتابته…بعد عملية الانتقاء والابتكاروالتأثروالمفاعلة الخاصة…ومثلما هناك عوامل ذاتية مؤثرة في النصّ لا توجد إلا لدى الكاتب الفرد ؛ ثمة عوامل أخرى خارجية تلوّن النصّ ؛ ترتبط ببيئة وثقافة الكاتب وشخصيته ومجتمعه والذائقة العامة للناس.وكلّ ذلك يسهم في رسم شكل النصّ النهائي ؛ وما سيتتبع ذلك من قبول أورفض أونقد.واحاطة بالموضوع فإنّ لكلّ كاتب شخصية فردية كبصمات الأصابع لا تتكررإلا نادراً.وتأسيساً على ذلك تصبح الكتابة المشتركة شبه مستحيلة ؛ حتى بين التوأم الواحد ؛ فهي عملية انفلاق كالطود..فهي تشبه عملية الخلق الأول ؛ ومن هنا كانت الكتابة أول مكتشفات الحضارة والإنسان الأول ؛ فهولقاء الأصل بالأصل.
الكتابة المشتركة هي نوع من التناص المباشر. و كم هناك من أعمال يوجد فيها تناص غير مباشر. لو عدنا لرواية مجمع ألأسرار لإلياس الخوري في افتتاحيتها فقرة طويلة مقتبسة من قصة موت معلن لماركيز. و توجد فقردة مثلها في مملكة الغرباء مقتبسة من أطفال منتصف الليل لرشدي. حين تركنا الجسر لمنيف تعيد إنتاج فصلين من آنا كارنينا. و لا سيمل حفلة الكطارة و الصيد. و قس على ذلك. أعتقد أن الكتابة المشتركة هي تطوير لمشكلة التأثير و التأثر و اعتراف بأهمية التراكمات المعرفية في الذهن. و إلا ماذا جمع طه حسين و الحكيم في رواية القصر المسحور؟..
يركز اديبنا الكبير ، أمير تاج، على الوحدة في المكان أكثر من الحدث المتشابه ، لإختلاف الشعور و الإحساس تجاهه، الا انني أسأله ، هل الإحساس بالظلم و الغبن نختلف فيه؟ نعم ربما لا نتفق في طريقة التصوير من الداخل ، باعتبار المكونات الداخلية ، الا ان هدفنا يقرّب وسائلنا و رؤيانا، و كم من أعمال أدبية ترتب عنها افكار مكملة ليست جديدة المحتوى و لكنها متجددة الشكل و نفخ فيها الكاتب من روحه..