ثمة عوامل عدة، تساهم في إضفاء طابع الهيبة على سلطة الكتابة، لعل أهمها، تشبتها بحريتها المطلقة في انتقاء زاوية الرؤية التي تعتمدها في بناء وصياغة عوالمها. وإذا كانت نسبة كبيرة من هذا الانتقاء، تحظى بتزكية المتلقي على ضوء انسجامها مع انتظاراته، فإنها في بعض الحالات الاستثنائية، تصبح موضوع إنكار ورفض، كما هو الشأن بالنسبة لعلاقة الكتابة بتجربة التخوم، حيث تحرص على تخليها عن شرط انسجامها وتصالحها مع المتلقي، ليركبَها نوع من التطرف والمبالغة في انتقائها لفضاءات اشتغالها، ما ينأى بها عن دائرة اهتمامه، ويتسبب في تعطيل تفاعله معها، بدعوى غموض بنياتها التعبيرية، أو غرابة وحداتها المعجمية و الدلالية. والحال أن الصعوبة التي يصطدم بها المتلقي العادي في تفاعله مع هذا النوع من التجارب، تعود أساسا إلى طبيعة مواضيعها المستلهمة من داخل التجارب المنسية واللامفكر فيها، التي لا يتوفر القارئ على أي استعداد قبلي للتعرف عليها، بحكم معاناته من التخمة الناتجة عن تشبُّعه الكبير بالقضايا المألوفة، والمتداولة بشكل واسع في فضاءات اللغات المشتركة، مدونة كانت أم شفهية.
حيث يمكن القول، إن تطرف الكتابة في انتقاء مواضيعها المنتمية لتجربة التخوم، يفيد ضمنيا تطرفها في انتقائها لنوعية متلقيها، الشيء الذي يضعنا أمام اختيارين متعارضين، يستند كل منهما إلى مرجعياته النظرية، وعلى قناعاته ورؤيته الخاصة لمفهوم الكتابة ومقاصدها، فالاختيار الأول يميل إلى الاشتغال بالقضايا التي تلاقي هوى في نفس المتلقي البسيط، وتضفي على علاقته بها أجواء من الألفة والحميمية، ما يجعله منقادا لنداءاتها بشكل آلي وتلقائي، بدون أن يصطدم بأي عائق دلالي، قد يؤثر سلبا على تواصله وتفاعله معها، بينما يميل الاختيار الثاني، إلى التجرد من شرط تحقق الانسجام، بين الكتابة والمتلق، يغري الكتابة بالانحياز إلى متعة الإقامة في المسالك المنسية لتجربة التخوم، التي قد تبدو في عين المتلقي العادي، مجرد هرطقة لغوية، لا تُنتظر منها أي مردودية تذكر، مع الإشارة إلى أن دلالة التخوم في السياق الذي نحن بصدده، لا تحيل إلى المفهوم الفيزيقي والمكاني للمسافة، بقدر ما تحيل إلى العناصر الأقل إثارة، لانتباه الذات الكاتبة المتخصصة عادة في القضايا المألوفة والمتداولة.
وبالنظر إلى ما يستلزمه تحليل المفهوم من مطارحات فلسفية لا يسمح بها المقام، فإننا نكتفي بتشبيه العناصر المندرجة فيه، في تلك الدروب الضيقة والمعتمة، المتفرعة عن الممرات المكتظة عادة بأفواج العابرين والوافدين، وهي الدروب ذاتها التي تجد كتابةُ التخوم ضالَّتها في استكناه أسرارها الغامضة، التي يتعذر العثور عليها في المسالك الرئيسية والمطروقة من قبل الجميع. بدليل أن أعظم ما أنتجته، وتنتجه الإنسانية من نصوص إبداعية وفلسفية، وأعمال تشكيلية وموسيقية، ينتمي إلى الهوامش المنسية والمنتمية لتجربة التخوم، خاصة أن التمركز العام في قلب مساحة محددة من مساحات القول، الموضوعة رهن إشارة الجميع، يساهم في إلغاء الإحساس بامتداداتها الخفية واللامرئية، باعتبار أن الدروب المنسية المتفرعة عن مسالك الخطابات المألوفة، هي بعض من مكونات تجربة التخوم، التي لا يتحقق إدراكها إلا بالتخلص من جاذبية المسالك المشتركة المعروفة بسهولة مأخذها، وقرب منالها. لأن الاستسلام التام لجاذبية المشترك والعام، غالبا ما يؤدي إلى طمس ملامح هذه التخوم الفرعية، جملة وتفصيلا، مع الاعتراف بأن ميل الكتابة إلى الإقامة في مضايقها، يعتبر إلى حد ما، مغامرة غالية الكلفة، لأنها تعرضها هي أيضا، لحالة من العزلة، كما تحفر بينها وبين قرائها هوة عميقة من الصعب ردمها، ما يجعلها، حبيسة الدروب الضيقة والمعتمة، التي لا تتردد عليها إلا قلة قليلة من المتلقين الملمين بقوانينها، فلا تحظى بمقروئية واسعة، كما لا تستقطب حولها أتباعا أو حواريين، حيث يستحيل اعتمادها كمرجع، من قِبل الخطابات المشتغلة بتجارب الكتابات المشتركة، إلا في القليل النادر.
ويتشكل مفهوم التخوم، من الوعي بدلالة الصخب العام الذي يعيشه الكون، الصادر عن التفاعل المتعدد الأبعاد للكثافة البشرية العظمى، المنتشرة على ربوع الكون، وهي منكبة ليل نهار، على انتزاع الاعتراف بوجودها، مستعينة على ذلك، بترجمة ما يعتمل فيها من محبة وكراهية، وما تتمتع به من نضج معرفي أو بؤس حضاري، وما تدعو إليه من قيم السلام، أو ضغائن الحروب، أيضا بما يحفها من نعم الحياة، أو شظفها، عبر توظيفها لمجموع ما في جعبتها من لغات، وخطابات شفهية ومكتوبة، وإيماءات تتكامل كلها في تفجير ما تحمله من أفكار، وما يختلج في دواخلها من تخيلات، وعواطف وانفعالات سوداوية كانت أو مخملية. فهذا الصخب الجارف، هو مصدر استمرارية الوجود، كما أن في زواله، إيذان صريح بحضور القيامة، حيث لا يمكن تصور حقيقة الوجود، إلا ضمن اصطخابه العنيف، وضمن سطوة حركيته المنتظمة أو العشوائية.
وإذا كانت الكتابة الحريصة على التصالح مع نسبة عالية من المتلقين، تهتم أساسا بالخطابات المركزية الحاضرة بقوة في جغرافيات هذا الصخب، فإن تجربة التخوم على النقيض من ذلك، تشق طريقها باتجاه المسالك المهملة المتفرعة عن الأولى، وأيضا باستقبالها لبقايا الأصداء المتلاشية في المدى، فحيث يكون الصوت الحجر الأساس في إنجاز عملية الإنصات المشترك، والمكون المركزي في اتخاذ القرارات العامة، على ضوء ما يتم سماعه واستيعابه بشكل جلي وواضح، فإن تفسير وتأويل ما يتضمنه الصدى من إشارات، وعلى النقيض من ذلك، يظل محتفظا بطابعه الفردي، الذي لا دخل للجَمْهرة فيه، حيث تستقل كل ذات على حدة بصياغة رؤيتها الخاصة لأسئلة الوجود، التي تعتبرها من وجهة نظرها الشخصية صائبة ومقنعة، وهي استقلالية تتحرر بفضلها كتابة صخب وصمت الكون، التي هي كتابة التخوم، من قيود التقييم الجماعي، الذي قد يرغمها على اتخاد أبعاد نمطية وثابتة، تخلو من جمالية سرِّيتها وغموضها، علما بأن سرية وغموض أصداء الصخب المتلاشية على أطراف هذا الوجود، هي التي تعتبرها الكتابة التخومية، مجالَها الفعلي في بحثها عن المنابع الحقيقية، المؤججة لطاقات ما سميناه بالصخب العام للوجود، بوصفها مصدرا لكل البحار الرمزية، التي تتخبط في أمواجها الكائنات. وعلى الرغم من اقتناعنا بالممانعة القوية التي تصطدم بها هذه الكتابة، من قبل المتلقي العادي، إلا أن ذلك لن يمنعنا من التأكيد على أنها «الممانعة» لا تعود بالضرورة إلى فشل تجربة التخوم في استقطاب المتلقي، والتواصل معه، بقدر ما تعود إلى اقتناعها بحقها الطبيعي في ممارسة حضورها الاستثنائي، ولو داخل مشهد ضيق من مشاهد القول الذي يظل مع ذلك، منفتحا على احتمال استضافته للمزيد من المبتعدين عن اكتظاظات الممرات العامة، والمتميزين بقابلية تفاعلهم فكريا وإبداعيا، مع ما تمدُّهم به المسالك المنسية، من إشارات موسومة بجمالية وعمق ما تطرحه من أسئلة.
٭ شاعر وكاتب من المغرب
رشيد المومني
مع الشكر، مقال يلقي نظرة على هذه الكتابات المغايرة للسائد بكل أبعاده..