ظاهريا، لا تبدو ثمة مؤشرات، توحي بإمكانية التعرف على هوية نص مُهَيَّأٍ للتناسخ في جسد مرآة، يمكن أن يتأمل فيها الكون ذاته التي تتنازعها الجهات، نظرا لأن صفحة المرآة النصية، لا تتسع لغير الكون الواقف قبالتها، بمعنى أن كل نص يسعى لأن يكون مرآة كون بعينه، لا يخص نصا آخر سواه، مع العلم أن مرايانا المرتعشة تحت شمس الرؤية، لا تنتمي إلى سلالة المرايا العاكسة، لأنها منشغلة عن ذلك بتبْئيرِ ما تراه.
لكن وبمنأى عن الظاهر المشار إليه في مستهل القول، يصبح شرطُ إدراكِ القسط اليسير من هوية الكون، متوقفا على اعتباره جماعَ أكوانٍ، وعلى التعامل معه ضمن علاقته الجدلية مع جُماع مرايا، وجماع نصوصٍ دأب الكون على تفَقُّدِ صِفاتِه، عبر ما يتخللها من شروخ، حيث يظل تعرفنا على دواخلها، وقفا على زياراتنا المنفتحة والسخية لمنازلها. وهو ما يجعل من كل دعوة للإقامة في الكون المفرد، مجرد إرغام صريح للإقامة في قلب اليوتوبيا، التي تحتكر حق تمثيلها لكافة الأكوان. بهذا المعنى، وضدا على شراستها، تلح الكتابة على أن النص، ومهما اتسعت فضاءاتُه وتعددت لغاتُه، لا يمكن بحال أن يكون سوى مرآة مفردةٍ لِكونٍ مُفْرد، يخص ذاتَه النصيةَ دون غيرها، وهي قناعة نظرية تنفي أي نية مبيتة في تحجيم هذه الذات، وفي تبنِّي أي تأطير اختزالِيٍّ يتعامل معها كذات أحادية، مسيَّجة بكوْنٍ أُحَادي مستقل ومنفصل عن غيره من الأكوان. لأن تأكيد الكتابة على ضرورة تخصيص كل كون على حدةٍ بمرآته النصية، هو في الأساس استحضارٌ لمختلف أنواع التفاعلات التي يمكن أن تقيمها الذات الكاتبة مع غيرها من الأكوان، أو بتعبير أدق، مع الكون المنظور إليه من جهاته المتعددة، بما يتيح له هو أيضا إمكانية الانتشاء بالنظر إلى ذاته، بوصفه جُماع ذوات، وجماع نصوص، يستقل كل منها بخطاباته وتمظهراته، كخطوة أساسية للتمهيد إلى طقس التفاعل العام، أي تفاعل الأكوان، وتفاعل المرايا والنصوص.
واضح أننا نثير في هذا السياق إشكالية المعادلة ذات الطرفين المتكاملين، اللذين لا يمكن أن يستقيم نسق القول خارجهما، ذلك أن علاقة المِرْآة النصية بصورة كون منفرد جد ضرورية، من أجل دمجها في فضاءات المرايا النصية، حيث تتجمهر الأكوان البشرية، وقد تحررت من قيود تمظهرها في مراياها الخاصة بها، كي تمارس تموضعاتها الحرة في مرايا الآخرين، وطبعا خارج إكراهات الحد، التي تُلزم النقطة عادة بالارتجاف الدائم في سماء النون، والبحرَ بالفصل بين الضفتين، حيث سيكون بوسع الذات أن تجاهر بأريحية استضافاتها لأشباهها وأضدادها المنحدرين إليها من قلب لحظة إبداعية، تغادر فيها الأكوان نصوص مراياها، من أجل اختبار إمكانية التماهي مع أكثر من تجلٍّ، وأكثر من حضور، فضلا عن تبادل ما لا حصر له من الاستضافات الرمزية، التي تشع منها إشارات جديدة باتجاه تلك العتبات المنسية والواعدة مع ذلك، بكل ما يساور العقل من إبدالات، قد تسعفه من داخله أو من محيطه، وهي إبدالات تجدد بها الأشياء رؤيتها لآليات اشتغالها في الأفق الذي يتهيأ فيه كل عنصر لفنائه أو انبعاثه، غير أن الجوهري في هذه الاستضافات المتبادلة، إما بفعل صدفة غير متوقعة، أو بفعل حفر منهجي في مسالك الاختيارات، هو استحداث ذلك الأثر، الذي يظل محتفظا بإشراقه، بعد انفضاض الجمع، وبعد إسدال الستائر على طقس الاستضافة، واستعادة كل مرآة لنص كونها، وما نعنيه بالأثر، هو فائض القيمة الناتج عن تفاعل الاستضافات، والمؤدي حتما إلى إحداث تحويرات مكشوفة أو ضمنية، على الجذور المتأصلة في مرجعيتها المكانية، وكذلك على الفروع الممتدة من خارج فضاءاتها، باتجاه فضاءات الآخر/الآخرين. فحالما تحل الأكوان ضيفة على كون النص، نراها تبادر مؤقتا بتملكه، فتًضَمِّخه بطيب حِبْرِها الذي يعيد خلقه وتصويره من جديد، وهو ما يدعونا للقول بأن النص يستطيع أن يستضيف نصوصا متعددة، تضاعف من عدد مراياه، ومن أسماء الأكوان المتفاعلة فيه. بمعنى أن كل نص هو في الأصل مرآة مسافرة في الزمن، مما يجعلها تلتقط مجموع ما تمر به في أسفارها الزمنية من صور، ومن ظلال نصوص، ورِمَمِ أكوانٍ سبق لها أن تداعت تحت فؤوسنا، أو تحت فؤوسهم، ويتمثل كنْه هذه الأسفار، في التردد المنفتح للقراءات عليها، فالحديث عن دلالات النصوص، إبداعية كانت، أو دينية، هو حديث عن دلالات القراءات والتأويلات المحايثة لها، عبر تتالي الأزمنة، وبالتالي فهي نصوص/مرايا، تعكس أكوان القراءات المتعددة والمترددة عليها.
هكذا وشيئا فشيئا، سنجد أنفسنا على مقربة من سؤال المسافة، ذلك الحد السيميائي الذي يتحقق وجوده واكتمال الشيء به، عبر منطق امتداده الطبيعي والتلقائي، في ضيافة تلك المساحات التي تتعاشق فيها مرايا العناصر وتتنابذ، بحثا عن كينونة نصية محتملة، ومشتغلة ضمن مسافاتها ورحاباتها الخاصة بها، فالشيء ذاته المتواجد في أول الخطو، يغدو غيره في الخطوات التالية، وقد استسلم لغبطة التحول التي تقترحها المسافة، بما هي شحنة زمنية، مسنودة بأبعادها المعرفية وبجديد عناصرها وإوالياتها وقوانين تناميها، انسجاما مع حركية الوجود، الذي هو أيضا نتاج اشتغال هذه المسافات، بما تتميز به من خصوصيات ذاتية وجماعية وكونية، تعيش مخاضاتها وإجهاضاتها الشبيهة بتمارين تتراوح بين القسوة والرهافة، بحثا عن ممكن قاتل، أو استحالةٍ فرحة، لا قِبَل للمرآة المتوحدة بتداعياتهما، ولا للكون الواحد بانتظاراتهما المبرحة. في مثل هذه المقامات يكون المطلوب من النص، أن يفنى في سكرته المخلخلة، التي توقظ ذئاب الحذر الثاوية تحت الجلد، كي تلوذ ببلسم الرؤية. المرايا المحجَّبةُ، هي أيضا، سوف تستلذ إيقاعات العواء المترنحة من كون لكون، ومن حرف لحرف، بما في ذلك تلك الصفحة التي يعض عليها الصمت بنواجذه الزرقاء. في مثل هذه المقامات، يكون النص معنيا بمحاورة الإشكاليات العالقة في حنجرة الكون، أن يكون طرفا أساسيا في استعجال إطلالة الشمس في أول الليل، دون أن يغرب بغروبها، حيث كل موجود مسؤول عن تكريس حضوره في رحابة مسافته المنفتحة على مسافات الآخرين، قريبا من مختبر تصنيع الإشكاليات والأسئلة الذي يتولى الوجود تدبيرها، نكاية في حيرة الكائن، وتواطؤا مع مقالب العقل.
بهذا المعنى ستكون الكتابة، هي الأرضية التي تتقاطع عليها مقامات اللغات، كي تتخذ بالتالي شكل مقام يحيط بكافة ما تمتلكه المقامات من إمكانات واستحالات، والذي لا يكف عن إخضاع المقامات المندرجة فيه إلى قوانينه. علما بأنه لا توجد ثمة أي تفاضل بين هذه أو تلك، حيث يكون كل منها قادرا على إضاءة بؤرة ما، مِن بؤر الكتابة، بصرف النظر عن طبيعته ومرجعيته. إن مقام الكتابة دائما مهيأ لاستقبال كل وارد عابر أو طارئ، وطبعا ضمن معادلات لانتقاء التحويل، وإعادة الإنتاج. كما أنه يشتعل بآلية انتقاء ما يمده به التراكم الكمي من استثناءات. إنه المقام الذي يظل في حاجة إلى المزيد من الهواء، من أجل اختيار ما يلائمه منه، وإلى كثير من الألوان والصور، وإلى طوفان من المرايا المحدبة والمقعرة، كي ينتقي بحريته الباذخة، ما هو بحاجة إليه. إنه يستمتع باستقباله الدائم لذلك العدد الغفير من وقود القول، كي يقول فيها كلمته الأخيرة.
٭ شاعر وكاتب من المغرب
رشيد المومني