عندما قُدِّم المُصلح التركي بديع الزمان النورسي إلى المحاكمة بتهمة الدعوة إلى الشريعة الإسلامية، قال له رئيس المحكمة وهو يشير إلى جثث العلماء المُعلَّقة على المشانق: «انظر، إن من يطالب بالشريعة الإسلامية يُشنق هكذا»، فأجابه النورسي بثبات: «إنني إذ أقف في عالم البرزخ الذي تدعونه السجن، منتظرًا قطار الآخرة في محطة أعواد المشانق، ومنتقدًا الأحوال الغادرة للمجتمع الإنساني، فإني هنا لا أخاطبكم وحدكم، بل لعلي أخاطب بني الإنسان بأجمعهم، إني مُتهيئ وبكل شوقٍ للرحيل إلى الآخرة، ومستعد لأن أرحل مع هؤلاء المشنوقين».
فألف تحية وتحية، لكل من آمن بفكرة بنّاءة ودافع عنها حتى الممات، وآثر القيد على أن يكون شيطانًا أبكم، ولا يخلو الزمان من أولئك الشرفاء مهما تعاظم الاستبداد.
للصدْع بالفكرة ضريبة في شريعة الغاب، العالِم السعودي الدكتور سفر الحوالي، كان أحد الرجال الذين دافعوا عن فكرتهم، والسبب كتاب «المسلمون والحضارة الغربية» الذي نشره قبل اعتقاله، جعل منه وثيقة تاريخية وضع فيها خلاصة تأملاته ودراساته وعصارة فكره.
لقد شاركه في دفع تلك الضريبة أبناؤه في واقعة غير مسبوقة، فإن كان الرجل قد صنف كتابًا ينتقد فيه سياسات المملكة فما ذنب أبنائه؟ أم أن وقع الكتاب جعل النكاية أعظم، وأفقد القوم صوابهم وبحثوا عما يمعنون به في إيذاء الوالد؟
الجديد في الكتاب ليس طريقة عرضه المُبهرة التي جمعت بين جزالة العبارة وقوة الحٌجة وغزارة الاستشهاد وترتيب الأفكار، وليس الجديد فيه تناوُل سمات الحضارة الإسلامية وكشف عوار الحضارة الغربية، وإنما تلك المواجهات المُباشرة الصريحة مع مثالب النظام السعودي، التي تعتبر الخط الأحمر الذي لم يُجاوزه عالم أو سياسي أو مثقف يعيش على أرض المملكة.
لقد بدا الحوالي وكأنه يكتب موعظته الأخيرة، ويحذو حَذْوَ غلام الأخدود، هو يعلم يقينًا أنه مأخوذ لا محالة، فأودع في كتابه كل ما يريد قوله، وكل ما يعتمل في نفوس الآخرين ولم يجرأوا على البوْح به، ثم أقبل على ما ينتظره مُتهيئًا، فإذا رأيت فكأنك بالقاضي ضياء الدين البرني، الذي صدَع بحقٍ يُسخِط السلطان، ثم ودّع أهله توديع المحتضرين واغتسل كغسل الميت وتصدق ثم مضى إلى القصر.
علِم الحوالي أن السجن في انتظاره، فالسجون امتلأت بمعتقلي الرأي، منهم من زُجَّ به فقط لأنه لم يكن من المطبلين الذين أيدوا حصار قطر، ولم يركب موجة تأييد ذلك الظلم الذي أيده علماء السلطان، وآخرون خارت قواهم واستسلموا لجبنهم، فكيف بمن يواجه الزمرة الحاكمة بالنقد الصريح بدون مواربة؟
ربما أراد مع علمه بذلك ـ وهو المُسنّ المريض ـ أن يسطر قبل موته وثيقة تكون بيانًا للحق المُرّ وإعذارًا إلى الله، لكي لا يبقى هناك ما تُخدع به الأجيال القادمة.
من الإنصاف ألا ننظر إلى محنة الحوالي بعين التصنيف والأدلجة، فهناك من سيقول ابتداءً أنه من التيار السروري، أو من الإخوان السلفيين في المملكة ونحو ذلك، إننا إزاء قضية تمس رجلا صاحب فكر وأكثر حرصًا على وطنه من فِئامٍ من أصحاب الأقلام الذين أطُلقت أيديهم، بينما يعبثون بالهوية الثقافية للشعب السعودي ويقطعون الخُطى المُريبة تجاه تغريبه.
الرجل صاحب فكر لا يجنح إلى التطرف والتكريس للإرهاب، بل سبق له التنديد بالهجمات الإرهابية التي ضربت المملكة، هو يقول ما يؤمن به وما لا يتعارض مع الثوابت الدينية والوطنية والقيم المجتمعية، فلماذا أسلوب القمع؟
لقد تضمن الكتاب عدة محاور قليل منها يكفل للحوالي أن يقبع بقية عمره في السجون التي تضم لفيفًا من الإصلاحيين المعتدلين داخل المملكة. هاجم الحليف الأمريكي وأبرزَ الوجه القبيح لأمريكا وموقفها من الأمة الإسلامية ورعايتها للكيان الصهيوني اللقيط، في وقت يبلغ التطبيع فيه مع الإسرائيليين أوجه. كشف حجم التبعية السعودية والخليجية للبيت الأبيض وتحدث عن الودائع السعودية الضخمة في أمريكا.
هاجم سيسي مصر الذي أغلق المعابر وأسهم في خنق الفلسطينيين في غزة، واستخدم بصراحة مصطلح الرز الخليجي الذي أُغْدق على النظام العسكري المصري.
هاجم الزمرة الليبرالية التي تهيمن على السياسة السعودية وتأخذ بِحُجُز المجتمع ناحية الأمْركة وذوبان الهوية.
حمّل الحكومة السعودية مسؤولية الإرهاب، بسبب غياب العدالة الاجتماعية وسوء توزيع ثروات البلاد، وتصدير أصحاب الضمائر الميتة في وسائل الإعلام، وفقدان المعاملة الشرعية لمن ضلّ وشذ، ومُحاصرة الشباب وإهدار طاقاتهم، وانتشار التغريب بجميع مظاهره، وعدم تداول السلطة، وإنساء قضية الأقصى والتطبيع مع الصهاينة وحصْر التركيز في عداوة إيران، وتكميم الأفواه وتعذيب المعتقلين، والعدالة الانتقائية، وغياب الشفافية. وفي ملحق يتضمن رسالة للعلماء، أنكر الحوالي عليهم أن يكونوا أداة في يد السلطة أو يكون عملهم تبرير قرارات النظام.
وأعتقد أن أخطر وأجرأ ما جاء في الكتاب هو الملحق الذي أفرده الحوالي برسالة إلى آل سعود، ورغم أنها جاءت بأسلوب مُهذب وفي قالب النصح إلا أنها كانت صريحة مباشرة.
فدعا آل سعود إلى نظام الشورى، وحذّرهم من استخدام ثروات الشعب في تمويل المستبدين، ودعاهم إلى عدم الاغترار بصمت الشعب مُحذرا من انفجاره، وحذرهم من تأثير العلمانيين والليبراليين على سياسات المملكة، ودعا إلى عدم اتباع الهوى وتسييس الفتاوى من أجل النيل من الخصوم.
وحذر من مظاهر التغريب والانحلال التي بدأت تعصف بالمجتمع السعودي تحت دعوى الحرية والتقدم، وانتقد إهدار المال العام في التحولات الاجتماعية الجديدة، التي حملت مُبالَغةً في الاهتمام بالجانب الترفيهي، وتبديد المال في إنشاء دور السينما، بدون الاهتمام ببناء المستشفيات والمدارس التي تفتقدها بعض المناطق، بينما مناطق أخرى تعاني سوء الخدمات في تلك المدارس والمستشفيات. كما دعا آل سعود إلى إعادة النظر في العلاقات مع إيران، والتوسط في ذلك، وعدم وضعها على رأس قائمة العداء بدلا من العدو الصهيوني. وحذّر من الفساد في الأجهزة الأمنية، ودعاهم إلى المصالحة مع الشعب، وإلى تجنُّب التناقض وازدواجية المعايير. وانتقد تماهي النظام الحاكم مع السياسات الأمريكية، ودعا إلى الاستقلال عن الإمارات في السياسة الخارجية، مُحذرا من أن وجود الإمارات في التحالف العربي يهدف إلى تقسيم اليمن.
مسائل كثيرة لا يتسع المجال لذكرها تناولها الحوالي في معرض رسالته إلى آل سعود، حتى الخلافات داخل الأسرة الملكية تعرض لها وتناولها تصريحا لا تلويحا.
ربما كانت فرصة لتغيير الصورة الذهنية عن النظام السعودي المُتهم بقمع الحريات، إذا سمح بنشر الكتاب ولم يتعرض لمؤلفه، لكن يبدو أنها سياسة ثابتة تستأصل كل صوت مُعارض أسوةً بالنظام المصري. وعلى كل حال أسهمت الحكومة السعودية في انتشار الكتاب لدى مؤيدي الحوالي ومعارضيه على السواء، والفكر لا يواجه إلا بالفكر لا بالقمع والاستئصال، وكم من فكرة حُوصر صاحبها بجدران السجون، بينما خرجت هي من بين القضبان وملأت الآفاق، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية
إحسان الفقيه
إعتقال وسجن هؤلاء العلماء الربانيين دليل على الزوال القريب لحكم آل سعود بجزيرة العرب – ولا حول ولا قوة الا بالله
شكراً للكاتبة القديرة التي تدافع عن قضايا الأمة المصيرية بحرص وتفانٍ بلا كلل ولا ملل, جزاكِ الله كل خير ولا حول ولا قوة الا بالله
و حسبنا الله و نعم الوكيل !
شكرا لك سيدتي على هذا المقال
اذا رأيت السلطان يطرق باب العالم فعلم أن الامه في خير وعندما ترى العالم في السجن فعلم أن الحاكم مستبد ظالم لا يخاف الله بل يخاف الناس وهذا للأسف احوالنا اليوم اللهم فرج الهم عن العالم الرباني سفر الخوالي الذي لا يخشى قول الحق في وجه سلطان جائر
*عندما تخاف دولة (أي دولة)
من كلمة حق أو رأي مستقل
أو (كتاب) مهما كان فقل على
هذه الدولة السلام..؟؟!!
*(السعودية) كان الله في عونها
يحكمها شاب ما زال (مراهق سياسيا)
وجل همه (العرش) وعلى إستعداد
إزاحة والده بالقوة لو شعر أنه
يحول بينه وبين العرش..؟؟!!
حسبنا الله ونعم الوكيل في كل
حاكم طائش
شكراً للكاتبه إحسان الفقيه علي النبذه الموجزه لكتاب «المسلمون والحضارة الغربية للدكتور سفر الحوالي…… وشكراً لوسائل التواصل ألتي أوصلت هذا الكتاب لكل قارئ عربي…. تخيلوا لولا وجود وسائل التواصل الإجتماعي ماذا سيكون مصير هذا الكتاب ومؤلفه بدون مبالغه سيحرق النظام السعودي المجرم الكتاب ومؤلفه وسيطمسه للأبد….
لسلمت و سلم قلمك اوجزت ففصحت و كتبت فبينت و شرحت فافهمت بارك الله لنا فيك و اكثر لنا من امثالك لعل الشباب يعرفون و يعون و لك تحياتى
على مر العصور كان بامكان الحاكم المستبد ان يسجن العالم الذي يقول الحق وينصح باتباعه لكنه _ هذا الحاكم -لا يمكنه ان يسجن الفكرة لان الله ينصر من ينصره, اما العالم اذا ادخل السجن فانه في جهاد حقيقي سينال اجره عند ربه وهو على كل حال افضل من علماء الحاكام الذين سينالون اجرتهم في الدنيا وعذابهم في الدار الدائمة .
مقال ممتاز …
مثال رائع، لإشكالية مفهوم النقد عند المثقف والسياسي والموظف بشكل عام في نظام دولة الحداثة، الذي أختلف معه 180 درجة، لماذا؟ والأهم شيء لماذا، في البداية أقول لكلمة إحسان الفقيه (كاتبة المقال الأردنية) بحق سفر الحوالي (مؤلف الكتاب السعودي)، بارك الله بك وكثّر من أمثالك، أنا لاحظت إشكالية أي إنسان مخلص (يحمل أوراق صادرة من المملكة الأردنية أو المغربية) يرفض نقد النخب الحاكمة (آل البيت) في الأردن والمغرب، لكن لا يمانع من نقد النخب الحاكمة في دول مجلس التعاون في الخليج العربي بكل صراحة بعيدا أن أي رياء أو نفاق اجتماعي معتمد في كل الأوساط الملكية، أكثر من الأوساط الجمهورية.
أنا لي اعتراض على نظرة التأليه لرجب طيب أردوغان (تركيا) أو مهاتير محمد (ماليزيا) في كل من لا يختلف معهم، وبارك لهم فوزهم في انتخابات عام 2018، في انتخابات نزيهة لمشاركة أكبر عدد ممن يحق لهم الانتخاب في ماليزيا وتركيا، وأظن هناك تشابه بين تسلسل قصة الاستاذ وتمرّد تلميذه عليه، في الثنائي الماليزي مهاتير محمد وأنور إبراهيم مع قصة الثنائي التركي أربكان وأردوغان، لولا أن مهاتير محمد استغل نفوذه على السلطة القضائية والإعلامية لتشويه صورة تلميذه، قامت بهدر الكثير من الموارد الاقتصادية لماليزيا عكس تركيا.
النظام الاقتصادي الشيوعي /الاشتراكي إنهار عام 1991، والنظام الاقتصادي الرأسمالي إنهار عام 2008، ونحن في حاجة إلى نظام اقتصادي جديد بدل اقتصاد الفرد (رأسمالي/شيوعي)، أنا أعرض بديل أطلقت عليه اقتصاد الأسرة، مبني على تزاوج عبقرية أهل وادي الرافدين في كيفية إعادة إعمار كل ما تم تهديمه في حرب 1991 في مدة 18 شهر وبتكلفة (تريلتين ورق وكم تنكة حبر كما قال حسين كامل)، مع النموذج الاقتصادي الذي خلق جنة رجال الأعمال في كل دول مجلس التعاون، لدرجة أن الرئيس الأمريكي الحالي تمنى أن يكون مواطن فيه عام 1988 حيث أن كرسي الحكم للعوائل الحاكمة في دول مجلس التعاون، مقابل لا ضرائب على الجميع، والجميع له حق كفالة أي إنسان وتحمّل مسؤوليته أمام الدولة في أي كيان اقتصادي منتج على مستوى الإنسان (الأسرة) أو تجاري/زراعي/صناعي/خدمي (مؤسسة/شركة). لحل مشاكلنا على أرض الواقع بداية بطريقة تأويل أي نص قانوني في محكمة أي دولة في العالم، وليس فقط الدول العربية يعتمد على شدة الضغوط الناتجة عن الواسطة والمحسوبية والرشوة على العنصر الإنساني فيها