في مقالي السابق الأسبوع الماضي، كنت كتبت عن الحكائين الكذابين الذين يستخدمون خيالا وغدا، وأحلاما واسعة، غير قابلة للتحقق، في سردهم الأسطوري إذا ما وجدوا من يستمع إليهم، ويحولهم بسماعه المندهش المرتب إلى أساطير صعبة المنال.
لقد فوجئت برسائل عديدة من قراء أعتز بهم،، يطالبون بمزيد من قصص هذا النمط الاجتماعي المزعج، والمرغوب في نفس الوقت. وحقيقة وطوال مسيرتي في محاولات تقصي الإيحاء، واصطياد العوالم الغريبة من أجل تحسين خيالي الكتابي، ورواية الأحداث الواقعية مطعمة بشيء من البهار الغامض، تعرفت إلى عشرات الحكائين، وجالست عشرات منهم، وكنت كلما صادفت أحدهم، في مكان ما، أصادقه بقوة وأتفرغ له أياما عدة حتى ألم بشيء من غبار خياله.
عبد الله الكذاب الذي ذكرته في مقالي السابق، كان نموذجا فذا لبسطاء الأقاليم الذين يعتبرون العاصمة العادية جدا في نظر سكانها، كنزا بعيدا ينبغي أن تنسج حوله الحكايات. سراج الدين، سائق الشاحنة الستيني، الذي صادقته أيضا، كان خياله يتحاوم حول الحديد وصناعته، وقد حكى يوما أن شركة مرسيدس بنز الألمانية قد اهتدت إلى مكانه أخيرا، بعد أن ظل موظفوها مستنفرين، يبحثون عنه عشرين عاما من دون جدوى، وحين سألته عن السبب في تلك المطاردة طويلة النفس، ومن واحدة من الشركات العظيمة في صناعة السيارات، رد بتكبر: يريدونني أن أجرب شاحناتهم قبل أن تطرح في السوق، وأخبرهم إن كانت صالحة، لكني رفضت. لن أقدم خدماتي لهم، وسأظل أخدم بلدي.
وطبعا كانت جملته الأخيرة رد فعل منطقياً محبطاً، يكبح به جنون الحلم، فالحلم غير قابل للتحقق، والمستمعون يتشوقون لنهاية مغرية، لكن النهاية سيئة، لا تتوافق وعظمة الحلم. أن تجرب شاحنات شركة بنز قبل أن تطرح في الأسواق، وأنت مجرد سائق شاحنة مغمور، في بلد بعيد، يناطح وعورة الطرق بين جبال البحر الأحمر، أو لوثات الخريف في غرب السودان، وغالبا لا تصل بشحنتك كاملة، لأن الطرق ليست حسنة السمعة، ولها قطاع يتكرمون بتركك حياً ولكن بلا بضائع، ذلك يجعل الكذاب الرائع متكدراً، لكن سيعود في اليوم التالي، بحكاية جديدة.
أتذكر سعيدة سكر، وكانت داية متوسطة العمر، كنت أراها في بيتنا، ترتدي ثيابا بيضاء وتحمل حقيبة بيضاء من الصفيح أو الألمونيوم، تحوي عدتها الخاصة بالتوليد. كانت تصادق أمي، وتجلس في بيتنا ساعات طويلة، تحكي عن استدعائها المتكرر، بطائرات خاصة لإجراء ولادات للأميرات في عدد من الدول العربية، وكيف أن إحدى الملكات، أنجبت فتاة سمتها سعيدة، وذلك البيت الذي تسكن فيه في حي مايو الشعبي، كانت تكلفته، من أهل سميتها سعيدة، واختارت هي المنطقة لأنها نشأت فيها ولا تريد استبدالها.
هنا أيضا، تبدو نهاية الحلم مجهضة، لأن القابلة التي تطلب من نساء الوجهاء، وتذهب بطائرة خاصة، لبلاد لو أراد حكامها إحضار مؤلفي كتب النساء والتوليد ورواد ذلك العلم، أنفسهم لأحضروهم، لن تسكن في حي مايو، حي الطبقات المهمشة، وفي ذلك البيت المصنوع من الخشب والصفيح، إلا باختيارها هي. إنها النهاية المنطقية للامنطق، والنهاية التي ستجعل أمي تقول في تأثر:
– أصيلة والله، لم تنسي أهلك وحيك وجيرانك يا سعيدة.
وتبتسم هي، مظهرة أصالتها، وموقنة تماما، أن الكذب الخلاق صادف تصديقاً عميقاً، ومع الأسف أنني كنت أسمع، لكني لم أكن طفلاً بريئاً من المفترض أن لا يفهم شيئاً في ذلك العمر، فقد كنت صياداً لأفكار تخزنت في الذاكرة وبعضها خرج إلى الوجود بالفعل.
في بداية التسعينيات من القرن الماضي، عملت مفتشاً طبياً لمنطقة طوكر، في أقصى شرق السودان. كانت المنطقة قاحلة بشدة، من حيث المعمار وسبل الحياة الرغدة، لكنها غنية بالحكايات، وكل شبر فيها يضج قصصاً، بعضها حقيقي وبعضها من نسج كذابين خلاقين مثل الذين ذكرتهم. وقد كتبت حكايات كتابي «سيرة الوجع» من وحي تلك البلدة، كما استوحيت منها أعمالاً أخرى.
كنا نجلس عند الحداد، وهو تاجر مرموق من تجار البلدة، كتبت شخصيته كاملة في رواية لي اسمها «اشتهاء»، كنا نضيع الوقت الطويل القاسي في بلدة بلا أي أفق، ولا تملك كفاءة اجتذاب الغرباء، بالثرثرة، وفي أحد الأيام أخبرنا الحداد بوجود ضيف من أهله، في بيته، وكان جاء من العاصمة لقضاء عدة أيام في الريف وأنه يقيم له دعوة عشاء علينا أن نحضرها أنا وزميلي الطبيب الآخر في البلدة.
في بيت التاجر الذي يعتبر جيدا بمقاييس البيوت، في البلدة، من حيث الاتساع والتأثيث، كان ثمة رجل في الخامسة والستين تقريبا، يرتدي ثوباً ليس نظيفاً تماماً، وعمامةً قديمةً، ومبعثرة الخيوط، ويحمل في يده دفتراً قديماً بلا غلاف، قال إنه ديوانه الشعري الذي ألفه على مدى سنوات طويلة، ويعود إليه كلما أحس بشجن أو رغبة في البكاء. هو لا يحب أن ينشر شعره في الصحف، ولا أن يسمعه لأحد، وحتى حين أجرى حواراً مطولاً مع الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، وطلب منه ريغان أن يسمعه شيئا من قصائد الحب، أبى واعتذر بلباقة.
كانت صدمة لي ولزميلي الطبيب الآخر، أن نكون طبيبين في الريف المدقع بينما هناك من ذهب إلى أمريكا وأجرى حوارا مع الرئيس. أردت أن أستفهم لكن الحكاء واسمه عمر، استمر، وقد تشنجت عضلات وجهه بشكل مخيف:
كنت وزيرا للإعلام ولم أكن أرغب في كرسي الوزارة، لكن النميري أجبرني على القبول.. الوزارة مسؤولية جسيمة، وما لم تكن حصيفاً، وحازماً، ستضيع حقوق الناس وقد ضاعت بالفعل كثير من الحقوق، في عهدي، ذلك أنني جلست على كرسي الوزارة، بشخصية الشاعر. وتعرفون شخصية الشاعر بما تحمله من رقة. أو لعلكم لا تعرفون، فالأطباء أبعد الناس عن فهم المشاعر بعكس ما يدعون..
لم تكن إساءة كبرى، تلك التي وصمنا بها الرجل، ومن ثم تجاوزناها، فقد استهوتني شخصيا حكاية وزير سابق أجرى حوارا مع الرئيس ريغان، وكنت أريد تفاصيل خلاقة أخرى. وقد كان الطقس أسطورياً وساحراً بالفعل والرجل يحكي عن وزارته، وكيف ركب طائرة نفاثة تزودت بالوقود في الجو، وكيف كان مطار نيويورك مزدحماً وفوضوياً لدرجة أن مستقبليه اضطروا إلى الجلوس على الأرض انتظاراً لمقدمه، وقد وجدت ريغان قلقا من تأخره عن الموعد.
كان الرجل قد حكى وحكى وابتل بالعرق وهو يحكي، ورفض بشدة أن يسمعنا أي قصيدة من قصائده، أو نكتة من تلك النكات المتبادلة بينه وبين عمدة باريس جاك شيراك، حين زاره مرّة.
كان ثمة سؤال شرير أردت أن أسأله، ولم أجرؤ: كيف يصبح وزير سابق، ومحاور عالمي وصديق لرؤساء الدول، في هيئة كهذه وفي مدينة مغمورة؟ بالطبع لن أحصل على إجابة. هنا لم يهبط الحلم واستمر على وتيرته برغم عدم كفاءة النهاية.
حين سافر عمر الكذاب الرائع، عائدا إلى العاصمة، جاءني الحداد في المستشفى، كان عابس الملامح، وقال كأنه يعتذر:
لا تأخذ كلامه بجدية، إنه معروف في العائلة بلقب عمر الخيالي، وقد كان يعمل خفيرا في وزارة الإعلام قبل أن يتقاعد!
كاتب سوداني
أمير تاج السر
Excelent
الأخ أمير تاج السر،
ومتى كان الأدبُ، على اختلاف أجناسهِ، أيَّ شيءٍ غير ذلك الكَذِب المُتَعَمَّد أصلاً، بدءًا من الأدب الأسطوري الذي يبتعدُ كلَّ الابتعاد عن الحقيقة، وانتهاءً بما يُسَمَّى بـ«الأدب الواقعي» الذي يسعى بكلِّ ما أوتي من قوَّةٍ إبداعية إلى الاقترابِ من هذه الحقيقة؟
حتى الفن نفسُهُ لم يسلم من صفة الكَذِب المُتَعَمَّد هذهِ، وبنظر الكثير من مشاهير الرسَّامين والنحَّاتين في العالم. وعلى رأسهم الرسَّام والنحَّات التشكيلي الإسباني پابلو پيكاسو الذي قال قولته الشهيرة من هذا الخصوص: «نحن نعرف جميعًا أن الفنَّ ليس الحقيقة، بل كذبةٌ تجعلنا ندركُ الحقيقة».
ههههههههه رهيب