اللبنانيون ووجوه اللاجئ السوري

حجم الخط
0

«اللبنانيون ووجوه اللاجئ» هو العنوان الذي دعاني الصديق لقمان سليم للمداخلة تحته، في ندوة مغلقة تناولت «اللجوء السوري إلى لبنان بوصفه استحقاقاً سياسياً»، ونظمتها جمعية «هيا بنا» بالتعاون مع «مؤسسة كونراد اديناور» وانعقدت في بيروت أمس الأول.
التفاعل الجيد بين المشاركين تنقل إلى حد كبير بين هاجسين: كيفية تجاوز المقاربة الأمنية للملف إلى مقاربة سياسية متوازنة وفاعلة، وكيفية مقاربة الاحصاءات والأرقام من دون أن تكون زخرفة للإنفعالية ليس الا. هل تلبس الأرقام وجوهاً، هل للاجئين وجوه أو هم «البلا وجوه»، بهذا الهاجس المزدوج كانت مداخلتي. سأحاول استعادة النقاط التي تناولتها شفاهة.
انطلقت من مفارقة التعريف الذاتي الذي طبع الكيانية اللبنانية بدءاً من مرحلة تشكّلها: فهذا الكيان هو «ملاذ» للمجموعات المضطهَدة في المحيط، عندما تحمل وجهاً «فسيفسائياً»، لكنه ينظر إلى نفسه كـ»مطمع» للحاسدين «غير الفسيفسائيين» الذين يعجّ بهم المحيط، بما يستوجب تلميع «الخرزة الزرقاء» الكيانية على الدوام.
بالتوازي، أي تناول للإفتراق الكياني اللبناني – السوري يلغي من حسابه واقعة التوليد الكولونيالي للبلدين سيبقى عقيماً. ليس لأنه افتراق وهمي، بل لأنه شبكة مفارقات. تأكيد حجية الاستقلال اللبناني لا تلغي كون لبنان هو «سوريا الغربية» أو «سوريا الصغرى»، وفعل انسلاخ متواصل عن سوريا في الوقت نفسه. فعل انشاء وتركيب. فمن هو اللبناني؟ هو «غير السوري». ومن هو السوري؟ هو «غير اللبناني».
في عنصر أساسي من تشكلها، هوية الواحد هي معاكسة لهوية الآخر. في جزء أساسيّ منها، تشكّلت هوية اللبناني، أي السوريّ الغربي، على أنه ينظر لنفسه على أنه السوريّ المتأورب، الأفتح بشرة (في صورته المشتهاة عن نفسه لا في الواقع طبعاً)، أي «اللاسوريّ»، على أنه من بلد خال من الصحراء: ساحله وجبله وسهله ثلاثة مركبات «لا صحراوية». السوري الشرقي، في هذه الحالة، أي «السوري»، بالنسبة إلى السوري الغربي، أي «اللاسوريّ»، أي «اللبناني»، هو في هذه الحالة، يحمل سمات البادية، أو هو قريب منها، أو هو الفاصل بين لبنان وبين البادية.
يتعامل اللبنانيون مع هذه السمة لبلدهم، كسوريا صغرى، أو سوريا غربية، على أنّ اقرارها فيه نفي لكيانيتهم الوطنية، والحق أن تصالحهم مع شروط تفعيل هذه الكيانية، وعيشها بشكل سوي ومريح، وزيادة مناعتها بازاء محيطها، وتحسين شروط علاقتها بسوريا الشرقية والشمالية، أي سوريا الحالية، تتطلب على العكس من ذلك، معالجة «رُهاب البعد السوري» للشخصية اللبنانية. اللجوء الديموغرافي السوري الواسع النطاق إلى لبنان على خلفية الحرب الأهلية السورية والدمار المجتمعي الحاد والمتواصل الذي نشأ عنها، يطرح نفسه بهذا المعنى كمصفوفة تحديات للكيانية الوطنية اللبنانية: بأن تتصالح مع بعدها السوري، وتتطور تعاقداً عميقاً واستقلالياً مع سوريا الثانية.
في بداية النزيف الديموغرافي باتجاه لبنان، كان ثمة من يرتئي تسميته نزوحاً وثمة من يصرّ على تسميته باللجوء. لكن اللجوء السوري نفسه يرتدي وجوهاً متباينة فيما بينها. الوجه الأول يظهره كنزوح. اللجوء إلى لبنان هو في منزلة بين المنزلتين، بين النزوح كحركة انتقال قسري داخل البلد الواحد، وبين الترحّل من بلد إلى بلد. هو فاقد إلى حد كبير لترسيمة «عبور الحدود»، ونتيجة انعقاد توازن كارثي على توازن كارثي آخر.
التوازن الكارثي اللبناني هو بين فريقين احدهما متغلب بالسلاح والعنف على الآخر دون أن يهيمن ويحسم الأمور لصالحه بتغيبه. التوازن الكارثي السوري هو بين نظام فشل في قمع ثورة، وثورة فشلت في الاطاحة بنظام. التوازن الكارثي اللبناني محتبس دموياً إلى حد بعيد، في حين ان نظيره السوري تفجيري دموياً للمجتمع. عطف التوازنين الكارثيين على بعضهما البعض يولّد بدوره التوازن الكارثي بين لبنان وسوريا، الذي يتمثل عنصره البشري الأساسي باللجوء الديموغرافي، في حين يتمثل عنصره الاحترابي الأساسي بخوض «حزب الله» غمار الحرب السورية.
اللاجئون هم «نازحون» لكنهم أيضاً «مهاجرون»، بالمدلول الاحيائي لثنائية «المهاجرون والأنصار» في مدينة الرسول، هذا المدلول المستعاد في التجربتين العثمانية المتأخرة ثم الباكستانية. في الفترة العثمانية المتأخرة، «المهاجرون» هم المسلمون المهجرون من القوقاز والبلقان إلى الأناضول والمنحسر السلطاني، ودمجوا بهذه الصفة في المجتمع القومي التركي لاحقاً. في باكستان، «المهاجرون» هم المهجرون من ولايات شبه القارة التي صارت الهند الحديثة، وشكلت هذه صفة اجتماعية اثنية لهم، وسمة جزئية لطبيعة باكستان نفسها كـ»دولة مهاجرة».
ما علاقة هذا بوجود اللاجئ السوري في لبنان؟ مع هذا اللجوء، ولأول مرة منذ قيام لبنان الكبير، صارت الأكثرية الساحقة من القاطنين فيه من لون ديني مذهبي معين، هو اللون السني، باضافة «المهاجرين» الفلسطينيين والسوريين إلى «الأنصار» من السنّة اللبنانيين.
هذا يولّد هواجس أهلية لبنانية عديدة، تزيدها ضراوة واحتقاناً عملية تنحيتها عن جادة التناول السياسي الصريح. لكن أيضاً لا وجاهة لأي تناول للأرقام يعاملها على أنها «الأرقام النهائية» أو «نهاية التاريخ».
لو سيطرت «داعش والنصرة» في مجرى الصراع على سوريا، وأحكم «حزب الله» قبضته على لبنان سنرى انقلاباً ديموغرافياً مدهشاً في الاتجاه المعاكس: علويون ومسيحيون ودروز من سوريا إلى لبنان، وسنة باتجاه الداخل السوري. في نهاية الأمر، ما يكابده لبنان هو المعطى الثانوي المتفرع من معطى أساسي: المحاولة المستميتة والمستحيلة من جانب النظام السوري و«حزب الله»، لتعديل حجم الأكثرية الديموغرافية المحددة أو المؤطرة في الوقت الحالي بتشخيص اثني – مذهبي في سوريا. بالتوازي، وكما في كل مرة تستعاد فيها ثنائية «مهاجرون وأنصار»، تطرح فيها وطأة المهاجرين على الأنصار: في وقت، تساور الهواجس، المسيحيين والشيعة، من انتفاخة العدد السني، فإن المناطق السنية من لبنان هي التي تتحمل الوزر الأكبر من وطأة اللجوء وفاتورته الاجتماعية والاقتصادية، وأثره على التشكيلات الأهلية.
وجوه لبنانية مستعارة تعطى للاجئين السوريين حالما يعبرون. منها النظرة إلى اكثريتهم، كـ»سنة»، كجيش احتياطي لـ»سنّة لبنان». ومنها عدم النظر اليهم جميعاً كـ»سوريين». السوري المسيحي مثلاً يمكن أن يشار اليه كـ»حلبي» أو من «باب توما» أو غير ذلك من طرائق التشديد على أنه مسيحي أولاً، والعلوي على أنه علوي أولاً، والدرزي والكردي، والسني الدمشقي البرجوازي على أنه ابن عائلته وجاهه أولاً، وهكذا. لاجئون بوجوه: بشرط أن تكون الوجوه فسيفسائية. في المقابل «السوريون» بشكل عام وبلا تخصيص وفرز هم ناقص هؤلاء. إنهم «البلا وجوه».
نحن أمام مجتمع لاجئ إلى مجتمع ثاني، لكنه إلى حد كبير مجتمع «سري»، مجتمع «البلا وجوه»، المتهمين لأنهم كذلك، بأنهم يخفون أكثر من «وجه»… وفي البال اوركسترا «مكافحة الإرهاب».
ثمة دور كبير لأجهزة الدولة الأمنية في رعاية عملية لبس أو خلع هذه الوجوه. خطورة اختزال المعالجة في «الأمني» دون السياسي، لا تعني أن «الأمني» يفتقد الآن إلى سياسته. الدولة اللبنانية، رغم كل انشطار ينخرها، وفراغ وشغور، وقتال اكبر حزب لبناني في سوريا ضارباً عرض الحائط بسيادتها وحدودها، إلا انها دولة موجودة، تتأكد موجوديتها، بـ«اجماع أمني» حيال المجتمع السوري اللاجئ في لبنان. من مظاهره ان ملف اللجوء، رغم كل ما يشيعه من هواجس وبلبلة وهلع، او بسبب كل ذلك، لم يقفز ولا مرة ليصبح الموضوع الاول، او الخبر الاول، منذ بدء الثورة السورية والى اليوم. هناك انفعالية لبنانية تجاه هذا الملف، صحيح. لكن هناك تحسبا لبنانيا ايضاً، بسبب هذه الانفعالية نفسها، تحسب من الانقسام الداخلي على خلفية اللجوء.

٭ كاتب لبناني

وسام سعادة

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية