يعد اليوم المؤرخ التركي إيلبير أورتايلي واحدا من أهم المؤرخين الموجودين في تركيا، الساعين إلى كتابة تاريخ جديد للدولة العثمانية.
وقد صدرت له عدة دراسات في هذا الشأن، لكن معرفة المكتبة العربية بها جاءت متأخرة بعض الشيء، ونذكر منها رسالته للدكتوراه التي كتبها عام 1985 «الخلافة العثمانية: التحديث والحداثة في القرن التاسع عشر»، التي ترجمت في عام 2007 عن دار قدمس السورية.
كما تُرجم له في السنوات الأخيرة عدد من الكتب ضمن سلسلة إعادة اكتشاف العثمانيين، والتي هي عبارة عن تجميع للمقالات والمحاضرات التي قدمها في محور التاريخ العثماني عبر وسائل الاتصال والتواصل المتنوعة.
وفي رأينا فإن أورتايلي في رسالته للدكتوراه سالفة الذكر، التي حاول من خلالها قراءة واقع النخب البيروقراطية الجديدة للسلطنة بعد فترة التنظيمات العثمانية 1839، أبدى تأثرا واضحا (آنذاك) بإستاذه عالم العثمانيات المعروف خليل إينالجيك وبتقسيماته للحقب العثمانية، حيث كان يرى –إينالجيك– في مرحلة السبعينيات من القرن المنصرم بأنه مع نهاية القرن السادس عشر كان التاريخ العثماني مجرد وقائع واشكال من الحكم والعلوم الدينية، التي عفا عليها الزمن.
لكن سرعان ما أعاد إينالجيك النظر بهذه الرؤية من خلال إشرافه وإصداره لعدد من المجلدات، التي عمل من خلالها على إعادة تقميش جديدة للوثائق المسكوت عنها في سجلات المحاكم الشرعية، المتعلقة بالمعطيات الاجتماعية والعمرانية لتاريخ الولايات العثمانية في القرون اللاحقة للقرن السادس عشر.
وربما هذا ما شهده الخطاب التاريخي لأورتايلي من تحولات معرفية، فقد تأثر في بداية مشواره البحثي بدراسة واقع الحداثة العثمانية في القرن التاسع عشر، لكنه في كتبه اللاحقة بدا منشغلا بإعادة قراءة التاريخ العثماني من جديد، عبر العودة إلى اكتشاف عالم منطقة البحر المتوسط مع توسع الإمبراطورية العثمانية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، خاصة أن أورتايلي يعتقد أن أي فهم لتاريخ العثمانيين وهويتهم لن يكون دقيقا من دون فهم تاريخ كل المكونات التي تتشكل منها الإمبراطورية العثمانية، وكذلك فهم هويتها ومعرفتها.
وهنا يقصد تاريخ الحضارات التي مرت على منطقة الشرق الأوسط.
العثمانيون والبحر المتوسط:
وضمن هذا السياق، يرى أورتايلي في كتابه «العثمانيون في ثلاث قارات» الدار العربية للعلوم، ترجمة عبد القادر عبد اللي، أن الإمبراطورية العثمانية كانت آخر الإمبراطوريات المؤسسة في عالم البحر المتوسط، وهي امبراطورية احتضنت كل ثقافات هذا المتوسط مع إرثه التاريخي، ونقلتها إلى العالم.
ولذلك فإن وظيفة هذه الإمبراطورية على المستوى التاريخي كانت تكمن في كونها امبراطورية متوسطية.
وبناء على ذلك، فقد شكل الأتراك الصفحة الأخيرة من حضارة البحر المتوسط.
وما أنجزوه في الأساس هو إعادة الوحدة مع الشرق.
وهذا ما حدث بعد العصرين الأموي والعباسي، خاصة بعد حملة السلطان سليم الجبار إلى مصر.
وانخفاض تأثير الجمهوريات الإيطالية في هذه المنطقة، التي كانت بداية مزلزلة بالنسبة لإيطاليا، ما سمح لشرق المتوسط أن يدخل من جديد في بيئة تعيد له التوحد، وهو ما استمر الحال عليه حتى القرن الثامن عشر، لحظة تأسيس الحضارة الصناعية في الغرب، وفرض نفوذها على البحر المتوسط بقوة البخار الذي اكتشفته.
من هنا، يعتقد أورتايلي أنه عند تناول تاريخ الفن والعمارة في تركيا اليوم، فلا شك أن هذا النقاش يولد جدلا وتباينات عديدة، بيد أن الحقيقة التي لا بد من قبولها هي أن مرحلة المعماري سنان (التي عادة ما يتغنى بها الأتراك على المستوى العثماني والعالمي)، لا توضع عادة من قبل العديد من المؤرخين ضمن الظروف الاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي عاشها المعمار سنان وتلامذته.
ففي القرن السادس عشر (زمن العصر الذهبي للعمارة العثمانية) كانت الامبراطورية العثمانية قد غدت شرق أوسطية إلى جانب كونها امبراطورية بلقانية.
حتى أن خصوصية البلقانية التي اكتسبتها وحافظت عليها على مدى قرنين بدأت بالذوبان داخل الخصوصية الأخرى.
حينها بدأ العثمانيون بالتحول عن وعي من امبراطورية بلقانية اكتسبت خصوصيتها عبر سيرورة تاريخية وعلاقات ثقافية طبييعية على مدى قرنين من الزمن إلى نموذج امبراطورية شرق أوسطية ـ إسلامية.
كما كانت دول الإمبراطورية وشعوبها تستمر بوجودها محافظة على تنوعها المذهبي والعرقي.
فكل طائفة دينية تعيش من أجل نفسها، وفي داخل محيطها، بالإضافة لذلك كانت هناك قوانين أرض وأعراف مختلفة لكل ولاية.
ورغم أن أجداد الأتراك المسلمين بحسب – أورتايلي- كانوا قد عرفوا كلمة «تُرك» واستخدموها أحيانا، إلا أنهم أطلقوا على أنفسهم بشكل رسمي صفة «روم»، لأنهم نظروا لذواتهم بوصفها وريثة امبراطورية الروم، رغم كونهم مسلمين، خاصة أن أعمال الكنيسة استمرت بسلاسة عندما آلت حمايتها إليهم، حيث قام السلطان محمد الفاتح بدعوة البطريرك غيناديوس عام 1453 وتسلميه الصولجان من الحاكم.
وبعد الغداء معه أهداه خيولا رمادية ترمز إلى الهيمنة.
وقد تقبلت الكنيسة الإمبراطورية العيش داخل الإمبراطورية، على الرغم من خلفيتها الدينية الإسلامية.
ولذلك يعتقد أورتايلي أن امبراطورية الأتراك كانت امبراطورية المسلمين ولكنها في الآن نفسه كانت امبراطورية رومية، رغم أنه من الصعب جدا فهم روما هنا، لأن مفهومنا للتاريخ اليوم، ومفهومنا الشعبي يجعلاننا لا نفهم ما هي امبراطورية الروم.
إنها لا تعني الإمبراطورية المسيحية فقط.
لقد كانت في بعض الأزمان مسيحية، وكانت وثنية، كما كانت مسلمة أيضا.
وكما كان للروم في زمن ما لغة قومية، وهيمنت عليهم قومية معينة. كانت هناك لغات أخرى تعيش إلى جانبها.
ولا شك أن اللغة العسكرية في الإمبراطورية كانت واحدة دائما.
كان الجيش في روما الأولى يستخدم دائما لغة واحدة هي اللاتينية على حدود بلاد الرافدين أو على حدود ألمانيا الباردة البعيدة.
وفي فترة روما الثانية، كان الجيش يتحدث اللغة الهيلينية في مصر أو البلقان أو خراسان.
وفي عهد العثمانيين، أي روما الثالثة، كان الجيش على ضفاف طونا أو الفرات ودجلة يتحدث اللغة التركية، لأن لغة القيادة العسكرية مهمة جدا.
غير هذا، تستخدم البيروقراطية لغة واحدة أيضا، ولكن هناك لغات أخرى إلى جانبها.
العثمانيون والعمارة المتوسطية:
من جانب آخر، يرى أورتايلي أن الإمبراطورية كانت كبيرة، لكن مع ذلك لم تكن غنية كسائر امبراطوريات العصر الجديد.
كما أن مصادر الغنى في الإمبراطورية، والطبقات المستفيدة من هذا الغنى، وطريقة استخدام هذا الغنى وانعكاسه على الحياة اليومية مختلفة جدا عما كانت عليه الإمبراطوريات المعاصرة.
ففي أوروبا مثلا، نجد أن تجارها ازدادوا غنى في ذلك العالم، وحصلوا على إدارة المدن، وأقرضوا خزينة الإمبراطورية الخاوية نتيجية الإفلاس، وأثروا على إدارة الدولة.
كما أن أسلوب الحياة ونظام المدينة والذوق الفني والعمارة، كلها كانت تناسب ذوق البرجوازية الصاعدة.
في حين نجد أنه لم يكن أي من التجار أو أصحاب المهن العثمانية في وضع يمكنه من التأثير على مستوى استهلاك الامبراطورية، وثقافتها، وأسلوب حياتها.
كان دخل سيد السنجق في بدايات القرن السادس عشر 12000 ذهبية، ووجدت في تركة أغنى تجار البورصة 4000 ذهبية.
لم يظهر الغنى والحياة البراقة في الإمبراطورية العظمى كما في المجتمع الأوروبي فقد كانت بيوت الباشوات والسادة سيئة جدا.
ليس ثمة فخامة في الأبنية، والقانون لا يسمح ببناء بيوت مترفة وقصور، حتى أن البيت السيئ يكلف 1000 ذهبية.
بالإضافة لذلك، داخل المجتمع العثماني غالبا ما يحدد ارتفاع البيت والمساحة التي يتم إنشاؤها بقوانين صارمة.
لا يعمل المهندسون المعماريون في بناء البيوت المترفة والحدائق والنزل الخاصة.
وكبير المعماريين مكلف بقمع تراخيص إنشاء البيوت بارتفاعات أكثر أو مساحة أوسع، وبإصدار أوامر بهدم البيوت التي تنشأ أوسع من الترخيص الممنوح بقليل.
كما كان المعماري العثماني من الناحية الهيكلية التنظيمية الوظيفية بيروقراطيا وخبيرا، وعضوا في طبقة الإداريين.
من المهام التي يتولاها المعماري تحديد منشآت البنية التحتية للمدينة، ومستوى تقنية المواصلات، وتنظيم المكان المعتمد على الفعاليات الاقتصادية، وتحديد لوازم البناء وعدد العمال والمهنيين، وتوزيعهم حسب المناطق، وتحديد الأمكنة التي تسكن فيها جماعات الأقليات، ومراقبة الأبنية المختلفة في تلك المناطق.
كما كان للمعماري في الهيكلية العثمانية الكلاسيكة دور ولقب عسكري.
ينشأ المعماري في الثكنة العسكرية (الجيش النظامي).
ويسمى «المعماري الخاص»، ويسمى قائدهم كبير المعماريين الخاص.
كانت مهمة المعماري في حملات الإمبراطورية العثمانية من الدانوب إلى الفرات، ومن أوكرانيا إلى صحراء أفريقيا في عصر القانوني إصلاح الطرق وسواقي جر المياه، أو إنشائها، وبناء الجسور، وتفتيش أمكنة الإقامة.
ولذلك لم يتمكن أحد من معرفة مهنة البناء وفنونها عن قرب في القارات الثلاث، بقدر ما سنحت الفرصة للمعماري في تلك الفترة، كما أن معظم المهنيين الذي ساعدوا المعماري من حجارين ونجارين وزجاجين ودهانين كانوا ينتمون إلى أديان وقوميات مختلفة أبدعت ثقافة المدن عبر خمسة آلاف سنة في الشرق الأوسط والبلقان.
ولذلك يعتقد أورتايلي أنه من الطبيعي أن ينشأ سنان في وسط كذاك الوسط ويؤسس مدرسة فنية كتلك.
فهو انكشاري، ومكان ولادته مجهول، وقد تابع طلابه اتباع أسلوبه في القرن السابع عشر، ثم ذاب، لأن العالم العثماني في القرن الثامن عشر لم يعد واسعا وملونا كما في القرن السادس عشر.
لم يكن معماري القرن الثامن عشر يعرف عالما واسعا كما كان زملاؤه في بيروت الانكشارية قبل قرن أو قرنين.
لم يعد الإداريون والفنانون والشعب يشعرون بحاجة لعمارة امبراطورية، بل صاورا يحتاجون لعمارة تلبي الباروك العثماني في اسطنبول إشارة لولادة نموذج معماري لعصر جديد.
باحث سوري
محمد تركي الربيعو