في سنة 1959 أصدرت منشورات مجلة «شعر» مجموعة شعرية أولى بعنوان «حزن في ضوء القمر»، لشاعر سوري شاب اسمه محمد الماغوط. كان في الخامسة والعشرين، مغموراً نسبياً بالقياس إلى «نجوم» المجلة و»أهل السلطة» فيها، حسب تعبير رياض الريس. نصّ الإعلان التجاري الترويجي لهذه المجموعة، والذي واظبت المجلة على نشره باعتبارها الناشر، جاء فيه: «هذه أوّل مجموعة تظهر لهذا الشاعر الفذّ الذي أوجد لنفسه طريقة جديدة في الأداء الشعري، فصادفت عند الشعراء تحبيذاً وعند القرّاء ترحيباً وحماساً. إنه وجه طالع مشرق في هذه المرحلة من نهوض الشعر العربي». في المقابل، لم يكن «الأداء» الشعري هو الخصيصة التي توقف عندها التحرير في إطراء مجموعات شعرية أخرى صدرت عن الدار ذاتها، واعتمدت أيضاً شكل قصيدة النثر. الأمر الذي كان بمثابة إقرار مبكّر بأنّ للماغوط أسلوبيته المنفردة المميّزة، ذات الصلة بما يتولاه النصّ الشعري، وليس الشكل وحده، من وظائف أدائية. يُراد بها أساساً تلك العلاقة الإشكالية مع شرائح القراءة العريضة ـ والتي كانت شبه غائبة، وربما غير مولودة بعدُ، أو متعسرة الولادة ـ بين قصيدة النثر والقارىء العريض.
هذه الواقعة، وسواها كثير في الواقع، كانت علامة بيّنة على المكانة الرفيعة التي حظيت بها قصيدة الماغوط منذ أطوارها الأبكر. ليس في صفّ شعراء قصيدة النثر إجمالاً، وحركة مجلة «شعر» بصفة خاصة، فحسب، بل كذلك، وهو الأهمّ والجوهري، على صعيد الذائقة العامّة، في تلك المراحل الحافلة بالتعطّش إلى التجديد، وبالتبدّلات القلقة في الحساسيات والأساليب والموضوعات والأشكال، وبالصعود الخاطف مثل الأفول السريع لحداثات متلاطمة متصارعة، بعضها أصيل ومعظمها زائف. بيد أنه توفّرت مواقف أخرى، داخل صفّ «شعر» تحديداً، وضعت قصيدة الماغوط ضمن سلسلة من الإشكاليات التعبيرية واللغوية والجمالية، وحتى الفكرية، الثقافية، التي تدنيها، في قليل أو كثير، عن سوية القصائد التي كان يكتبها «النجوم»، أمثال أدونيس والحاج والخال، فضلاً عن توفيق صايغ وجبرا ابراهيم جبرا وشوقي أبي شقرا وفؤاد رفقة…
وعلى سبيل المثال، في عام 1959 وعلى صفحات مجلة «شعر» اللبنانية دون سواها، كانت خزامى صبري (التي سيتضح، فيما بعد، أنها الاسم المستعار للناقدة السورية خالدة سعيد)، قد كتبت مراجعة لمجموعة الماغوط «حزن في ضوء القمر». وتلك وثيقة تظلّ ذا مغزى اليوم أيضاً، ليس لأنّ صبري/ سعيد كانت سبّاقة إلى استكشاف النصّ الماغوطي وتسجيل إشارات نقدية مبكرة ولامعة تماماً حول خصائص شعره، فحسب، بل، كذلك، لأنّها امتدحت فيه كلّ خصيصة… ما عدا الشعرية! وبعد أن اعتبرت «هذا النثر الشعري شعراً»، استقرّت دون إبطاء على أنّ قصيدة الماغوط «عقد من الصور، ولو أنها غير مرتبة وفق اتجاه أو تسلسل معين»، وأنّ «الصورة قوام التعبير الشعري عند محمد الماغوط، وتكاد تكون الوسيلة الوحيدة لولا لمحات من الأصوات الداخلية في قصيدة أو قصيدتين من المجموعة»، وأنّ الشاعر «يعرف جيداً من أين يغرف مادة صورته (أو لعله لا يعرف)»، وأنّ «صوره لا تكشف غالباً عن علائق جديدة تتخطى العلائق الشكلية»، وهي «تبقى باردة» لأنها إنما «تنقل الواقع أو العلاقات الحسية المنطقية»…
كذلك فإنّ الصورة الماغوطية هذه «مسطحة لا عمق لها، لأنّ العمق أو البعد الثالث في الصورة ينبع من العلاقة المعنوية التي توحي بما هو أبعد من الأشكال المحسوسة التي تمرّ في خيال القارىء ساحبة وراءها نهراً من الرؤى والخواطر والمواقف». وتضيف صبري/سعيد، في ما يشبه تجريد الماغوط من صفة الشاعر، بعد منحه صفة المصوّر السطحي: «ولو كان محمد الماغوط متمكناً من فنّ الشعر لاستفاد كثيراً وحوّل هذا التخلخل إلى أسلوب خاصّ»، ثمّ تذهب أبعد فتقول: «إنّ شعر الماغوط يفتقر إلى الحركة الداخلية، لأنّ الصوت في القصيدة يكاد يقتصر على النداءات والأوصاف. الانفعالات في القصيدة تتموّج تموّجاً خفيفاً يكاد لا يبدو، مما يضفي عليها صفة الرتابة والتكرار، لأنه مهما كان الانفعال متوتراً عالياً سينتهي في نفس القارىء إلى البرود إذا لم يتموّج بعنف مماثل».
صحيح أنّ الزمن، والتطوّرات الكبرى في النظرية النقدية حول البنية الشعورية للصورة الشعرية والصوت والهوية والحركة الداخلية في القصيدة، قد تكفّلت بتصويب أحكام صبري/ سعيد، القاسية المغلوطة تلك. إلا أنّ عدداً من السمات التي اعتبرتها الناقدة بين مثالب النصّ الشعري الماغوطي كانت للمفارقة! ـتتصدّر الأسباب التي أكسبت شعره كلّ تلك الشعبية في تلك الحقبة. إنها، أيضاً، اعتبارات سوسيولوجية قرائية، جعلته شاعر مجموعة «شعر» الذي حظي بمقدار الإجماع الأعلى على شعريته الفريدة، وبدرجة الاستقبال الأفضل عند القارىء العادي والقارىء النخبوي معاً، وبانتشار كان الأوسع خارج الدائرة الشامية، اللبنانية، السورية.
إلى هذا، من المعروف أنّ الماغوط انسحب من مجلة «شعر»، أواخر العام 1961، بل شنّ على المجموعة هجوماً عنيفاً، ذا مضمون جمالي وسياسي في آن معاً، بلغ حدّ التنازل الطوعي عن أية ميّزات شعرية منحتها له المجلة أو شعراؤها. لكنّ هذه العلاقة، في وجهتَيْ التوقير والتصغير معاً، كانت محطة كبرى، ونوعية، في حياة شاعر كبير. مرّت، يوم أمس، ذكرى رحيله العاشرة.
صبحي حديدي
كل الشكر للكاتب المرموق صبحي حديدي على هذه اللفتة والتذكرة الدائمة في موعدها برجل قارع الزمن الأسود حوله بأبجدية بيضاء، هكذا نزف الماغوط أخر قطرة دمع عصرها قلبه على واقع الأمة الأليم ، لنذرف نحن الدموع دماً في 3 نيسان 2006 بقي الحزن في ليل طويل لا ينتهي ، بلا ضوء .. وبلا قمر
الغائب محمد الماغوط كان خيرَ مثال للكاتب الحق في مسيرته الإبداعية كلِّها، الكاتب الذي يُؤْثِر الكتابة على المجد العابر أينما حلَّ، والذي لا يقف إلا إلى جانب الحقِّ مهما كلَّفه هذا الوقوف، والذي لا تعني له الأنساب أو الأسباط أيَّ شيءٍ على الإطلاق.
صحيح أنّ الغائب محمد الماغوط لم يستطع أن يبني «سلطة الكاتب»، حينما كان «أهل السلطة» من شلَّة «شعر» يتشبَّثون بأذيالها كما يتشبَّثُ الغريقُ بِقَشَّةٍ. إلا أنه، على الأقلِّ، لم يترضَّ لجحيم النظام الأسدي المافيوي الطائفي المجرم، كما ترضَّى له أدونيس في الكثير من مواقفه القديمة والحديثة، وفي الكثير من قصائده التي وصفها البعض بصفتي «تخريج المعنى» و«بُعْد المأتى»!!!
رحم الله من يكفيه فخرًا وشرفًا أنه انسحب من شلة «شعر» في اللحظة الحاسمة، وأنه شنّ على هذه الشلَّة هجومًا عنيفًا نابعًا من التزامه بشرف الكلمة، وإلى حدِّ التخلِّي عن أية ميّزة أو ميّزاتٍ «شعرية» منحتها له هذه الشلَّة.
“توقير وتصغير”، عبارتان متناقضتان، هما أفضل تصوير لما هي عليه حال الشعر ونقدته في نهاية الخمسينات من القرن الماضي.النقد تفاجأ بموهبة محمد الماغوط التي لم تكن في حسبانه الذي أصبح بجانب أمراء قصيدة النثر. فمجلة “شعر”- بلا أل تعريف، ربما كانت تقف موازية لمجلة ” الشعر” المهندمة بأل تعريف، فكيف لا تتبنى بدورها قصائد من نوع محمد الماغوط ؟ تدخل الناقدة صبري سعيد لتحديد مآل شعر الماغوط يبدو نوعاً من تصفية حساب بالنسبة لشاعر شاب، إذ حاولت تجريده من”شعرية”، وهو مصطلح آنذاك لايزال مطاطياً لم يستقر بعد. لعل ذلك هو ما جعل محمد الماغوط ينسحب من مجلة شعر ليتهد داخل صفحاتها الخالدة كل ما بنته القرائح الشعرية، وتخمد أنفاسها بدورها.
المغرب : محمد الإحسايني كاتب روائي