رأيته من بعيد، فأبطأت مشيتي وعرجت تجاهه لأسلّم عليه كما أفعل غالباً منذ عرفته وهو في سلك التدريس، وعادة ما نتبادل كلمات فيها بعض السخرية من الأوضاع الاجتماعية والسياسية ثم ننصرف كلٌ في سبيله، ما إن نطق حتى انتبهت أن فمه فارغ من الأسنان فقلت: تبدو هزيلاً وهرماً بسبب هذا الفراغ في فمك..
– أعرف..
– إذن هل ستُركّب وجبة أم ستزرع أضراساً.
– لا هذه ولا تلك، لا حاجة لي بها…
– بل أسرع وركّبها، فالتأخير قد يضر كثيراً..
– لا لا، خلص أنا مقتنع بقسمتي، أريد أن أعيش بقية عمري بلا أسنان..
– يا رجل، هناك منافسة شديدة بين أطباء الأسنان لكثرتهم، والأسعار انخفضت كم ستكلفك يعني!
– هذا هو السؤال كم ستكلفني…!
– هل تقصد أنك غير قادر! ما أعرفه أن رواتب المعلمين المتقاعدين منتظمة ولا بأس بها..
– كان هذا قبل النكسة!
– أي نكسة لا سمح الله؟
– قبل أن يورطني المحترم..
– المحترم مين!
– يعني من يمكن أن يورطك ويسبب لك نكسات وهزائم وبهدلات غير ابنك..
– ابنك مين..مُؤيّد!
– أي مُؤيد…خطيئة عمري، أتمنى من قلبي أن يسُجن مؤبداً ويريحني ويريح الناس..
– كيف ورّطك، أعرف أنه يعمل دهاناً..
– ليته بقي عاملاً بسيطاً، كنا نعيش بهدوء وسلام حتى قرر أن يصبح مقاولاً…
– مقاول ماذا؟
– تجديد البيوت وترميمها وترتيب حدائق وبناء جدران..
– يعني جرّب حظه…
– بل جرب قتلي، بسببه حُجزت سيارتي ورخصة قيادتي وحسابي البنكي وراتبي التقاعدي، كل حياتي صارت حجوزات، يخرج واحد ليدخل آخر مطالباً بدين أو بعمل لم ينجز، هذا عدا عن الشرطة ورسائل التحذير والتهديدات وأوامر الدفع وحضور المحاكم، أنا ممنوع من مغادرة البلاد، ولا أستطيع فعل شيء، منذ عامين لم أر قرشاً في جيبي…
– كل هذا بسبب مؤيد المحترم؟
– خدعني وضحك عليّ ودمّرني ومرمغني بالأرض، جعلني أكفله في البنك وأخذ قروضاً على حساب راتبي، طبع دفاتر شيكات باسمي ووزعها من رأس الناقورة إلى الضفة الغربية وحتى إيلات، واقترض من بعض الناس مستغلاً اسمي، قوات الهدم أهون منه..
– المهم إياك والتورط في قروض من السوق السوداء، هؤلاء ليس لهم رب يعبدونه…
– ومن قال إنه لم يورطني معهم! أحقاً لم تسمع أنهم أطلقوا النار على بيتي، وألقوا قنبلة صوتية…
– عليك أنت؟
– لكان على مين!
– هؤلاء مجرمون وأخرجوا أناساً من بيوتهم..
– نعم حاولوا الحجز على بيتي وبيعه لتحصيل ديونهم والفوائد وفوائد الفوائد، لحسن الحظ أن قسيمة البناء ليست باسمي لوحدي بل لي شركاء فيها هم أخوتي…
– أنا متفاجئ كيف لم أسمع بهذا، فقد التقينا كثيراً ولم تحدثني!
– لا لم أحمل مكبر صوت لأحدث الناس بهذه الخزايا..
– المهم كيف الوضع الآن!
– هل سمعت بجناح الغراب الأسحم!
– أي سمعت..
– ورغم هذا رأيت وجهاً آخر للناس!
– كيف!
– فوجئت من كثرة أهل الخير في بلدنا…
– تمزح؟
– لا والله لا أمزح، أناس لا علاقة لي بهم، يطرق أحدهم بابي وفي يده مغلف يلقيه عليّ رغماً عني وينصرف، البعض جمعوا الأموال من فاعلي خير وسددوا الدائنين واحداً واحداً، حتى السوق السوداء سددوها، الحمد لله أخيراً عدت لأتنفس الصعداء، بفضل الناس الطيبين.
– كل هذا ولم أدر به!
– الحمد لله مرّت الأزمة، لم يبق منها سوى شظايا وندوب صغيرة.
قلت مبتسماً: ورغم كل هذا لا تنس أسنانك.
تركته ومضيت مستغرباً كيف مر بكل هذه الأهوال من دون أن أنتبه رغم وقفاتنا الكثيرة العابرة في الطريق وفي المناسبات العامة، يا إلهي، كم من الناس يعيشون بيننا ولا نشعر بمعاناتهم، أو قد نشعر بها متأخرين..
الله يرضى عليك يا ابني..
في مكان آخر ومناسبة أخرى حدثني صديق قديم فقال: هل تذكر كم قلت لك عن ابني أسامة بأنه بخيل وأناني ولا يحب سوى نفسه ومصلحته!
– صحيح!
– لقد أخطأتُ بحقّه..
– أها..هذا خبر سار..ما الجديد عنده، هل صار يملأ لك خزان وقود سيارتك؟
– لا أبداً، ومحسوبك لا ينتظر هذا منه أو من غيره، قبل أيام التقيت صدفة بأحدهم، ما لبث أن راح يهنئني ويقول..الله يخلي لك إياه، الله يزيده ويعطيه، الله يجعلها في ميزان حسناته، ابنك يده مفتوحة، شهم وكريم…
استغربت – ابني أنا!؟
قال لي – نعم ابنك أنت..
في الحقيقة أنا لم أر منه كرماً وسخاءً، يعني هو أقل من عادي، وسألت الرجل: ليش، خير شو السيرة، كيف عرفت أنه كريم وسخي!
فقال: قبل أشهر قليلة غرق أحد الناس المحترمين من البلدة في الديون بسبب مغامرات واستهتار ابنه، عملنا مجموعة من الشبان لإنقاذه، فقد عاش تحت تهديد عصابة من السوق السوداء، وصل الأمر بهذا الإنسان أن فكر في الانتحار، توجهنا لبعض الطيبين ومنهم ابنك، فتحمس وسدد أكثر من ألفي دولار عن الرجل!
– ابني أنا؟
نعم ابنك أنت..كل احترام على هذه التربية..
في الحقيقة شككت أنه غلطان فسألته مرة أخرى: ولك ابني أنا… مِش تكون غلطان؟
صار الرجل يضحك، وقال: كأنك غير مصدق، يا زلمة ابنك أسامة..ألم يُخبرك!
– لا لم يخبرني بشيء من هذا، وبصراحة أنا مندهش فقد حسبته بخيلاً حتى اللحظة.
– أسامة بخيل! إذًا فأنت لا تعرفه، بارك الله فيه، يا سيدي وهذه لم تكن المرة الوحيدة، فقد ساعد أسرة أخرى تضرر بيتها في الشتاء الأخير، إنه مع مجموعة فاعلي خير على الواتس أب.
أدهشني ما سمعته عن ابني أسامة، ولا تتصور فخري واعتزازي به، المهم أنه فعل هذا حتى من دون أن يخبرني..
حينئذ قلت له: يبدو أنه خشي بأن تمنعه، لأنك أنت البخيل وليس هو..
– بصراحة وحسب ما سمعت، نعم إنه أكرم مني، لقد كبر بعيني كثيراً، صرت أرى فيه رجلا آخر، وصرت أشعر بارتياح في التعامل معه، الله يرضى عليك ويوفقك يا أسامة..
سهيل كيوان
دائماً وفي طيات مقالاتك نلامس واقع بكل حذافيره بوركت كاتبنا …
في كتابه العزيز ذكر الله عز وجل ان (المال والبنون زينة الحياة الدنيا ) فسبحان الله احياناً تنقلب الآية في حياتنا فيصبح المال والبنون من مآسي الدنيا لقوله تعالى ( ان من اولادكم عدواً لكم فاحذروهم ) مآسي يتجرع مرارتها الآباء وخصوصاً أولائك الذين يجنون شُح تربيتهم في نشأة بنيهم وكذالك شُح أموالهم حين لا يتحكمون في زمام أمورها وخاصة فياعمال غير مشروعه
يمكن ان ينقلب المال على صاحبه والابن على ابيه ومجتمعه ايضا فيصبح كمرض خبيث آخر يصيب النفس لقوله تعالى(ومن يوق شح نفسه فأولائك هم المفلحون )ففي التربية الصالحه نشأة صالحه وحصانة تهبنا الابن البار وتكفينا العاق و شر الأمور
مقالك يطرح فكرا موضوعيا بطريقة سلسة ومشوقه مستمدة من واقعنا الصعب الذي نعيشه ، ناقشت اولا فكرة عقوق الوالدين وكيف يمكن لابن ان يسبب التعاسة لابيه ويورطه في مشاكل لا حدود لها، ثانيا ما الذي يدفع بشخص لأن يعلق في شباك السوق السوداء وهنالك الكثيرون الذين وقعوا وأغلبهم من المتنورين حاملي الألقاب الجامعية ، ثالثا وهي الفكرة الأعمق كيف يمكن للأبناء ان يكونوا غير مفيدين لأهلهم نافعين للغرباء وهل العيب يكمن في طريقة تعاملنا نحن كآباء مع أبنائنا، هذا ينذرنا بأن للإنسان جوانب إيجابية يغفل عنها الآخرون، قصتك جعلتني اؤمن بقول د.ابراهيم الفقي
احياناً يغلق الله سبحانه وتعالى أمامنا باباً لكي يفتح لنا بابا آخر افضل منه، ولكن معظم الناس يضيع تركيزهم ووقتهم وطاقاتهم في النظر الى الباب الذي أغلق، بدلا من باب الأمل الذي انفتح أمامهم على مصراعيه.
فهنالك من ينظر الى نصف الكأس الفارغة وهنالك من ينظر الى نصف الكاس الممتلئة
أبدعت با استاذ سهيل