لو لم يهدر يوسف إدريس عمره بين النضال السياسي والسجون وحرق أعصابه من أجل قضايا خاسرة تراه بلغ القمة التي بلغها نجيب محفوظ؟
إن كان السؤال فيه نوع من الاستفزاز أو نوع من التجني على نجيب محفوظ وكلاهما اليوم في دنيا الحق، فإن من يقرأ تاريخ الرجلين يدرك أن يوسف إدريس سرقته الحياة من الكتابة أما نجيب محفوظ فقد سرقته الكتابة من الحياة.
عاش يوسف إدريس حياة طويلة عريضة ذاق فيها الحلو والمر بملء جسده وروحه وبقي نجيب محفوظ حبيس حارته وعاداته وروتين قاتل وكان مطيعا وهادئا لدرجة أنه وافق على منع نشر روايته «أولاد حارتنا» من دون مصارعة، ولو كان يوسف إدريس مكانه لنطح من طلب منه ذلك الطلب حتى لو كان الرئيس جمال عبد النّاصر نفسه.
اختلف الرجلان كثيرا في تركيبة شخصيتهما لدرجة غريبة، ولكنهما تقاطعا في مسيرتهما الأدبية وربما نغّصت تلك المقارنات بين أدبيهما على يوسف إدريس ولم يكترث نجيب محفوظ لها، ما دام لم يكترث حتى للشابين اللذين طعناه وحاولا قتله…
تذكرت الرجلين لأن ذكرى وفاة يوسف إدريس تحل علينا اليوم الأول من آب/أغسطس وذكرى محفوظ تحل في آخر الشهر نفسه في الثلاثين منه، وفي هذا ما يجعلهما ينهيان حياتيهما بقوسين أبديين لشهر حار مناخيا، وحار رمزيا أيضا إن جعلناه مناسبة للحديث عمّا كتباه خلال حياتيهما. فقد شرّح كلاهما المجتمع المصري ـ والعربي ـ سواء، تشريحا عميقا ما يجعلنا نرى الداء والدواء معا ونحن نقرأهما.
وأعتقد أن كل جيل جديد عليه أن يقرأ كليهما، ذلك أنهما أرّخا بصدق لمرحلة مهمة من تاريخ مصر المشابه لتاريخ بلدان عربية أخرى. ولا يسعني سوى أن أقول أن نجيب محفوظ ويوسف إدريس قائمتان متينتان للأدب العربي الحديث، لكن المثير فعلا هو أن نعرف كيف عاش الرجلان حياتيهما في تقاطعاتهما وتباعدهما.
لم يعش يوسف إدريس طويلا رغم أنه أصغر من نجيب محفوظ بـ 16 سنة، غادر باكرا وعمره 64 سنة، والغريب أن محفوظ عاش حتى تعبت عيناه وأنامله فما عاد قادرا على الكتابة مع أنه ضحى بالكثير من أجلها، خانه جسده فأحاله على التقاعد المؤلم وبقي متفرجا على تلك الحياة التي لم يغرف منها سوى القليل، إذ رحل عن عمر 94 سنة بفارق ثلاثين سنة بينه وبين إدريس، وهذه السنوات شهدت منعرجا خطيرا في تاريخ مصر المعاصر، ولكنها ربما لم تكن سوى سنوات إضافية في حياة محفوظ الذي قال كل شيء فيما كتبه قبل دخول تلك المرحلة المخيفة التي ظلّت فيها مصر تدور في دوامة لا مخرج لها.
هل كان سيحتمل يوسف إدريس تلك الدوامة ويعيش على طريقة محفوظ؟
النّظرية الأصدق هي أن لا إنسان يشبه الآخر في ردات الفعل، فلا يمكن توقع ما لا يمكن توقعه. لكن كل هذه الأسئلة والمقارنات حضرتني منذ عاد نجيب محفوظ إلى واجهة المكتبات بعد عرض المسلسل التلفزيوني «أفراح القبة» وتربعه على عرش ما عرض من دراما خلال موسم رمضان، ما جعل الرواية تستقطب جمهور القراء من جديد، كما جل أدب محفوظ، كما تساءلت ومنذ قرأت ما كتب عن البروفيسور عطية عامر أستاذ اللغة العربية في جامعة استكهولم على أنه من رشّح نجيب محفوظ لنوبل وما تبعه من تحليل ووجهات نظر. هل توقف اختيار محفوظ لنوبل على رأي أستاذ مصري واحد في استكهولم ؟ وعلى رضى الغرب على سياسة مصر آنذاك؟ هل هذا اختيار عادل؟ وهل إصرار عطية عامر على محفوظ كان بسبب ركض يوسف إدريس خلف الجائزة متوسلا عامر أن يرشحه ويدعمه، فيما محفوظ الذي يعيش في ملكوته الخاص ظل لامباليا وكأن الأمر لا يعنيه هو ما جعل حضوره أقوى؟ فإلى أي مدى يمكن لشخصية الكاتب أن تسيء إلى مسيرته الأدبية ومكافأته بالجوائز أو حرمانها منها؟ إذ يبدو جليا من خلال ما روي ويروى عن الرجلين أن «الكاركتير» هو سيد العلاقات في الأوساط كلها وهو ما يتوّج شخصا عن شخص، ويرفع البعض ويرمي بالبعض خارج المنافسات العلنية وغير العلنية.
لن نفهم أبدا متى تخدمنا العلاقة مع النظام ومتى تخدمنا معارضته. لن نفهم متى تخدمنا العلاقات مع من لهم سلطة ومتى تخدمنا العزلة..
لن نفهم تجاوب المجتمع معنا كمثقفين ومناضلين من أجله ومتى يتنكر لنا رغم انطفاء شمعة أحلى عمر لنا ونحن نضيء له الطريق.
يوسف إدريس كان فعّالا في مجتمعه أكثر من غيره، ناشطا ونشيطا وشاسع الثقافة والتجربة ومع هذا فشل حتى في أن ينال نصف بريق محفوظ.. صحيح إن جاز لنا أن نصف محفوظ بأنه رسم لوحة صادقة لمجتمعه كما يفعل رسام حين يجلس أمام منظر ما وينقله بحذافيره، صحيح أنه ابن مجتمعه لكن إدريس توفرّت فيه صفة الطبيب الذي حقن نفسه بالمصل وهو يخوض المعركة مع هذا المجتمع بكل أمراضه وعقده وحسناته وسيئاته. كان مصارعا قويا، ومقاتلا ضاريا، لكن على ما يبدو فإن الكتابة ليست بحاجة لكل هذا المتاع آنذاك..
حتى أن كتابا آخرين عبر العالم سجنوا وعذبوا جرّاء نشاطهم السياسي ونضالهم من أجل الحرية، ظل أدبهم حبيس قضبان أخرى فلم ينل من الشهرة ما ناله آخرون.
على سبيل المثال لا الحصر صاحب رواية «القوقعة» مصطفى خليفة كتب رواية مرعبة بتفصيلات يقف لها شعر الأبدان ومع هذا بقي اسمه شبه نكرة. مع أن قصة كتابته للرواية في حد ذاتها من أغرب ما حدث في عالم الأدب، وما كانت هوليوود مثلا ستترك هذه القصة تمر من أمامها، من دون أن تصورها في فيلم يهز العالم، لكن في عالمنا تلقي الكتابة بشباكها على الشخص سيئ الحظ وتدربه على كل أنواع الذل والانصياع… قد لن ينجو منها إلا وقد خيبت المجتمعات آماله وكسرته أوجاع قلبه وجسده.
ناظم حكمت عاش تلك التجربة المريرة ولا أدري هل هناك من يتذكر هذا الاسم اليوم وهل ما جناه من سجنه يستحق عناء معارضاته لنظامين؟
أطرح الأسئلة لا من باب التشاؤم ولا من باب الاعتراف بهزيمة الأدب حين ينافس السياسة. ولكنني أطرحها من باب آخر: ألا يستحق الأديب أو الشاعر أن تعاد قراءته بين فترة وأخرى، لأنه في خضم حياته قد يدخل في صراعات شخصية تحرم جيلا بأكمله من قراءته جيدا؟ فكما عتّم كثيرون على نجيب محفوظ لأسباب عديدة مع أنه شخص مسالم وهادئ فكيف كان الحال بالنسبة ليوسف إدريس؟
في استنتاج بسيط أعتقد أنه حورب أكثر من محفوظ وسيّج بطرق صعبة، وفتح جبهات على نفسه من كل الجهات، كما ظلم كثيرا خلال مسار خطه الأدبي والحياتي، لهذا أعتقد أن حياته كانت أكثر إثارة وأهمية، وأنه يستحق أن يلقى عليه مزيد من الضوء ويقرأ من جديد من دون حساسيات.
ألف رحمة تنزل عليك أيها المتمرد إلى أن يحين موعد عودتك وولادتك الثانية وعسى أن لا يطول ذلك.
٭ شاعرة وإعلامية من البحرين
بروين حبيب
* كلاهما عملاقان ف ( الأدب ) والأخلاق والرقي الانساني
( رحمة الله عليهما ) وشكرا.
سلام
مقاربة بين يوسف ادريس ونجيب محفوظ في شهر رحيلهما
شكرا أستاذة بروين حيب على روعة القلم
بل عاش الاستاذ نجيب حياة طويلة عريضة أستاذة بروين ،مليئة بالدراما والخبرة الاجتماعية الواسعة وراجعي مذكرات رجاء النقاش ..كذلك كتب اصداء السيرة الذاتية واحلام فترة النقاهة وهو فى التسعين وكان لديه ندوة بعدد ايام الاسبوع يتابع ويعرف وينا قش الى اخر لحظة فى حياته . كان لديه مشروع أدبي وخدم واشتغل على مشروعه بجدارة وقال عن نفسه انه ليس سياسيا عكس أدريس وقد كان الاستاذ نجيب يحبه ويحترمه للغاية و حزن للغاية لرحيله رغم السب اللفظى من ادريس للاستاذ نجيب يوم فاز بنوبل أدريس الذى انشغل بأشياء غير الادب واستهلكته السياسة والنساء والمعارك مع الزعماء السياسين من السادات و صدام الى القذافى الى مبارك وكانت اخر مقالاته بائسة للغاية ….تقدس العملاقان الاستاذ نجيب والاستاذ أدريس
جميل سيدتي أنْ تكتبي بشأن الأيام الجميلة لأعمدة الأدب العربيّ الحديث… فهو تقليد حميد ؛ وفيه من الوفاء الكثير.وبالوقت نفسه خصصت مجلة الهلال المصرية عددها لشهرآب ( أغسطس هذا ) للاحتفاء بأميرالرّواية العربية نجيب محفوظ وبأميرالقصّة القصيرة الدكتوريوسف إدريس.تحت عنوان : ( أضواء على إبداع رائد الرّواية وأميرالقصّة القصيرة ). وشاء الله أنْ يكرمني بلقاء الأثنين.الأول في حضرة حفل تكريم الدكتوريوسف إدريس حين كنت طالباً في الدراسة الجامعية ببغداد مع لفيف من الطلبة ( كان هذا من تقاليد طلبة الجامعات في بغداد الثمانينات والتسعينات ؛ بمشاركة الكثيرمنهم في الندوات والمؤتمرات الأدبية والعلمية والفنية ).وحضرت جانباً من حفل ذلك التكريم له بأكبرجائزة عراقية يومذاك…لجهوده المبدعة في خدمة الأدب العربيّ…وكانت بقيمة خمسين ألف دولارمع شهادة تقديرية ووسام صدر…وقتها قال رحمه الله : ( لأنّ بغداد أكبرالمدن ؛ قدّمت لي أكبرجائزة في حياتي ).لقد كنت منبهراً بقامته كنخلة صعيدية رغم أنه من مواليد محافظة الشرقية ؛ خصوصاً وقد قرأت له كتابه : الإرادة ؛ فرسمت بشأنه صورة المارد في جزيرة الدراويش.والثاني حين حضرت جانباً من جلسات نجيب محفوظ في فندق شبرد على ضاف النيل في القاهرة أثناء عملي الدبلوماسي…شكراً للدكتورة بروين حبيب على جهودها في خدمة الكلام الجميل كالطاووس العجيب ؛ والأحلى من صوت العندليب.
لن أمل من القراءة لهما. فعلاعملاقان يستحقان أكثر من أن نتذكرهما.