باريس – «القدس العربي»: لنفترض أن رندة الشهال لم تمت، أي فيلم ستنجز في مدينتها طرابلس؟
ليس الفقر حتماً ما سيلفت نظرها، ولا قصص المعاناة اليومية. ليست من النوع المتباكي، على الرغم من انحيازها الحاد إلى الفقراء واستنقاعهم المر. ربما ستذهب ابنة العائلة الشيوعية أبعد من هذا. ستختار شاباً يافعاً رث الثياب يطيل لحيته، ستجلسه أمام عدستها، هي التي اعتادت دوماً أن تكون وراء الكاميرا، في اشتغالها السينمائي والتلفزيوني. وتستنطقه كمحقق مغامر. ستسحب حكايات هجرته المؤقتة إلى أرض قلعة الحصن، أو القصير أو حلب، وتدفعه ليشاركها نقمته وصراخه وانكساره وخيباته المتفاقمة، وربما على طريقة ما صوره جبور الدويهي في روايته الأخيرة «حي الأمريكان»، ستعمل رندة على إحدى مرويات المدينة المفقودة، وأكثرها فجاجة وتعبيراً عن «الجو العام». وتوثقها مثل نتف الحكايات السابقة التي عملت عليها في شرائط وثائقية، هي التي وجدت نفسها في الوثائقي أكثر من العمل الروائي الطويل، رغم نجاحها في كل منهما.
لنفترض أيضاً أنها لم تغادر مدينتها الأولى، ولم تسرقها باريس وصخبها، كيف كانت ستعيش، هي صاحبة الصوت الثائر في زمن الخضوع، في مدينة مرتهنة لحيتان المال وتجار السلاح والمذهبية؟ المدينة التي حول ساستها الناس إلى متسولين أمام أبواب جمعياتهم «المذلة». المدينة التي خسرتها في ذاكرتها، حين كانت تخرج منها تظاهرات طلابية ومطلبية، ضد الغلاء وانقطاع الكهرباء والماء. حين كان الناس ينتمون إلى الأحزاب القومية والناصرية واليسارية. وحين كانت لا تزال صبية في عزها، تثور في هواء الشارع مع أصدقاء بددتهم الحياة ومشاغلها.
أين ستجلس صاحبة الشعر القصير، غير مقيدة بجندرية المجتمع وتصنيفاته، بعد أن أمست الأماكن مغلقة وخانقة، وبعد أن اختفت الأماكن الأولى؟ كيف ستجد نفسها في مدينة تراجعت من مدينة أولى إلى مدينة ثالثة. ولم يعد فيها أي يساري يسارياً، والشيوعيون كسرتهم «حركة التوحيد» ونكلت بهم.
حكاية المخرجة، المثقلة بتجربة غير عادية، لم يوثقها أحد بعد 8 سنوات من غيابها في موت باريسي هادئ، بعد معاناة مع السرطان. أتذكر حين ذهبنا إلى دفنها في مسجد طينال، كان الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه، يقف حزيناً مع أحد أطفالها، وأمامه صديقته في صندوق خشبي. راح ينظر بألم إلى باحة المسجد والمصلين الذين اكتشف بعضهم أن الجثة تعود الى مخرجة طرابلسية معروفة في الغرب. أهل المدينة يعرفون نهلة. رندة بالنسبة اليهم حالمة أكثر. ذهبت إلى مجال عمل لم يألفونه في تغيرات نسيجهم الاجتماعي الحديث، لاسيما بعد قيام لبنان الكبير، الذي انضمت إليه المدينة متأخرة.
رندة ملفوظة من حياة بيئتها الأولى، لأنها شكلت نقطة عبور لكثيرات، ومنهن المخرجة الشابة ليدا كبارة والمصورة الفوتوغرافية سميرة بارودي وغيرهما، من اللواتي اعتبرن تجاوز رندة الخط الأحمر، بمثابة بطاقة لهن للانطلاق في عالم الصورة والإخراج والفن والتجريب السينمائي، الذي كان بالنسبة لعائلات محافظة وتقليدية بمثابة خروج البنت عن أهلها.
تبلور حلم رندة في صناعة الأفلام وهي في سن الخامسة عشرة. كانت تأتي أيضاً بأفراد عائلتها وتوزع عليهم الأدوار على كنبات البيت. كانت العائلة سندها. والدها سياسي ويناضل في وجه حركات «الأسلمة» المستجدة، ووالدتها مسيحية عراقية، امتهنت العمل الإذاعي وناضلت في الحزب الشيوعي. منحت العائلة رندة حرية القرار، وانتقلت وهي في التاسعة عشرة من عمرها إلى فرنسا لدراسة السينما عام 1972. وشكلت العائلة الصغيرة بالنسبة إليها مادة أولى لفيلمها «حروبنا الطائشة». فيلم وثائقي يعبر بذاتية عن أفكارها وهو بمثابة حوار مع والدتها فيكتوريا وأختها نهلة وشقيقها تميم، أثناء الحرب، حيث يوثق في مشاهده المعارك وصوت القذائف. وكان محاولة طازجة لفهم هويتها وهوية البلد المنهوش من أباطرة الميليشيات المتنقلة.
تأُثرت رندة في بدايتها بشريط سينمائي للمخرج الإيطالي أنتونيوني «بلوو آب»، وتبرز صورة هذا التأثر في إسقاط حياة مراهقة في فيلم «متحضرات» التي تُغرم بالشاب المسلح وتدخل عالمه، أو من خلال المراهقة الأخرى في «طيارة من ورق» التي يشكل زواجها وانتقالها إلى بيئة مختلفة نقطة تحول.
تراكمت صور الحرب في أرشيف رندة فخرج منها في عام 1979 فيلمها الوثائقي «خطوة خطوة». كان سياسياً حزبياً يعبر عن موقف نضالي. ومع بداية عام 1982، دخلت رندة الشهال مرحلة جديدة. توقفت عن توثيق الحرب. وهي تمهد نفسها لمرحلة روائية مختلفة. استقرت رندة في فرنسا منذ أوائل الثمانينيات من دون أن تنقطع عن زيارة لبنان، وعثرت هناك على تمويل أفلامها ولكنها ظلت الشخصية المشاكسة التي تصنع أفلاماً مثيرة للجدل، وقد لا تعجب الغرب أيضاً، خصوصاً أنها كانت ترصد بتيقظ أي كلام عنصري بحقهم.
بعد فترة انقطاع كتبت الشهال فيلمها الروائي الأول «شاشات الرمل» عام 1986. خرج الشريط سنة 1991. وهو يحكي عن ثلاث شخصيات في بلد صحراوي، يصور علاقة امرأتين ورجل في ظل السلطتين الدينية والسياسية. خرج فيلمها الروائي الرابع «طيارة من ورق» عام 2003 من مشهد تلفزيوني لفتاة في الجولان المحتل تعبر بفستان زفافها إلى الجانب الآخر الإسرائيلي لتتزوج من ابن عمها. حاكى الفيلم خيارات الفرد في مواجهة الاحتلال. خلال السنوات الخمس الأخيرة، عاشت الشهال تجربتين: المرض وحرب تموز، وعلى الرغم من ذلك، لم تتوقف عن العمل فكانت تحضر منذ عام 2005 لفيلم بعنوان «لسوء حظهم». ولسوء حظنا وحظ مدينة مثل طرابلس افتقدنا رندة، ربما في عصر الدم، أي خط نضالي ستقف عنده رندة لو كانت حية… لنتخيل فقط.