المدوّنة

حجم الخط
0

قبلَ عشر سنواتٍ أو نحوها، أنشأَ لي صديقٌ خبيرٌ في حقل الاتّصالات «مدوّنةً» جعلْنا عنوانَ آخِر كتابٍ كان قد صدر لي اسماً لها. كان الصديق، مهندسُ الاتّصالات، صحافيّاً أيضاً أمضى ردحاً من حياته العملية محرّراً في وكالة من وكالات الصحافة العالَمية. وكان قد أنشأ لنفسه مدوّنة ظلّت، من بين المدوّنات، الوحيدة التي نشأت بيني وبينها أُلْفة. وكان قد تخيّر من قائمة العناوين في بريده الإلكتروني لا أكثرَ من عشرين اسماً راح يرسل إليهم الرابط كلّما نشر مقالةً في مدوّنته. عمليّاً كان قد عاد، وهو المتقاعد، يزاول مهنة المعلّق الصحافيّ لحسابنا وحدنا، نحن أصدقاءه العشرين. فلم يظهر من عَدّاد المتصفّحين في المدوّنة أنها تشهد حركة تصفّح يعتدّ بها تتجاوز نطاقنا نحن إخوان الصفا المنتخبين.
كان صاحبنا يمدّنا، بانتظام مدهش، بمقالة قصيرة، هي تعليق سياسي في الغالب، يبدو بجرْسِه العالي وسخريته القارصة، وكأنّه يثأر من حياد اللهجة الباردة التي كانت نصوص الرجل ملزمةً بها، ولا ريب، في سنوات عمله في الوكالة. وكان في هذا ما يشعِرُ كلّاً منّاً بمودّة واعتبارٍ خاصّين جدّاً يبذلهما له صاحب المدوّنة. فليس قليلاً أن تكون عضواً في جماعة ضئيلة العدد إلى هذا الحدّ يحصُر بها معلّقٌ محترف خلاصة رأيه كلّما استوقفه جديد في السياسة. وفي ما عدا السياسة، كان صديقنا، وهو ذوّاقة موسيقى وسينما أيضاً، يتحفنا، بين الحين والآخر، برابطٍ لعملٍ أوبرالي سامي المقام أو لفيلم من الروائع المخبّأة في الدهاليز من تاريخ السينما العالمية.
علّمني صديقي كيف أنشر نصوصي على مدوّنتي الجديدة ونشرت عليها فعلاً من المقالات ما قد لا يفوق أصابع اليد الواحدة عدداً. على أنني لم ألبث، لسببٍ ما قد يكون الاستغراق في عملٍ طويل النفَس، أن جَنَحتُ إلى نسيان المدوّنة. وقد راحَ نسياني إيّاها يطولُ إلى حدٍّ جعَلَ تفقّدها، حين كنتُ أتذكّر وجودها، بين سنة وأخرى، يقتضي منّي بعض التجوال، على غير هدىً تقريباً، في أدغال الشبكة وفَيافيها إذ كنت أكتشف أنني نسيتُ الرابط! كنت قد نسيتُ أيضاً كيف يُنقل مقالٌ بنصّه إلى المدوّنة!
والراجح أن هذا النسيان كانت علّته ضعف إقبالي، في تلك المرحلة وقبلها، على المقالة القصيرة: المقالة المشابهة، بانتسابها إلى حرفة التعليق الصحافي، لما كان مرشدي المذكور إلى عالم التدوين ينشره في مدوّنته. كنتُ أكتبُ مقالاتٍ يغلب من بينها النوع الطويل ذو الطابع الجامعي أو النَسَب البحثي ولا أزور الصحافة اليومية ولا الأسبوعية بمقالةٍ إلا لماماً. وهذا مع أنني كتبت، قبل دهرٍ، لأسبوعية تنظيم سياسي كنت في عداد أعضائه وطال ذلك سنتين وبعض سنة، ابتداءً من بزوغ سبعينيات القرن الماضي أو من عشيّتها، ولكن بلا انتظام. ثمّ كتبتُ لأسبوعية أخرى (مقالتين كلّ أسبوع!) بانتظامٍ كلّي مدّة سبعة أشهرٍ أو ثمانية بدأت مع شبوب الحرب اللبنانية وصاحبت استتباب الأمر لتلك الحرب في بيروت… إلى أن وضع حدّاً لتيّار حماستي هذا سكوتُ المجلّة إلى أبدٍ لا يزال مستمرّاً. ذاك زمن كان قد مضى وانقضى وفقدت بعدَه استعداد الصحافيّ المزاجيّ، المزكّي للانتظام الدوري في توليد المقالة. وهو استعداد لا أزالُ غير واثقٍ من تأصّلي فيه أو تأصّله فيّ حتى هذا اليوم.
فما أنا متأصّلٌ فيه، في الواقع، إنما هو المُهل الطويلة التي أقتطف منها أوقاتاً للكتابة ليست هي الأوقات المتاحة موضوعيّاً، على التعميم، بل هي الأوقات الموافقة لإقبالي النفسي، أي، على الأخصّ، لنضوج علاقتي بالموضوع… لذا أهملتُ مدوّنتي الأولى تلك. كان معظم مقالاتي، طويلها وقصيرها، قد أصبح مجموعاً في كتب. ولم يكن شاع نشر الكتب على الشبكة ولا بدت الكتب وحدها ملائمة لنوع «المدوّنة» هذا ولو صحبتها «أوراق» أو «مقالات» من الأنواع التي كنت أُعدّ معظمها إسهاماً في ندوةٍ أو في كتابٍ جماعيّ أو في عدد خاصّ من مجلّة شهرية… كان من شأن هذا كلّه أن يثمر عدداً محدوداً نسبيّاً من العناوين يتوزّع عدداً ضخماً من الصفحات. وهو ما كان من شأنه أن يكسب ظهور المدوّنة صورة الهجمة الكاسحة ثم لا تلبث أن يبدو عليها العياء إذ تصبح مضطرّة إلى انتظار يطول أسابيع أو أشهراً قبل أن يظهر فيها عنوانٌ جديد.
بديل آخر من المقالة القصيرة لم يخطر لي، في حينه، أن أعتمده مادّةً لمدوّنتي، وهو الخاطرة. وهذا مع أن المدوّنات قد تكون وُجدَت، في الأصل، لاستقبال الخواطر… أو قد يكون هذا النوع من النصوص أكثر الأنواع ملاءمةً لها، في الأقلّ. ولا أحاول تفسيراً لهذا الإهمال الذي عوّضته لاحقاً في الفيسبوك أيّما تعويض. فالواقع أن الفيسبوك أغراني، لمزيّةٍ خاصّةٍ به، بمزاولة ما سمّيته «سيرة للخاطر» أو باستيقاف «نُتَفٍ» من هذه «السيرة» بالأحرى. ومزيّة الفيسبوك، لهذه الجهة، هي أن ما قد نبذله فيه من جهد «الكتابة»، بمعنى الكتابة الاحترافي، لاستيقاف الخاطرة وإخراجها يلتقي جمهور قرّاءٍ فوريّاً. وهذا مختلف عمّا يحصل في المدوّنة التي يبدو نشر الخواطر فيها قريب الشبه بتدوينها في دفتر يوميّاتٍ سرّي أو شبه سرّي. بل إن النشر في الفيسبوك يبقى مختلفاً جدّاً حتى عن النشر في صحيفة وهذا أيضاً لجهة التأثير الذي تحدثه في النصّ فوريّة تلقّيه المنتظر من جانب جمهورٍ لا ينام!
أنشأتُ مدوّنةً إذن. فما الذي يرجوه صحافيّ متردّد (هو أنا) من اعتماد هذا الوسيط بينه وبين جمهور مفترض يبقى محتاجاُ إلى تعريف؟ وما مصير هذا الوسيط إذا انتكسَت صحافية الصحافي؟ أعود إلى هذا القبيل من الأسئلة في عجالتي المقبلة.

٭ كاتب لبناني

المدوّنة

أحمد بيضون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية