«المدينة تنتصر دائما» لعمر روبرت هاميلتون… مصر بين ثورتين

■ الثوار محاصرون بين الحكم العسكري والحكم الإسلامي، إلا أن المدينة هي الطرف الباقي. بمعنى المدينة والمجتمع المدني بعيدا عن العسكرية والإسلاموية. عنوان هذه الرواية أكبر من كون الأحداث والأبطال في مدينة القاهرة. المؤلف عُمَر روبرت هاميلتون لم أقرأ له من قبل، لكنني أعرف أنه ابن الكاتبة أهداف سويف التي كنت أشاهدها في كل أحداث الثورة في ميدان التحرير. والمؤلف كما هو واضح مصري من أب بريطاني وله فيلمان قصيران ويكتب المقالة في المجلات والصحف البريطانية وأحد مؤسسي جماعة «مصرّين» المصرية من 2011 إلى 2014.
الرواية ليست عن أيام التحرير الأولى، لكنها عما بعدها وتتصل أيام التحرير بالحديث عن بعض الشهداء. وأنا من الذين قالوا دائما إن الكتابة عن الثورات أو الأحداث الكبرى تكون أفضل بعد سنوات، حين يصبح ما مضى كأنه حلم غامض، فيبتعد الكاتب عن المباشرة التي يمكن أن تتسلل أو تفرض نفسها عليه. والمدهش أن أغلب شخوص الرواية أو الرئيسيين فيها خليل ومريم وحافظ ومالك ورانيا وروزا وغيرهم يؤسسون مجموعة إعلامية تشاركية «Chaos» تسجل الأحداث بالصور والأفلام والمقالات، ويسمونها وهي الكلمة التي تعني الفوضى لكنها أيضا توحي بالغموض أو ما قبل العمران.
تنقسم الرواية إلى ثلاثة أجزاء، والأحداث تتصاعد من بعد خلع مبارك إلى براءته من كل جرائمه في قتل الثوار. وفي كل جزء فصول قصيرة بتاريخ اليوم الذي تقع فيه الأحداث، أو ما يرويه الكاتب. فصول كثيرة يغلب عليها الطابع السينمائي في سرعتها وتقدم لك حوارات وأفكارا للأبطال بين الأحداث ورؤية لأماكن الأحداث.
تبدأ الرواية بمشهد مثير في التاسع من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2011 في المستشفى حيث ضحايا مذبحة ماسبيرو، ويستمر تتابع الأحداث يوما بيوم حتى نصل إلى أحداث رابعة العدوية وما بعدها، وما بين حين وآخر ترسل إليك الرواية تغريدة من تويتر لعلاء عبد الفتاح، أو غيره من الثوار أو أبطال الرواية تعليقا على الأحداث أو إنذارا بها. هؤلاء الأبرياء الذين كان التفاؤل هو ملمحهم الرئيسي «الانقسام لم يعد له مكان بيننا. أخيرا فنحن جميعا نستطيع أن نرى بعضنا ونتحدث إلى بعضنا ونخطط معا. أي إمبراطورية تزرع بذور فنائها وهزيمتها. إنهم فقط ينزعون «الفيشة» ونحن نصارعهم وندفن مراكزهم الشرطية في الأرض. نحن نطردهم عن مدننا فدعهم يأتون من جديد. إنهم هم الذين يخافون منا». وهو حديث يمتد إلى الثورات العربية كلها في بداياتها ولم يكن أحد يدري ما يُدَبَّر لها في الخفاء. مفردات الأحداث كثيرة جدا لا يمكن الإلمام بها في مقال، لكن بينها كثيرا ما تجد صفحات من التأمل الرائع حزنا أو أملا، كما تقرأ ما يجيش به صدر أبو باسم عن ابنه الشهيد باسم، أو غيره من آباء وأمهات وزوجات الشهداء، الذين ماتوا خلال الثمانية عشر يوما الأولى من الثورة أو بعدها.
يقول أبو باسم لخليل «كل ما نريده له هو أن يُعرَف كشهيد. ستتحقق العدالة لنا حين يتم إطلاق اسمه على هذا الشارع». وللأسف لم يتحقق هذا بل صار من يضع صور الشهداء أو يرسم جرافيتي لهم يتم حبسه. خليل من أصل فلسطيني ولد في أمريكا وأهله هناك ومن ثم لا تبتعد القضية الفلسطينية عن الأحداث وما يحدث من قتل للفلسطينيين، بل للمتعاطفين معهم مثل الناشطة الأمريكية راشيل كوري، لكن تظل الأحداث المصرية هي موضوع الرواية، وتكاد تكون يوما بيوم حتى نصل إلى انتخاب محمد مرسي، ثم ما حدث بعدها ونكون مررنا على أكثر من حكاية للشهداء، ومررنا على أكثر من جرافيتي يعلن، يسقط حكم العسكر، ومررنا بمتعة فنية وموسيقية مما سمعناه أو من حب للموسيقى وبتغريدات لعلاء عبد الفتاح، الذي تأتي حكاية القبض عليه أيام أحداث ما سبيرو، كما تأتي حكاية القبض عليه أيام مجلس الشورى بعد زوال حكم الإخوان وسط حكايات كثيرة لآخرين، أي بعد أن نتقدم في الرواية كثيرا. وتكون فاتحة عهد محمد مرسي كما فعلها هو بالإعلان الدستوري الذي منح فيه لنفسه سلطات مطلقة، وبداية الاحتجاجات من الثوار ومتاهات الاحتجاجات حول قصر الاتحادية، ومشاهد من التعذيب الذي يقوم به الإخوان للشباب وغيرهم من المحتجين داخل قصر الاتحادية نفسه، وتصاعد الأحداث المعروفة، لكن في فصول قصيرة كالعادة في الرواية سريعة الإيقاع، فالكاتب سينمائي يجعل من الأحداث مشاهد سينمائية حتى حين تنفرد الشخصية بنفسها في تأمل إنساني لا يستمر طويلا ويمكن التعبير عنه سينمائيا بلقطة كلوز على الوجه الشارد، أو هكذا أتصور. لكنني أقف عند عنوان الفصل الثاني «اليوم» بينما عنوان الفصل الأول كان «غدا» وكأنه وهو يؤكد حتمية المعركة مع الإخوان أنها ستستمر كثيرا ولن تنتهي بسهولة، في الوقت الذي جعل ما فعله العسكر في ظل الإخوان أو قبلهم سيحدث لاحقا. هكذا بدون حديث مباشر وهكذا حين نصل إلى الفصل الثالث «أمس» نكون قد عدنا إلى الدائرة الجهنمية التي كنا فيها قبل الثورة. وأحيانا لمعاصرتي للأحداث وكوني كنت حاضرا فيها أو أغلبها، كنت أضحك وأنا اقرأ حديث الإخوان عن شباب الثورة المعسكرين في خيام حول قصر الاتحادية «جبنة نستو يا معفنين». في الفصل الثالث نرى استقبال السيسي «المخلص» وهو الاستقبال العارم من النساء والناصريين وغيرهم طبعها. فهو البطل الذي ضحى بحياته ليحمل اسمك يا مصر، والذي حمى أرضنا وشرفنا الذي تفتخر مصر بكونه ابنها، فمباركة يداه ويد جيشنا و»الجيش والشعب إيد واحدة» وهو الشعار الذي رفع من قبل في بداية الثمانية عشر يوما من يناير/كانون الثاني 2011 يعود وينظف مصر من الإرهاب وغير ذلك من الشعارات التي ظهرت مع 30 يونيو/حزيران وكان الكثيرون يقولونها من قلوبهم بعد تجربة حكم الإخوان. ويخلو القسم الثالث من التسجيل اليومي لتواريخ الأيام فهو محصلة ما جرى، سواء ما بين خلع مبارك وحكم الإخوان، أو بعد حكم الإخوان. ونظل نقابل أهالي الشهداء وغيرهم حتى نصل إلى تبرئة مبارك من كل ما فعله من قتل للثوار! «المدينة تنتصر دائما» رواية جميلة انتظر صدورها مترجمة بالعربية ورحلة إنسانية وسياسية أيضا في بناء فني مبتكر، ورغم النزعة التسجيلية التي ليست جديدة، لكنها هنا تختلف في إيجازها ولا تزيد عن تاريخ اليوم أو الوقت. في الراوية يمكن أن تعرف إذا كنت معاصرا للأحداث مثلي ما وراء أسماء الشخصيات من أسماء حقيقة، لكن الفن يجعلك في بيته. في الرواية كعمل مُتَخَيَّل رغم أن كل الأحداث حقيقية، ولم أعرف قبلها رواية كتبت بلغة أجنبية عن الثورة المصرية. كل التحية للكاتب الشاب عُمَر روبرت هاميلتون.

٭ كاتب مصري

«المدينة تنتصر دائما» لعمر روبرت هاميلتون… مصر بين ثورتين

إبراهيم عبد المجيد

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية