وصف القضية الفلسطينية بأنها قبل كل شيء قضية لاجئين كان في الغالب بمثابة تجذير لها: جعل حق العودة في صلب حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني على أرضه التاريخية.
وصف المسألة السورية الراهنة بأنها قضية لاجئين يحتوي في المقابل على الشيء ونقيضه، والغالب حتى الآن ما يستفاد منه مناقضة صارخة لحق الشعب السوري في تقرير المصير، باتجاه التعامل مع نصفه المشرّد في اصقاع الأرض، في مدة من الزمان قياسية، على أنّه مادة بشرية يحتار «العالم» الذي «يستقبلها احتجازاً»، أين وكيف يضعها ويصرفها، متى يراها أو لا يراها.
فحتى لو نحينا القوالب العنصرية والكارهة للأجانب والإسلاموفوبية النافرة جانباً، وتخيّلنا «قسمة عادلة» للاجئين بين كل بلدان العالم بحسب مساحة وتعداد سكان كل بلد، فإنّ ذلك سيحلّ ككارثة وجودية على الشعب السوري. على الأقل، الشعوب التي صنفها الاتحاد السوفياتي في نهاية الحرب العالمية الثانية كشعوب رجعية وغير وطنية متعاملة مع الألمان، مثل الشيشانيين والداغستانيين والتتار والكالميك، رحّلت بمعظمها إلى سيبيريا، وعادت من سيبيريا بمعظمها بعد سنوات نكبتها تلك، في حين أنّ «التشريد المتوازن والعادل» للشعب السوري على امتداد العالم، وتحويل قضية هذا الشعب إلى معدّلات استقبال ومواساة يسمح بها كل بلد، وتزيد أو تنقص، بحسب شهادات حسن السير والسلوك الجماعية، هو مآل شديد الخطورة، كون ظروف الكوكب ومجتمعات عديدة عليه، تجعله قابلاً للنمذجة والتكرار.
القضية السورية هي قضية لاجئين اليوم داخل وخارج وطنهم، قريباً منه، في البلدان المجاورة، وبعيداً عنه. لكن، وفي حين كان طرح القضية الفلسطينية كقضية لاجئين هو تجذير لها كقضية تقرير مصير، فإن الجاري حالياً هو فصل قضية اللاجئين السورية عن قضيتي حق الشعب السوري في تقرير مصيره، وحقه في اختيار نظام الحكم الذي يريده، هذا في حين يفترض بهذه الأبعاد الثلاثة للقضية الوطنية أن تكون متواطئة مع بعضها البعض، وأن تعرف في الوقت نفسه كيف تتوافق مع الحقوق القومية للشعب الكردي، ومع الحقوق الدينية والثقافية للمسيحيين والعلويين وسائر الأقليات (والأخيرين صودر جزء غير يسير من حقوقهم هذه في العقود الماضية لأن حافظ الأسد كان يريد أيضاً أن «يضبط» الطابع العلوي لنظامه، ويسكبه في اناء بعثي – أموي)، وضرورة أن يبنبثق العقد الاجتماعي السوري الجديد على مبدأ استيعابي لكل مستويات التعددية المجتمعية وموسع لقاعدة المشاركة السياسية.
بفصلها عن كل هذا، وتحويلها إلى قضية انسانية وكونية «أكثر من اللازم»، يصير هناك على العكس من هذا، تواطؤ مع مبدأ الاختزال المزدوج للشعب السوري الذي تحرّكت على أساسه ادارة النظام للحرب الأهلية: اختزال للجغرافيا الوطنية التي تعنيه إلى «سوريا المفيدة» أي المناطق التي لا يزال يسيطر عليها أو يبتغي استرجاعها، واختزال عدد سكانها المقيمين بشكل تبديلي، على نحو نوعي وعميق، للنسب الطائفية والإثنية وانتشارها.
رغم كل ما كابدوه من النظام الاستبدادي، لم يكن السوريون في طليعة الشعوب الباحثة عن الهجرة إلى الشمال في العقود الماضية، التي شهدت في المقابل هجرة ريفية داخلية كثيفة باتجاه المدن الكبرى وضواحيها، وهجرة خارجية بسمة داخلية، إلى لبنان المجاور، للعمل أساساً في قطاع البناء المزدهر فيه بعد الحرب، وفي ظروف الوصاية النظامية السورية على لبنان.
الايحاء بأن الاستبداد الأسدي كان بمثابة السد المنيع الذي كان يكبح تدفق موجات الهجرة السورية هو ايحاء يجد في الوقت الحالي وعبر العالم أمزجة «مريضة» كثيرة تنحو اليه. زد على انه ايحاء يساق في فترة ما عاد فيها للنظام أن يؤدي وظيفته المزعومة تلك، التي لم يحتج يوماً أن يؤديها. أي كوري شمالي تتاح له فرصة اللجوء إلى كوريا الجنوبية في العقدين الماضيين كان يقدم على الخطوة. لكنها لم تكن الحال في سوريا مع انه لا تحتاج لـ»الانشقاق» كما في كوريا، ولا يعطي هذا لا «هامش انسانية تقديرية» للنظام، ولا «شهادة احتجاز الموجات البشرية غير السارة» بالنسبة إلى بلدان الشمال.
منطق الحرب الأهلية المتواصلة لخمس سنوات حتى اعلان الهدنة الهشة مؤخراً، ودون يوم وقف اطلاق نار ناجح واحد قبل ذلك، كان منطقا تفجيرياً للمجتمع السوري ومضاعفاً لمسألة تضخم أعداد اللاجئين. مع ذلك، ففي سنتها الأولى، سنة الثورة، لم تكن هذه الثورة «سكسي» و»اكزوتيك» وفي وقتها بالنسبة لشمال العالم، مع اصرار واشنطن ولندن وباريس في الوقت نفسه على تأييدها، وتمني هيلاري كلينتون على بشار الأسد أن يقودها بنفسه، قبل أن تعود فتخلص بأن عليه أن يرحل لأنه قاد الثورة المضادة لا الثورة، وقبل أن تعود فتضيف، وسائر المسؤولين بعدها، أن ذلك الرحيل العتيد سيحدث يوماً ما، عاجلاً أو آجلاً، كما لو كانت هناك أساساً معضلة لمعرفة إذا كان بشار الأسد انسانا فانيا أو لا.
وحتى في العام الثالث، يوم استخدم الأسد سلاحاً كيماوياً، ودخلت المسألة السورية حينذاك دائرة الضوء المركزي «العالمي»، فان ما انتهى اليه تصعيد باراك اوباما يومها من مسخرة تسوية تطيل عمر النظام وتأخذ منه الكيماوي، كانت مطمئنة إلى انه نظام لم يفقد رشده، وانه لا يزال عاقلاً، وان استخدامه براميل المتفجرات لا يهدّد بحد ذاته «السلام العالمي».
في أول ثلاث سنوات تدمير وذبح لم تكن عواصم القرار الغربية تتعامل مع سوريا كمسألة تستحق أن «تعولم»، وبعد اتساع الهوة بين الغرب وروسيا حيال سوريا واوكرانيا في وقت واحد، عاد الغرب وأوضح بأن الخلاف حول سوريا، بخلاف الخلاف حول اوكرانيا وضم القرم، لا يفسد للود قضية، وبالعكس، يمكن تقييم الدور الروسي في سوريا من الآن فصاعداً بالقطعة.
تجاوز تنظيم «الدولة» للحدود الوطنية، لبناء كيانية ترابية فراتية يفرض فيها «هندسته الاجتماعية الارتجالية»، كان وحده الكفيل لتركيز الاضاءة باتجاه سوريا مجدداً. لكن هذه المرة ليس على سوريا بحد ذاتها، بل على مسألة «داعش». فكانت الحرب الجوية الكونية على الجماعة الزرقاوية «المعدّلة استخلافياً»، التي تميزت قبل ذلك عن تنظيم القاعدة التي كانت تتبع له بشيئين: استئصالية دموية مطلقة حيال الشيعة، وعدم الاهتمام بتنفيذ عمليات خارج النطاق العراقي للقتال.
ليس صحيحاً ان «داعش» قبل الحرب الجوية الفاقدة لشروطها عليها كانت هي نفسها بعدها، لا في مناطق كيانيتها الترابية «الكانسة للحدود الاستعمارية أو الوطنية» (الكلمتان بالنسبة لـ»داعش» مترادفتان)، ولا في خارطة جزائرها عبر العالم.
في لحظة معينة، بدت «داعش» تستأثر بـ»مركز المتابعة العالمي» على حساب المسألة السورية، لكن حين تبين أن الحرب الجوية البلهاء حولت «داعش» إلى عدو أكثر خطورة و»سكسي» و»اكزوتيك» بامتياز، كان التحول: التحول من زاوية الرعب، الإسلاموفوبي بالنهاية، من التداخل «الكيميائي» الممكن بين مسألة تدفق اللاجئين وبين صعود «داعش».
القضية السورية هي قضية لاجئين. تركوا مناطقهم بسبب إرهاب النظام ومن طغيان داعش ومن الحرب بحد ذاتها ومن دمار المجتمع وشروط العيش. لكن تسطيرها هكذا لا يكفي: هي قضية أخطر من ذلك، وتتصل بقابلية عدد غير قليل من مجتمعات المعمورة لأن يحدث فيها نزيف دموي واسع النطاق في فترة قياسية، عندما يلتقي سلبها حق شعبها في تقرير مصيرها، مع سلب هذا الشعب حقه في اختيار نظام الحكم الذي يريد.
٭ كاتب لبناني
وسام سعادة