«المسألة الشرقية»

حجم الخط
0

في دفْق الكتب التي لا تزال تواكب الذكرى المئوية لنشوب الحرب العالمية الأولى، وقعتُ، قبل مدّة، على واحدٍ أرى في قراءته «تغريبةً» نتعلّم منها، نحن الشرقيين، أشياء كثيرة عظيمة الأهمّية ممّا يتعلّق بتشكّل الموقع الذي نحتلّه اليوم من العالم، وقد ارتسمت معالمه الكبرى في مدى القرون الثلاثة الماضية.
ذاك كتاب المؤرّخ الفرنسي المعروف جاك فريمو «المسألة الشرقية» وقد صدر عن دار «فايار» الباريسية سنة 2014. وهو ـ على ما هو ظاهرٌ من عنوانه ـ لا يتّخذ الحرب العالمية الأولى موضوعاً رئيساً له ولكن هذه الحرب تقع موقع المفصل الرئيس من المرحلة المديدة التي يتناولها إذ تغيّر في غدواتها تشكيل المنطقة الشاسعة التي تمثّل مدار ما يسمّى «المسألة الشرقية» تغيّراً يعدّ فاصلاً وإن يكن غير مبتوت الصلة بموازين ما قبل الحرب.
يباشر فريمو رحلته الطويلة من مدخلٍ بعيد جدّاً، هو تحوّل معنى قسمة العالم القديم إلى شرق وغرب، بين عهدي هوميروس والإسكندر الأكبر. على أنه يعيّن منطلق ما يسمّيه «المسألة الشرقية» في أواسط القرن الثامن عشر أي، على التخصيص، في الحرب التي أعلنها السلطان العثماني مصطفى الثالث في سنة 1768 على صاحبة العرش الروسي كاترين الثانية. وهذه مرحلةٌ أولى تنتهي مع انهيار العهد النابليوني في أوروبا في سنة 1815. وإذا كانت أوائل هذه المرحلة قد شهدت هزيمةً عثمانية قاصمة، أمام الزحف الروسي، على الرغم من الدعم الفرنسي للعثمانيين، فإن آخرها أخرج فرنسا إلى حين من الصراع، وافتتح عهداً من التنازع الروسي البريطاني على الشرق الذي كان يبدأ في البلقان في تلك الأيام وترسم أهمّ معالمه الجغراسية طريق الهند وضرورات حمايتها في البرّ وفي البحر…
هذا الشرق الكبير الذي يجول في آفاقه كتاب فريمو لا تختصر «مسألته» الدولة العثمانية على ما قد يزيَّن للعربي الذي كانت بلاده ملحقةً بهذه الدولة أن يعتقد. وإنما هو مشكّل، عند تبلّر «المسألة الشرقية»، من ثلاث إمبراطوريات تاريخية متمايزة الملامح هي العثمانية والفارسية والمغولية (وقد زالت هذه الأخيرة في وسط القرن التاسع عشر). ولكن لا يبدو مجرى العلاقات بين هذه القوى موضوعاً متصدّراً للمسألة الشرقية. فهذه الأخيرة مسألة أوروبية تستدرج إلى الصراع هذه أو تلك من الدول الخمس التي كانت قد أصبحت غالبة على أوروبا في القرن التاسع عشر، خصوصاً منها روسيا ذات المطامح المتّصلة بالبلقان وبآسيا الصغرى والقوقاز ووسط آسيا وبالبحار الدافئة.
وبريطانيا ذات المصالح المواجهة لهذه الأطماع الروسية بحكم هيمنتها على الهند، بالدرجة الأولى، وعنايتها بأمن الطريق (أو الطرق) إليها.
هذا الصراع، بأفقه الجغراسي الشاسع، هو ما رسم، على الخصوص، معالم «اللعبة الكبرى»: وهذا هو الاسم الذي أطلق منذ سنة 1820 على تنازع روسيا وبريطانيا مناطق السيطرة في آسيا الوسطى وعلى تخوم الهند. وهو الصراع الذي بقيت الدولة العثمانية تتوسّطه مضطرّة وتستقبل على أراضيها بعضاً من أهمّ فصوله بحكم هيمنتها على شرق أوروبا وعلى الشرق العربي. ولعلّ أبرز هذه الفصول، في القرن التاسع عشر، حرب القرم وهي، بأطرافها وبأحجام ما ضلع فيها من قوىً، نوعٌ من الحرب العالمية، في الواقع، ولكنّها دارت في رقعة من الأرض محدودةٍ نسبياً لتنتهي إلى تأكيدٍ للتصدّر البريطاني بين قوى المرحلة وفي التنازع الذي راح يزداد احتداماً على ممتلكات الدولة العثمانية خصوصاً. وكانت الخشية بالغةً من أن يفضي زوال الدولة العثمانية إلى حربٍ بين الورثة الأوروبيين المحتملين لا تبقي ولا تذَر. وكان السلوك البريطاني، في هذه «المسألة» يضع الخشية المذكورة في حسبانه.
تلك هي المحطّات التي شهدت ترسّخ هذا المفهوم: مفهوم «المسألة الشرقية» وقرينه مفهوم «اللعبة الكبرى». وليس لنا، في هذه العجالة، أن نمضي قدماً في عرض الشريط الحدثي الذي ينسجه كتاب فريمو. فهذا الكتاب الضخم الذي يبدأ حيث أشرنا يصل بنا إلى سنوات «الربيع العربي» الذي لا نزال نعاين (أو نعاني) مخاضه. هو يصل إلى هنا ـ بعد ما ذكرنا ـ عبر أطوار الصراع الروسي البريطاني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وعبر أدوار أوروبية أخرى في «المسألة الشرقية» (فرنسية، ألمانية…) أخذت تتنامى أو عادت إلى التنامي، وعبر الحرب العالمية الأولى (التي يراها «حرب إمبراطوريات») وما جاء في ركابها من تغيير شرقي وغربي، ثم عبر الحرب العالمية الثانية وما تبعها من حرب باردة ومن تحوّل في أوضاع البلدان التابعة أو المستعمرة، فإلى انهيار القوّة السوفييتية مع حرب أفغانستان وإلى حروب الخليج التي أعقبت الثورة الإيرانية، إلخ.، إلخ.
في تناوله هذا كلّه، يوسّع فريمو كثيراً ما صدقَ «المسألة الشرقية»… ولكن ميزة هذا الكتاب ليست مَدَّه تاريخ هذه المسألة من وسط القرن الثامن عشر إلى أيّامنا. وإنما هي موسوعيّته وتمكّنه. فهو لا يخلّف وجهاً من وجوه هذه المسألة لا يرسم ملامحه بدقّة وجزالة معرفة. لا ريب أن الوجه الجغراسي يبقى الأهمّ. وهو وجه تعلن ملامحه تغليب الطرق والتضاريس والموارد الطبيعية، أي أوصاف البلدان والمناطق على أوصاف الشعوب. أي أن هذا «العلم»، في ظرف نشأته، «علم» مكرّس لحاجات الغزاة المتغلّبين. ولعلّ مردّ هذا المنحى، فيما يتصل بـ»المسألة الشرقية» إلى كون القوى الأوروبية التي وضعت تصوّر المسألة المذكورة كانت ترى، قبل كلّ شيءٍ، في هذه الأصقاع، طرقاً بحريّة وبريّة للتجارة وللعسكر ومؤنه وتضاريس وموارد متّصلة بالتجارة والحرب وموازين قوى متنوّعة النطاق، إلخ. لذا نحتاج إلى كثير من المعرفة الجغرافية: الطبيعية والبشرية والاقتصادية، لقراءة كتاب فريمو ونتعلّم منه كثيراً من هذا كلّه أيضاً.
ولكن السياسة والحرب والتجارة وما جرى هذا المجرى لا تستنفد عمل فريمو. فالرجل واسع الإلمام بالاستشراق، الذي هو وجه من وجوه المسألة: من أدب الرحلات إلى الأعمال الفنية والأدبية إلى الحصائل العلمية إلى عمل إدوارد سعيد ونقده. يبقى أمرٌ يصحّ أن يؤخذ على فريمو وهو ما يبدو من ضعف معرفته بما يقابل الاستشراق: أي بتعبير شعوب الشرق أو جماعاته عن معاناتها «المسألة الشرقية» ومواجهتها لأطرافها الأوروبيين. هذا الضعف يبرزه خلوّ لائحة المراجع في الكتاب من مصادر شرقية باستثناء القليل المترجم أو الموضوع بلغة أوروبية. معنى هذا، في نهاية المطاف، أن هذه «المسألة الشرقية»، حين يطرح سؤال «الذات» التي تعيّن لها هويّتها، إنما هي ـ مرةً أخرى ـ مسألةٌ أوروبية أصلاً وفصلاً.
يمتّ إلى هذه الهوية بصلةٍ ظهورُ الهويّات الضعيف في الكتاب. وهو ضعف قد يكون سببه (أو يعزّزه) المنظور الجغراسي الغالب. فمع أن موازين السكّان تبدو موضوع عناية ولا يخلو العرض من ذكر القبائل والطوائف والأعراق (وهي الوحدات التي يبدو الشرق البشري متشكّلاً منها) فإننا نتعلّم أن القوميّات الكبرى التي اعتدنا البحث عن أصولٍ تاريخية راسخة لها هي، في الواقع، تكاوين ملتبسة، تأخّر ظهورها على مسارح الصراع إلى زمن قريب إلينا ويبقى أثرها في المواجهات التاريخية، قبل ذلك، موضوعاً مشْكلاً. ذاك شيء لا يمكن قوله عن الهويّة الدينية التي يتناول فريمو أطرافاً من حديثها وهو حديثٌ طويل…
مهما يكن من شيءٍ، يستحقّ هذا الكتاب الصعب القراءة أن يقرأه من يعرف الفرنسية من «الشرقيين» ويستحقّ ـ لا ريبَ ـ أن يُنقل إلى العربية.

٭ كاتب لبناني

«المسألة الشرقية»

أحمد بيضون

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية