الحديثَ في قضية (نقد النقد) برؤية معرفية سوسيولوجية، يوجب بالضرورة النزوع نحو مستوى آخر من أساليب تحليل الخطاب، بمعنى أنه لا بد من الانتقال من مستويين سابقين، هما مستوى (النص الأدبي)، ومستوى (النص النقدي) إلى مستوى ثالث مغاير في الرؤى والمفاهيم والتصورات والإدراك، أي العمل على تفكيك الأخير ـــ النص النقدي ــ ثم الوصول من خلاله ليس للإبداع الأدبي والجمالي الدال عليه فقط، بل للمعرفة السوسيولوجية والإنسانية، التي تَمَثلها من وعيين سابقين ــ وعي الأديب ووعي الناقد ــ انطلاقا من مقولات أو أدوات قارة، تسهم في بنية المستوى الثالث للعملــــية الإجرائية للإبداع ممثلا في (نص نقد النقد)، ولعلنا إذا استعرنا مصطلح رولان بارت (لغة اللغة)، فإنه سيكون دالا على ما نبتغيه هنا، فالمستوى الثالث يمثل اللغة النقدية القادرة على تفكيك لغة نقدية سابقة، وليس اللغة النقدية الناشئة على أديم اللغة الأدبية فقط، فما هي مقولات/أدوات المستوى الثالث؟ وكيف تتمظهر المعرفة السوسيولوجية فيها؟
أستفهمُ وأقولُ ثم أؤكد على مصطلحي (مقولات /أدوات) في حقل نقد النقد، لما لهذا الحقل من كيان معرفي ومبادئ ثابتة، يمكن أنْ تعين المعني به على إنجاز ما يروم إليه، بأسلوب علمي رصين، ولكي نحددَ المقولات والأدوات المستفهم عنها، يجب أولا تحديد عوامل مساعدة أساسية ومهمة للبدء بالعملية الإجرائية مثل معرفة (الرؤية العامة)، وهي تدور في إطار النقد الأدبي، ثم الانطلاق من أسس ومبادئ (الموضوع المدروس) وهو المعرفة السوسيولوجية والأيديولوجية وآليات استثمارها في تحليل النص، ثم الركون إلى (المصطلحات النقدية) الدالة على الموضوع المدروس، ضمن التجارب النقدية التي أخذتْ على عاتقها مبدأ نقد النقد برؤية سوسيولوجية، اعتمادا على أسس ثابتة مثل (الارتباط الفكري للمنهج) وفق التحولات من مرحلة ما قبل الحداثة إلى مرحلة ما بعد الحداثة، وكذلك (وعي الناقد) الذي انطلق منه لتحليل النص الأدبي المدروس، بحثا عن أساس معرفي معقول، ثم (طبيعة النص الأدبي) المدروس أصلا في المستوى الأول من العملية جميعا؛ لهذا تحتاج دراسةُ المستوى الثالث التمسكَ بثلاثة اتجاهات هي (اتجاه الميتاـ نص) أي الاتجاه المتعلق بما وراء النص النقدي نفسه، من تداخلات مع نصوص أخرى، فضلا عن التجاور الذي يمكن أنْ يلمس عند النقاد المدروسين (العينات) في اللغة؛ عندما يتجاور أسلوبان لغويان أحدهما نقدي ظاهر والآخر سوسيولوجي يقبع خلف الأفكار النقدية، ولكليهما مصطلحات دالة على ما يبتغيه، و(اتجاه التفكيك) أي الاتجاه الذي يعمل على هدم لا بناء التجارب النقدية المنقودة بسبب تنظيرها أو إجرائها ضمن المنهج السوسيولوجي.
وبهذا فهو مرتبط بالضرورة بالموضـــــوع المدروس وما فيه من مكونات وعناصر وعلاقات معروفة في النقد الاجتماعي للأدب، ثم (اتجاه الهيمنة الأسلوبية) أي الاتجـــاه الدال على أفكار الناقد وأسلوبه ورؤيته للعالم، أو وعيه، كما أشرت إليه سابقا، من خلال اجتراحاته ومصطلحاته الخاصة، وأدواته التنظيرية والإجرائية، وأنساقه الفكرية من حيث موردها وأصل نشأتها غربيا أو عربيا.
وحقيقة الأمر أنه لأجل تحقيق تناغم جيد أثناء دراسة النماذج النقدية المختارة، يجب العمل على ما سبق مرة واحدة، أعني العوامل المساعدة والأسس والاتجاهات معا، من دون التجزئة أو الإشارة المباشرة؛ لكيلا يتحول الأمر إلى عملية ميكانيكية تفقد النص النقدي المدروس إبداعه وجماليات تحليله للأفكار والآراء، ولكي تنماز عملية نقد النماذج النقدية ذات الرؤية السوسيولوجية، بسمة الانسيابية والمرونة كونها، عملية نقد النقد، تتغذى على مستويات سابقة، هي المستوى الأدبي أولا ثم المستوى النقدي ثانيا كما بينتُ، ولتظهر مستوى فكريا ومعرفيا قائما بذاته، لما يتاح لها من إمكانيات فاحصة لقراءات سابقة؛ ثم العمل على تفصيلها والمعارضة بينها ثم رصد الرؤى والمواقف للوصول إلى منهج إجرائي علمي في التعامل مع الظاهرة الإبداعية، وبهذا يتحقق ما ذهب إليه الناقد نبيل سليمان من أن «النص الأدبي المنقود هو المتن الأول، وأن نقد النص الأدبي هو المتن الثاني، وأن نقد النقد هو المتن الثالث».
إذن يحتفظ مستوى الخطاب في نقد النقد بخصوصية، كونه لغة ثالثة تتمثل رؤيتين معرفيتين للعالم، تمتاز الأولى ببعدها الخيالي، والثانية ببعدها الفكري، فتنبــع هذه الخصـــوصية من المواءمة بينهما، بما يوجه الخطاب نحو إنتاج معرفة خاصة بالإبداع، وهنا لا بد من الإشارة مرة أخرى إلى مسألة الأدبي والسوسيولوجي، بوصفها محورا أساسا للاســـتفهام الثاني المقـــدم في صــدر هذه المقـــالة، وهي مســألة تتحدد بمنطلـــق التداخل الجمـــالي بين صيغتي الإنتاج الأدبي والنقدي معا، في ظروف سوسيو/ ثقافـــية تفرضها العملية الإبداعـــية ضمـــن صلتها بالمجتمع، لذلك يمكن التعبير عن العلاقة المعقدة بين الأطراف الثلاثــــة لعملـــية نقد النقد، (النص الأدبي) و(النص النقدي) و(نص نقد النقد)، من خلال علاقتها بالبنية السوسيولوجية، بأنها صيغة إنتاج دينامية للإبداع، بين ثلاث مراحل من الوعي التجريبي للكتابة، الكتابة الأدبية والكتابة النقدية والكتابة الميتانقدية، وفق مستويات وأنساق وسياقات متداخلة ضمن بوتقة سوسيوثقافية قارة ومحددة.
ومما تجدر الإشارة إليه أيضا، مرة أخرى، أن البنية السوسيولوجية في علاقتها بالمستوى الثالث (نقد النقد)، تكون متغيرة حسب وعي الناقد ورؤيته المعرفية، فقد يجدها بعض النقاد ممثلة لتداخل مباشر بين المنظومتين الإبداعية والأيديولوجية، ويجدها آخرون إفرازا طبيعيا للنص نفسه ؛ الأدبي منه والنقدي على أساس أن الجمالية الشكلية والمكونات والعناصر الداخلية، أيديولوجية ثانية مضادة للأيديولوجية الخارجية (اجتماعية وسياسية واقتصادية)، لذا يمكن ملاحظة ثلاثة أساليب لإدراك العلاقة سوسيولوجيا في نقد النقد (الأسلوب الأول) يتمثل بجانب التصريح المباشر والتعلق بماهية الشكل والمضمون، وهو النموذج الطاغي عند نقاد ما قبل الحداثة، أما (الأسلوب الثاني) فيتمثل بالمماثلة بين بنيتين، جمالية وسوسيولوجية، ويمثل هذا الأسلوب نقاد الحداثة ممن تبنوا المنهج البنيوي التكويني، ويحاول (الأسلوب الثالث) الانفتاح على طروحات أكثر انجذابا لجماليات النص، وقضايا ما بعد البنيوية مثل: النقد الحواري والانفتاح السوسيو ــ نصي والتأويل والسيمياء والتلقي وغيرها، ويمثل هذا المستوى نقاد ما بعد الحداثة الذين يعون السوسيولوجي بوصفه خفيا ضمن التركيب البنيوي، وبهذا تتحدد العلاقة الدينامية بين وعي النص النقدي، وصيغة الإنتاج بوصفه منظومة جمالية، تقترب بشكل أو آخر من ضفاف الواقع بأسلوب خاص له معالمه وعناصر تشكيله.
٭ ناقد وأكاديمي عراقي
خالد علي ياس