.. قد لا أجانب الصواب إذا قلت إنّ الدربَ الذي أفضى بتونس إلى رحاب الحرية، لم يكن من السهل عبوره كي نصلَ جميعا إلى ضفة السلم والسلام، حيث ظلال الحرية المبتغاة، ونسائم الديمقراطية المشتهاة، لو لم يكن مفروشا بالدم والدموع.. دماء أولئك الشهداء الذين اتخذوا قرارا يهون دونه الموت: إما الحياة بحرية.. أو الاستشهاد بعزّة وشموخ.. ولا منزلة أخرى بين المنزلتين.
إلا أنّ المشهد السياسي التونسي بدا في الأسابيع الأخيرة، مرتبكا وأجواؤه تشي بوجود أزمات اجتماعية وسياسية، إلى درجة دفعت الأمين العام لاتحاد الشغل حسين العباسي، إلى الحديث عن احتمال إعلان «ثورة ثانية»، لاسيما وأنّ نسق الاحتجاجات تصاعد بشكل بات يهدّد مسار الثورة. وهذا يعني في مجمله أنّ تحديات كبيرة واستحقاقات أكبر ينبغي على- حكومة الصيد- التعامل معها بحكمة، خصوصاً في ما يتعلّق بالملف الاقتصادي، وكذا الملف الأمني، وعلى رأسه موضوع الإرهاب وتداعياته الدراماتيكية على الاستقرار السياسي المنشود.
هذه الملفات الشائكة تستدعي وعيا عميقا بجسامتها ومقاربة شاملة تبحث في الأسباب وتستخلص النتائج عبر رؤية ثاقبة، وهو ما يقتضي نمطاً من التوافق الضروري بين القوى المختلفة، إذا أرادت الحكومة التونسية أن تحقّق استقراراً ونجاحاً ممكناً في إدارة ملفات المرحلة المقبلة. كما أنّ رئيس البلاد «سي الباجي» مطالب بدوره بالانحياز الى الفقراء والمعدومين، وتعزيز قيم العمل والعدالة الاجتماعية وتوفير فرص العمل للعاطلين، وأن يعمل أولاً وقبل كل شيءعلى استعادة وحدة الشعب، والتصرّف بوصفه رئيساً لكل التونسيين، وليس لناخبيه فحسب، وأن يتحرّر قدر الإمكان من الأجندات الحزبية الضيّقة، والخروج من ضيق الخطاب الانتخابي إلى رحابة الخطاب الوطني الجامع.
ما أريد أن أقول.. إنّ تونس اليوم في حاجة إلى تكاتف كافة مكونات المجتمع المدني وكل القوى السياسية لتثبيت أركان الجمهورية الثانية، ومن ثم إنجاز مشروع مجتمعي طموح ينأى بالبلاد والعباد عن مستنقعات الفتن، الإثارة المسمومة والانفلات الذي يتناقض مع قيم العدالة والحرية، وهذا يستدعي منا جميعا هبّة وعي تكون سدا منيعا أمام كافة المخاطر التي تهدّدنا وتسعى إلى تحويلنا إلى نماذج مرعبة ومخيفة لما يجري في العراق وسوريا وليبيا.
أقول تونس اليوم دولة وسلطة ومؤسسات، أمام امتحان جديد على درب الديمقراطية، وما على الفاعلين في المشهد السياسي التونسي إلا القطع مع- النهم المصلحي والانتفاعي- المسيطر عليهم ومن ثم تخطي الطور الانتقالي الجاري بنجاح، ووضع المساطر المناسبة لبنية مجتمعهم السياسية والحزبية، من دون إغفال تطلعات مجتمعهم والشروط العامة التي تؤطرها، تطبيقا لشروط والتزامات وقيم الممارسة الديمقراطية السليمة والسلوك الحضاري القويم..
لقد استكمل المسار الانتقالي دورته ببراعة واقتدار، وخرجت تونس من طورالمؤقت، إلى مرحلة المؤسسات الدائمة، يحدونا أمل في بناء ديمقراطيتنا واستدامتها.. وما علينا والحال هذه، إلا استنفار كافة قوانا ومن ثم التمترس خلف خط الدفاع الأول عن مكاسب ثورتنا المجيدة، كي نبني مؤسساتنا الديمقراطية المنتخبة، ونمضي بخطى ثابتة نحو تشييد صرح جمهوريتنا الثانية في اطار الهدوء والمحافظة على وحدتنا الوطنية والاجتماعية.
أقول هذا، لأنّ تونس- أيقونة الربيع العربي- تحتاج منا جميعا في المرحلة المقبلة، إلى الاستقرار كي تهضم مكاسبها الديمقراطية، التي أنجزتها في زمن متخم بالمصاعب والمتاعب.. أنجزتها بخفقات القلوب ونور الأعين.. وبدماء شهداء ما هادنوا الدهرَ يوما. وهنا أضيف، أنّ حكومة- الصيد – كما أسلفت- أمام تحدّي إقناع التونسيين بأدائها، فالخطاب الإعلامي للحكومة ضعيف ويتم بنسق بطيء في مرحلة حرجة، لا تقبل التسويف أو التواصل المتقطع بين صاحب القرار من جهة، والمتلقي، وهو المواطن الواقف على الجمر، من جهة ثانية. مع ذلك، فإن معضلة الحكومة لا تقف عند إشكالية التواصل مع الرأي العام، وإنما أيضاً في ضرورة اتخاذ إجراءات أكثر جرأة في عديد القطاعات الحيوية. من جهة ثانية، فإن ارتفاع نسق الإضرابات والاعتصامات، خصوصاً في القطاعات الاستراتيجية، سيُضعف الاقتصاد ويربك عملية إنتاج الثورة. وقد شعر الكثير من التونسيين بالخطر عندما كشفت المصادر الرسمية عن أن نسبة النمو قد انخفضت خلال الثلاثية الأخيرة من السنة الجارية 2015، إلى حدود 1.7 في المئة. ويعود ذلك إلى موجة الإضرابات من جهة، وإلى انهيار قيمة العمل بشكل غير مسبوق، من جهة ثانية. وعندما يصاب اقتصاد ما بهاتين العلتين لن تقوم له قائمة، خصوصاً أن كبريات المؤسسات المالية الدولية، وفي مقدمتها البنك الدولي، رفعت سقف ضغوطها على تونس من أجل دفعها نحو إنجاز «الإصلاحات» المطلوبة خلال الأشهر المتبقية من هذه السنة، لأنه في حال عدم إنجاز ذلك، فإن المساعدات المالية قد تتوقف، ونية الاستثمار في تونس قد تزداد انكماشاً.
في هذا السياق أكد رئيس الحكومة الحبيب الصيد خلال جلسة مساءلة للحكومة في مجلس نواب الشعب يوم الجمعة 5 يونيو 2015 حضرها 151 نائبا من جملة 217 أنّ حكومته قد واجهت خلال فترة الـ100 يوم من عملها ظرفا أمنيا واقتصاديا واجتماعيا صعبا زادت من دقته الأحداث الطارئة وتفاقم موجة الإضرابات، لافتا إلى أنّ حكومته كانت واعية بحجم التراكمات.
وأوضح الحبيب الصيد أنّ خطر الإرهاب والوضع الاقتصادي والمالي المتردي، ظهرت تجلياته في تراجع نسبة النمو، وظهور الاقتصاد الموازي الذي يكلف الدولة وفق تقديره خسائر سنوية تناهز المليار دينار، متعهدا في السياق ذاته بالتصدي لجميع المخططات التي تستهدف الوطن والنمط المجتمعي..
لقد دارت المعركة الانتخابية الأخيرة، التشريعية والرئاسية، حول إشكالية «هيبة الدولة»، وكان صاحب هذه الدعوة «سي الباجي قايد السبسي» الذي فاز هو وفاز معه حزبه. مع ذلك، لم تستعد الدولة عافيتها، حيث استمر التنازع بينها وبين الفئات والمناطق المحرومة والمهمشة. هذه الحكومة التي تدير شؤون البلاد حالياً يقودها ائتلاف أوسع من الحكومة السابقة، بأربعة أحزاب، في مقدمتها «نداء تونس»و»حركة النهضة»، لكن صوت هذه الأحزاب جميعاً لم يصل إلى عنوانه الصحيح، أقصد المواطنين..
على هذا الأساس فهي تحتاج (حكومة الصيد) إلى نفس جديد. كما أنها أيضا في أشدّ الحاجة لرؤية أكثر وضوحاً ولدعم سياسي من قبل معظم الأطراف، إلى جانب التوصل إلى هدنة اجتماعية مع النقابات تجنبها الوصول – كما ذكرنا- إلى ما سماه الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، حسين العباسي، بـ»ثورة ثانية»..
كاتب صحافي وعضو في اتحاد الكتّاب التونسيين
محمد المحسن
حفظ الله تونس من شر الفتن …المطالب الفئوية الضيقة سبب البلاء وأصل الداء فعندما يضرب الأطباء ويتركون المرضى يقاسون ويضرب المعلمون والأساتدة مستخفين بمصير ملاين التلاميد ويضرب القضاة والأمنيون ويضرب أعوان النقل تاركين المواطنين للعداب …وغيرهم من مختلف القطاعات يصبح التخوف على مصير الوطن جديا وحارقا …تحياتي للكاتب المبدع دوما