المشهد من البرج… الاستشراقي!

حجم الخط
0

طريف، ولكنه في الآن ذاته هامّ وعميق، كتاب تيودور زولكوفسكي «المشهد من البرج: أصول صورة مضادة للحداثة»، الذي عمدت دار نشر جامعة برنستون إلى إصدار طبعة جديدة منه، قبل أسابيع، ضمن سلسلة تتوخى تلبية حاجة القارىء إلى أعمال نقدية تميّزت في طبعتها الأولى (1998)، وتوجّب إعادة وضعها على رفوف المكتبات. طرافة الكتاب تنبثق من هذه الزاوية الخاصة التي ينطلق منها: لماذا لجأ عدد من كبار مبدعي ومفكّري أوروبا وأمريكا إلى برج ما، ذات برهة فاصلة، فأطلوا منه على العالم؟ وهل الأمر، كما يظنّ المؤلف، ويناقش بالفعل في الكتاب، مرتبط على نحو أو آخر بالبرج، في مفهوماته ودلالاته ورموزه وإحالاته ومجازاته منذ زيقورات بلاد ما بين النهرين، وحتى ناطحات السحاب المعاصرة، ليس دون التوقف عند «الأبراج العاجية» دون سواها؟
ولكن، في بعض جوانب عمق الكتاب، ما الآثار التي خلّفها ذلك الاعتزال في البرج، على مذاهب الحداثة في القرن العشرين، وربما حتى الساعة؟ وما المحاسن والمساوىء، إذا كان في عداد هؤلاء «المعتزلة» أناس من أمثال الشاعر الإرلندي وليام بتلر ييتس (برج الكبرياء، حسب زولكوفسكي)، والشاعر الأمريكي روبنسون جيفرز (برج ما وراء الزمن)، والشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه (برج الرغبة)، وعالم النفس السويسري كارل غوستاف يونغ (برج أغوار النفس)؟ ولماذا، في تأويل مضمون العنوان الفرعي للكتاب، كان قاطنو تلك الأبراج على خصام مع بعض كبار حداثيي العصر، من أمثال إزرا باوند وت. س. إليوت وجيمس جويس وفرجينيا وولف؟
ثمة، إلى هذا، برج من طراز آخر لا يحتسبه زولكوفسكي، حول واحد من الأربعة على الأقلّ، هو ريلكه؛ وأعني ذلك البرج المتخيَّل، الاستشراقي في الجوهر، الذي صعد إليه الشاعر الألماني بعد رحلته إلى الجزائر وتونس ومصر، خريف 1910 ـ 1911. ولا يملك كتّاب سيرة ريلكه أيّ مؤشّرات قاطعة حول الدافع، أو الدوافع، التي جعلته يقوم بتلك الرحلة، المفاجئة واليتيمة، لكننا نعرف أنه كان يعيش أزمة كتابة، أو احتباس كتابة في الواقع، بعد أن أصابه العمل على واحد من أفضل آثاره، «هوامش مالته لوريدز بريغه»، بالإنهاك الشديد. ونعرف أيضاً أنّ رحلة صديقه النحّات الفرنسي أوغست رودان إلى مصر، سنة 1907، حرّكت أشواقه إلى القيام بتجربة مماثلة، كما نعرف، أخيراً، أنّ زوجته كلارا بعثت إليه بنسخة من ترجمة «ألف ليلة وليلة»، فشدّته مناخاتها الشرقية.
وهكذا، في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1910، وبفضل منحة مالية من جيني أولتيرسدورف، وكانت امرأة ثرية متزوجة من تاجر فراء، غادر ريلكه ميناء مرسيليا الفرنسي متوجهاً إلى شمال أفريقيا ومصر، أو «إلى الشرق، حيث ينبغي توسيع الحلم»، كما سيكتب بعدئذ. ولأنه كان يعاني من احتباس الشعر، فقد قرّر أنّ رحلة إلى الشرق يمكن أن تكون العلاج الذي يعيد الحيوية إلى نفسه المضطربة، من جانب أوّل، ويمكن، من جانب ثانٍ، أن تكون «وثبة روحية نحو المجهول الفاتن» الذي أخذ الشرق يمثّله في وجدانه. وفي كلّ حال كان ريلكه على يقين، غامض تماماً في الواقع (كما يُستشفّ من مراسلاته مع أندريه جيد حول المشروع)، من أنّ استكشاف الشرق سوف يشكّل نقلة نوعية في حياته الشخصية والإبداعية على حدّ سواء.
والرحلة، كما سوف يتضح بعدئذ، رفعت الكثير من معنوياته الهابطة، وأعادت إليه توقه الدائم للملذّات وللحياة إجمالاً، لكنها، عملياً، لم تحرّك فيه شهوة الكتابة، وبدا وكأنها لم تكن في نهاية الأمر أكثر من فصل استيهامي آخر بين الفصول الإيروتيكية التي استهوته في «ألف ليلة وليلة». وزاد في الأمر أنّ الرحلة انطوت على علاقة غرامية ملتهبة لن يُكشف النقاب عن تفاصيلها أبداً، ما خلا حديثه الغامض، بعد خمس عشرة سنة، عن حزمة رسائل من «صديقة غامضة»، اضطرّ إلى إحراقها بعد أن أرعبه ما تحتويه سطورها من «نيران الشبق العارم».
وكان فولفغانغ ليبمان، أحد كتّاب سيرة ريلكه، قد اعتبر مشاهدات ريلكه (حول أسواق القيروان، مثلاً) تعاطفاً مع الثقافة الإسلامية، وعلى هذا المنوال سارت المستشرقة الألمانية آنماري شيميل أيضاً؛ في حين أنّ الرحلة إلى ثلاثة بلدان عربية لم تستحثّ قصيدة واحدة، وكانت بالتالي أقرب إلى خلوة عابرة، في برج.
تماماً على غرار ما يصف زولكوفسكي؛ ولكن أدنى عمقاً، بكثير!

صبحي حديدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية