المغامرة

حجم الخط
3

فتحت عينيها بتثاقل على وخزة الألم في مفاصِلها؛ الألمِ الذي بات يُداهمها في الصّباحات نظرت نحو السّاعة، فشعرت بانقباض، ما زال الوقتُ مبكّراً، يومٌ طويلٌ ممّلٌ كبقيّة أيّامها، وبصعوبةٍ قامت لتجلسَ على طرف السّرير، وأطرقت لبعضِ الوقت، ثمَّ مدّت يدها إلى مذياعها العتيق الرّابضِ قربَها منذ سنوات، فوصلتها بعضُ الأخبار السّياسية التي زادت من انقباضِها، فبدأت تغيّر وتُبدّلُ بين المحطّات، حتى استوقفها صوتٌ نسائيّ جميل، لتسمعَها تقول: «التّقدّمُ في العمر قرار، نحنُ الذين نقرّرُ الاستسلام للشّيخوخة، نحن هنا نكبرُ قبل أواننا، في حين نرى المسنّين في دولٍ أخرى يسافرون عبر القارّات ويستمتعون بأوقاتِهم، فيما تبقّى لهم من عمر، عزيزتي المستمعة، أخرجي للنّور والشّمسِ والهواء، ردّدي لذاتكِ كلَّ صباح أنّك ما زلتِ شابّة وقوّية وجميلة، وستكتشفين كيف أنّكِ ستصبحين كذلك!
«رفعت نظرَها نحو النّافذة القريبة متطّلعةً نحو السّماء الصّافية الزّرقاء الممتدّة، فشعرت بالطّاقة تمورُ في أوصالِها فجأة، فنهضت، فاغتسلت وتناولت فطورَها وأدويتها، ثمَّ ارتدت ثوباً بلونِ البحرِ ساعة الشّروق، وألقت على كتفيها شالاً بلونِ الورد، وشدّت قامتها بعنفوان، ووقفت ساهمةً عند الباب، إلى أين؟ وماذا ستفعل؟ فقرّرت دفعَ فاتورة المياه التي وصلتها مؤخّراً، وشراء بعض الأغراض وخرجت!
وفيما كانت تهمُّ بقطعِ الشّارع؛ فوجئت باقتراب شابٍ من جيرانها لتجدَه يمسك يَدها برفق، ويقودَها نحوَ الجهة المقابلة، فشكرته بموّدة، ومشت باستمتاع حتى وصلت إلى مؤسّسة المياه، حيثُ وجدت بضعَ درجاتٍ تقودها نحو قسم المحاسبة، وفي الّلحظةِ التي همّت فيها بالصّعود؛ سمعت صوتَ أحدِهم يقول: «المصعد قريب يا خالة» ولم يكتفِ بذلك بل رافقها نحوَه بحرص حتى استقرَّ في الطّابق الأرضيّ، شكرتُه بامتنان، ووقفت في الطّابور أمامَ المحاسب، لتجدَ أحدهم يقومُ من مقعدِه ويدعوها للجلوس بتهذيبٍ شديد إلى أن يأتيَ دورُها.
أنهت المهمّةَ أخيراً، لتتوجّه إلى أحدِ المتاجر القريبة، وتبتاعَ غرضيْن صغيرين، ثمَّ ليصرَّ الصّبيُ العاملُ هناك على حملِ الكيس عنها، وسؤالِها إن كانت بحاجةٍ إلى سيّارة أجرة، فوافقت على مضض، ومع صعودِها إلى المركبة، مدّت له يدَها بإكراميّة، فاعتذرَ عن أخذها وهو يبتسمُ لها بحنوّ!
عند أحد مقاهي الرّصيف، نزلت لتدخلَ وتتخذَّ لها مقعداً هناك، كانت سعيدةً بحركةِ النّاس حولها، وبصخبِ الشّارع، وبالموسيقى المرحة المنبعثة في أروقةِ المكان، وفيما كانت تستمعُ بارتشافِ القهوة؛ مرّت سيّارةٌ فيها امرأتان تعرفهما، فلوّحت لهما بيدها لتفاجأ بإحداهنَّ تنظرُ نحوها بذهولٍ تامّ، في حين بدرت من الأخرى ابتسامةٌ ذات مغزى لم تفهمه هي!
غادرت المكان، ووصلت إلى بيتها وقد غمرها قنوطٌ وإحباط وهي تشعرُ بالآلامِ إيّاها قد داهمتها بضراوةٍ أشد، وأمضت أمسيتَها وهي تقاومُ إحساساً ما بالنّدمِ على المغامرة غير المحسوبة، ثمَّ لتسأل نفسّها بحيْرة إن كان كلُّ هؤلاء النّاسِ الطّيبين الذين صادفتهم ذلك اليوم قد اجتمعوا سرّاً في مكانٍ خفيّ الّليلةِ الماضية، ليقرّروا بالإجماع تذكيرَها بضعفها وعجزِها وبشيخوختِها؟
آوت إلى فراشِها أخيراً، وبعد طول بحثٍ وتفكير؛ قرّرت أن تُعيد الكرّةَ وتخرجَ صباحاً من جديد إلى إحدى الحدائق العامّة، أو تحضرَ أحدَ الأفلام الرّومانسيّة في إحدى دور السّينما مساءً!
ونامت وهي تدعو الله من كلِّ قلبِها ألا تصادفَ أيّاً منهم في اليوم التّالي!

٭ كاتبة أردنية ووزيرة سابقة

المغامرة

لانا مامكغ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول صديق:

    الملل من جديد …

  2. يقول نزار حسين راشد"شاعر وناقد":

    اللهم إني أعوذ بك من غفلة القلب عن ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وخاصة في الشيخوخة فهي أسوأ انواع المعصية

  3. يقول hend mohammad:

    احيانا شغلة صغيرة بتفائلنا فجأة وبتنشطنا لنعمل كتير اشيا وعند اول موقف مش بالحسبان بروح كل هالطاقة والنشاط كأنهم مزيفين وهون بتكمن معضلة ازا نحنا فعلا صادقين مع حالنا وفعلا بدنا نغير حالنا للاحسن او لا ب اي موضوع كان سواء العمر متل م زكرتي حضرتك بالمقال سواء بالشغل او بالدراسة والى آخره ،وغالبا بهيك مواقف م بنكون اصحاب قرار وبنكون جبناء بأننا نتصالح مع كل موقف صعب لنكمل فرحتنا ونشاطنا لاخر اليوم عالاقل ،نحنا بنكزب ع حالنا او بنخدع حالنا ، كل شي بس بالنهاية نحنا كزابين

إشترك في قائمتنا البريدية