باريس ـ «القدس العربي»: في عام 1962، أغلق كل من المخرجيْن الفرنسي فرانسوا تروفو والبريطاني ألفرد هيتشكوك الباب عليهما في مكتب الأخير، في استديوهات يونيفيرسال في هوليوود، وتحدّثا عن السينما لمدّة أسبوع.
في عام 1966 نشر تروفو الحوار في كتاب خاص، وكان في حينها مخرجاً أنجز ثلاثة أفلام، أبرزت اسمه كواحد من مؤسسي «الموجة الجديدة» في السينما الفرنسية، وكان كذلك ناقداً سينمائياً في مجلة «دفاتر السينما» الفرنسية الشهيرة.
أمّا هيتشكوك فكان أحد أهم المخرجين عالمياً في حينه وكان ينهي فيلمه الطويل الثامن والأربعين الرّائع فيلم «الطيور».
وأتى اللقاء ومن بعده الكتاب ليكون مادّة نظريّة يطرح من خلالها هيتشكوك رؤيته للسينما مفصّلاً، من خلال أجوبته على أسئلة تروفو، في كل فيلم له على حدة، إضافة إلى المواضيع السينمائية العامة. واليوم يُعدّ الكتاب من لوازم المعرفة السينمائية، صناعةً ونقداً.
اليوم، لن يكتفي محبّو السينما، أو السينيفيليّون، بالكتاب بعدما تمّ إنتاج فيلم يأخذ مادته منه، يحكي عنه، ويتمّم ما بدأه بعد حوالي نصف قرن من صدوره، فيكون الفيلم قراءة حديثة للكتاب، للحوارات النظرية والتطبيقيّة فيه.
فالفيلم «هيتشكوك/تروفو»، الذي أخرجه كِنت جونز، والذي افتتح عروضه في مهرجان كان هذا العام، ثمّ عُرض في مهرجان تورونتو، يُبنى على الكتاب ويقدّم قراءة له من خلال مشاركات مخرجين معاصرين كمارتين سكورسيز ودافيد فينشر وويس أندرسون وآخرين، يحكون فيه عمّا عناه ويعنيه الكتاب لهم، وعن قراءتهم الخاصة له ولأسلوب هيتشكوك السينمائي.
وإن كانت أفلام كهذه لا تُعرض في الصالات، وهو حال فيلم آخر عُرض في مهرجان كان ذاته هو «إنغريد بيرغمان، بكلماتها الخاصة»، فقد عرضتها قناة arte الثقافية والمشاركة في إنتاج الفيلمين. وإن كان من حسن الحظ أن القناة تعرض أفلاماً كهذه عبر القناة التلفزيونية وموقعها الإلكتروني، إلا أنها تسحبها من التداول بعد ذلك بأيام، فلا تُتاح بعد ذلك بغير الاستئجار أو الشراء.
عودة إلى «هيتشكوك/تروفو»، فالحوار بين مخرجيْن تُعد بعض أفلامهما اليوم من بين أهم ما تم إنتاجه في تاريخ السينما، لم يقدّم طرحاً لأسلوب هيتشكوك السينمائي فحسب، بل لعموم العمل السينمائي، بشكل نظري مقرون بأعمال هيتشكوك نفسه كأمثلة، مساهماً بذلك في تدعيم «نظريّة المؤلّف» التي تعزو الفيلم إلى مخرجه حين يكون، غالباً، كاتب نصّه، كعمل خاص له، كما يكون الكتاب العمل الخاص بمؤلّفه.
بذلك كان للحوار/ الكتاب مساهمته الأساسية، للمكانة السينمائية لكل من طرفيْه وتحديداً هيتشكوك، في نقل مركز الثقل في السينما من «الصناعة» إلى «الفن»، أو من ملكية شركة الإنتاج للفيلم إلى ملكية المخرج له، والحديث هنا عن الفيلم كعمل فني وليس كمنتج ترفيهي.
لعلّ من بين ما أعطى للحوار نكهة وقيمة كان التباين بين الاثنين، من دون أن يكون ذلك تنافسياً، فهيتشكوك، حاله كحال جان رينوار وروبيرتو روسيليني وآخرين، كان معلّماً في السينما بالنسبة لتروفو. وكان لفارق العمر بينهما (تروفو 30 عاماً وهيتشكوك 67 عاماً) ولفارق اللغة السينمائية والخلفية الثقافية والمعرفية تأثيرها في إضفاء تنويع وحيويّة في الحوار. وساعد ذلك تروفو على طرح قراءة مغايرة لأعمال هيتشكوك، أي طرحها كأعمال فنية بقيمة عالية، في وقت كانت هوليوود تنظر إليها كأعمال ترفيهية بقيمة عالية.
الفيلم الذي يتناول كلّ ذلك، مُضافة إليه لقطات وصور أرشيفية، ومقاطع مسموعة كون اللقاء تمّ تسجيله، إضافة إلى مَشاهد من أفلام هيتشكوك تُرفق بما قاله عنها في اللقاء، وطبعاً المشاركات العشر لأسماء مكرّسة في السينما، تتناول اللقاء وأعمال هيتشكوك من ناحية جمالية وتقنية وروائية، كل ذلك يجعل من الفيلم إعادة قراءة معاصرة لأعمال هيتشكوك، وتالياً محفّزاً على إعادة مشاهدتها أو مشاهدتها للمرة الأولى.
وإن كان الكتاب يقدّم نَص اللقاء بينهما، مع صور للقاء، فإن الفيلم بالمقاطع الصوتية التي يحويها (واللقاء كله متوفر على الإنترنت بلغة فرنسية وإنكليزية) أعطى للنص حياة من خلال ضحكات الاثنيْن ونبراتهما وتردّدهما والأسلوب الذي يسأل به تروفو ويجيب به هيتشكوك.
في عام 1979، قبل سنة من وفاة هيتشكوك، وفي معهد الفيلم الأمريكي، قال تروفو في كلمته: «تحترمونه لأنه يصوّر مشاهد الحب كما لو كانت مشاهد جريمة، أما نحن فنحترمه لأنه يصوّر مشاهد الجريمة كما لو كانت مشاهد حب».
أمّا أحد مكامن العبقرية لدى هيتشكوك فهو أن يحظى بالاحترام لدى محبّي السينما في بلديْن متباينيْن ثقافياً وتحديداً، لسببيْن متعاكسيْن تماماً.
سليم البيك